كورونا في مختبر الفلاسفة والأدباء
إعداد وتقديم: سعيد الباز
انبرى العديد من المفكرين إلى تناول حدث وباء فيروس كورونا بالقراءة والتحليل واستشراف تأثيراته على مستقبل الإنسانية. المفكر والفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري، الذي يقدم نفسه مفكرا مستقلا ينتمي إلى فلسفة ما بعد الحداثة، والأسبق إلى الحديث عن انحطاط وانهيار الحضارة المسيحية اليهودية، وجد في فيروس كورونا، الذي أطاح بأكبر الدول الأوروبية وأبان عن عجزها وغياب روح التضامن بينها، الدليل على صدق رؤيته. جاك أطالي، الفيلسوف والاقتصادي والمستشار السياسي للرئيس الراحل فرانسوا ميتران، دأب في الفترة الأخيرة على نشر مقالات ذات بعد مستقبلي في مدونته التي تشهد متابعة كبيرة. حادث الوباء، بالنسبة لجاك أطالي، حلقة من حلقات التطور عرفها تاريخ الإنسان خلال الأوبئة السابقة، حيث في كل مرة تتم إعادة النظر في النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي.
الفيلسوف والمفكر السلوفيني سلافوي جيجيك، ذو الشعبية الكبيرة في أوروبا بسبب روح الدعابة لديه وغرابة أطواره، يمزج بين الماركسية والهيجيلية والتحليل النفسي على طريقة جاك لاكان ولا يخفي شيوعيته، رأى في وباء فيروس كورونا ما يؤكد بشكل عملي نهاية النظام الرأسمالي بحسب ما ذكره في مقالاته وكتابه «كوفيد 19» الصادر أخيرا.
الكاتب والطبيب المصري أحمد خالد توفيق، المشهور بروايات الرعب والفانتازيا، كان من المدهش بعد وفاته العثور على مقال له يعود إلى سنة 2014 يصف فيه بطريقة ساخرة لا تخلو من نقد اجتماعي وسياسي، وتفاصيل دقيقة لم تكن معروفة حينها، دخول الفيروس إلى مصر.
ميشيل أونفري: أوروبا نَمِرٌ من ورق
سؤال: أوّلا، كيف تختبر هذا الحجر الصحي؟
ميشيل أونفري: لن أشتكي شخصياً. أنا واحد من أولئك الذين يمكنهم اختيار مكان حبسهم… كان عليّ أن أقضي شهر ديسمبر في المارتينيك مثل كل عام منذ السكتة الدماغية التي خلاف ذلك أدفع ثمنها صداعاً نصفياً يوميا مع برد الشتاء النورماندي. أنا أعيش في نورماندي. لكنّي كسرت الشظية قبل يوم من المغادرة. في ذلك الوقت، أجّلت رحلتي إلى… مارس! هذا هو المكان الذي ضمّني فيه الحجر الصحي! لكنني عدت إلى فرنسا يوم الثلاثاء 24 مارس لمشاركة الحياة العامة للشعب الفرنسي. أنا عادة ما أكون مستقراً: الوحدة والهدوء والصمت، العزلة لا تؤثر عليّ. أواصل العمل بنفس الوتيرة…
سؤال: هل الحجر الصحي طريقة لإعادة التواصل مع العالم والكون؟
ميشيل أونفري: بالنسبة لأولئك الذين نسوا ذلك، نعم. لكني أنا ابن عامل زراعي، عشت طفولتي وشبابي في ريف نورماندي، لم أنسها… من ناحية أخرى، كل أولئك الذين يعيشون بتواضع في أقفاص الأرانب في المدن والأحياء، ولسوء الحظ، لن تتاح لهم الفرصة لطرح هذه الأسئلة الوجودية… سيكون هذا الحجر الصحي لهم بمثابة تجربة الحياة في قفص في حدائق الحيوانات.
سؤال: هل تعتقد أنّ العالم، مع هذه الأزمة الصحية العالمية، قد شهد للتوّ نوعا من الانحطاط، لاسيما مع انغلاق الشعوب والأمم على نفسها؟ ميشيل أونفري: لقد شهد عالمنا للتوّ الوحي بأننا نعيش في نهاية الحضارة. هذه أوروبا التي قدمها مناصروها على أنّها وحش سياسي يقاتل على قدم المساواة مع القوى الكونية الكبرى، بانت في الواقع، نمراً من ورق لا تستطيع حتى إنتاج أقنعة ورقية بكميات لحماية طاقم التمريض الذين هم على اتصال مع المرضى والمحتضرين وحتى الموتى.
سؤال: تقوم في نهجك الفلسفي بعمل عالم الأنساب، هل تعتقد أنّ هذه الحلقة الجديدة والحاسمة في تاريخ البشرية ترجع إلى «دكتاتورية الرأسمالية»، باستخدام مصطلحاتك؟
ميشيل أونفري: لم تكن الرأسمالية تريد الوباء، لكنها تديره ببرمجياتها: الحجر الصحي يثقل على الفقراء المتواضعين والمحرومين، أولئك الذين يعيشون في بضعة أمتار مربعة. ولا يعاقب الأقوياء الذين، على العكس من ذلك، يجدونها فرصة لأخذ استراحة في ممتلكاتهم المحصورة بالفعل، المحمية من الفقراء، يواصلون قيادة العالم: هذا هو عملهم عن بعد…
سؤال: الغرب تقريباً على ركبتيه. هل تعتقد أن هذه الحرب التي لا يرى فيها العدو يمكن أن تبطحه على الأرض؟
ميشيل أونفري: تتجاهل الرأسمالية تقسيمات الغرب والشرق فهي لا تعرف سوى سوق كوكبي كبير واحد. لكن الغرب سيدفع بالفعل نصيبه. وأكثر من سيدفع أعلى فاتورة هم الفقراء: الحرفيون والتجار وأصحاب الفنادق الصغيرة وأصحاب المطاعم والعمال والموظفون. لا أرى كيف يمكن للمصرفيين وشركات التأمين ووكلاء العقارات والمحاسبين وأخصائيي الضرائب، ولكن أيضًا الصحفيين، والسياسيين وأصدقائهم، أن يدفعوا نصيبهم. ما لم يطالب به الفقراء. وهذا لا يستبعد عندما تأتي نهاية هذا الطاعون.
جاك أطالي.. من الكاهن إلى الشرطيّ فالطبيب
اليوم، ليس هناك ما هو أكثر إلحاحاً من السيطرة على أمواج تسونامي الصحية والاقتصادية التي تكتسح العالم. ليس هناك ما يضمن النجاح. وإذا فشلنا ستنتظرنا سنوات مظلمة للغاية. الأسوأ غير مؤكد ولرفضه علينا أن ننظر بعيدا، للماضي وللمستقبل، لنفهم ما يدور هنا: أدى كل وباء كبير في الألف سنة الماضية إلى تغييرات أساسية في التنظيم السياسي للأمم، وفي الثقافة التي تكمن وراء هذا التنظيم. على سبيل المثال، وبدون الرغبة في تسطيح التاريخ، يمكننا القول إنّ الطاعون العظيم في القرن الرابع عشر، الذي نعرف أنه خفض سكان أوروبا بنسبة الثلث، ساهم في التساؤل الراديكالي، في القارة العجوز، عن المكان السياسي للمتدينين، وأدى لإنشاء الشرطة، باعتبارها الشكل الفعال الوحيد لحماية حياة الناس.
وُلدت الدولة الحديثة وكذلك الروح العلمية، كنتائج وموجات صدمة لهذه المأساة الصحية الهائلة. وتشير كلاهما في الواقع إلى المصدر نفسه: مسائلة السلطة الدينية والسياسية للكنيسة غير القادرة على إنقاذ الأرواح وحتّى إعطاء معنى للموت. وهنا تمّ استبدال الكاهن بالشرطيّ وينطبق الشيء نفسه على نهاية القرن الثامن عشر، عندما حلّ الطبيب محل الشرطيّ باعتباره أفضل حصن ضدّ الموت. لذلك انتقلنا خلال بضعة قرون من سلطة قائمة على الإيمان، إلى سلطة قائمة على احترام القوة، ومن ثمّ إلى سلطة أكثر فعالية، قائمة على احترام سيادة القانون. يمكن أن نأخذ أمثلة أخرى ونرى أنّه في كلّ مرة تدمر جائحة قارة، فإنّها تدمر أيضا نظام المعتقدات والسيطرة، الذي فشل في منع موت عدد لا يحصى من الناس، وينتقم الناجون من أسيادهم، ممّا يقطع العلاقة مع السلطة.
اليوم، إذا أثبتت السلطات القائمة في الغرب أنها غير قادرة على السيطرة على المأساة التي بدأت، فإن نظام السلطة بأكمله، وجميع أسس السلطة الإيديولوجية سوف تكون موضع شك، فقط ليتم استبدالها بعد فترة مظلمة، من خلال نموذج جديد قائم على سلطة أخرى، والثقة في نظام قيم آخر. وبعبارة أخرى، يمكن أن ينهار نظام السلطة القائم على حماية الحقوق الفردية ومعه الآليتان اللتان وضعهما: السوق والديمقراطية. كلتا الطريقتين لإدارة تقاسم الموارد النادرة، مع احترام حقوق الأفراد. إذا فشلت الأنظمة الغربية فلن نرى فقط أنظمة المراقبة الاستبدادية بشكل فعّال للغاية باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، ولكن أيضا أنظمة تخصيص الموارد الاستبدادية. كما أنّه يبدأ في الأماكن الأقل استعدادا والأكثر غرابة، ففي منهاتن أمس لم يسمح لأحد بشراء أكثر من عبوتي أرز!. لحسن الحظ، درس آخر من هذه الأزمات هو أنّ الرغبة في الحياة هي الأقوى دائما. وذلك في النهاية، يقلب البشر كل ما يمنعهم من الاستمتاع باللحظات النادرة أثناء مرورهم على الأرض. أيضا، عندما يتلاشى الوباء، سنرى ولادة شرعية جديدة للسلطة، بعد لحظة من التساؤل العميق للسلطة، مرحلة من الانحدار السلطوي في محاولة للحفاظ على سلاسل السلطة في مكانها، ومرحلة الإغاثة الجبانة. سلطة جديدة، لن تقوم على الإيمان ولا على القوة ولا على العقل، وبلا شك ليس على المال وعلى الصورة الرمزية للعقل. ستنتمي السلطة السياسية إلى أولئك الذين يمكنهم إظهار التعاطف الأكبر مع الآخرين. وستكون القطاعات الاقتصادية السائدة هي التعاطف في مجال الصحة… والغذاء والتعليم والبيئة. من خلال الاعتماد بالطبع على الشبكات الكبيرة لإنتاج وتداول الطاقة والمعلومات اللازمة في أيّ حال. وسنتوقف بشكل محموم عن شراء الأشياء غير الضرورية ونعود إلى الأساسيات، وهي الاستفادة القصوى من وقتنا على هذا الكوكب، والذي تعلمنا أن ندرك أنّه نادر وثمين. دورنا هو جعل هذا الانتقال سلسا قدر الإمكان، وليس حقلا من الأنقاض. وكلما أسرعنا في تنفيذ هذه الاستراتيجية زادت سرعة خروجنا من هذا الوباء والأزمة الاقتصادية الرهيبة التي ستلي ذلك.
ت: رياض هودلي
سلافوي جيجيك.. انتكاسة إلى بربريةٍ بوجه إنساني
أجد نفسي مؤخراً راغباً بالإصابة بالفيروس، سأتخلّص وقتها على الأقل من حالة الارتياب المنهكة التي أعيشها. علاقتي بالنوم تشكّل هي الأخرى علامة واضحة على قلقي المتزايد. قبل حوالي أسبوع، كنت أنتظر المساء بلهفة: وأخيراً! بوسعي الهرب إلى عالم الأحلام وترك كل مخاوف حياتي اليومية خلفي. والآن، على العكس تماماً، أخشى النوم لأن الكوابيس تلاحقني ليلاً وتوقظني مذعوراً، كوابيس عن الواقع الذي ينتظرني. عن أيّ واقع أتكلم؟ نسمع كثيرا هذه الأيام عن أمس الحاجة لتغيّرات جذرية، في حال أردنا حقا التعامل مع تبعات الوباء الحالي (وأنا من الذين يروجون لذلك) إلّا أن تغييرات جذرية تحدث بالفعل. يواجهنا فيروس «كورونا» اليوم بما اعتبرناه مستحيلا: لم نكن لنتخيّل أبدا هذا الانقلاب الذي شهدته حياتنا اليومية. توقف العالم الذي عرفناه عن الدوران، بلدان بالكامل، وكثيرون منّا محتجزون في منازلهم (عدا عن أولئك المحرومين حتّى من هذا الحدّ الأدنى من الوقاية). نجد أنفسنا في مواجهة مستقبل غامض، وحتّى في حال نجاة معظمنا، ستبقى الأزمة الاقتصادية الهائلة تلوح في الأفق. كلّ هذا يعني أنّ ردّ فعلنا يجب أن يحقق المستحيل هو الآخر: ما يبدو غير ممكن ضمن إحداثيات النظام العالمي الحالي. المستحيل قد حدث بالفعل، وعالمنا توقف عن الدوران، والمستحيل هو بالضبط ما علينا تحقيقه لتفادي الأسوأ: ما هو الأسوأ؟ لا أعتقد أنّ التهديد الأكبر بانتكاسة إلى بربرية صريحة أو صراع وحشي على البقاء بما يرافقه من اضطرابات عامة، بالرغم من إمكانية حصول شيء شبيه في حالة انهيار النظام الصحي وغيره من الخدمات العامة. ما أخشاه أكثر من الوحشية الصريحة هو البربرية بوجه إنساني: إجراءات قاسية لحفظ البقاء، تطبّق بشيء من الأسف وحتّى التعاطف، ولكنها تستمد شرعيتها من آراء الخبراء. يمكن لمراقب يقظٍ أن يلحظ بسهولة تبدّل نبرة من هم في السلطة أثناء مخاطبتهم لنا: لا يحاولون فقط إظهار الهدوء والثقة، وإنما يتفوّهون باستمرار بتنبؤات مرعبة: من الوارد استمرار أزمة الوباء لعامين… حاصداً ملايين الأرواح. باختصار، رسالتهم الحقيقية هي وجوب بتر وتقليص الفرضية الأساسية لأخلاقنا الاجتماعية: رعاية المسنين والضعفاء (أعلنت إيطاليا فعلاً عن إمكانية حرمان المصابين بأمراض عضال، والمسنين الذين تجاوزوا الثمانين، من الرعاية الصحية في حال تفاقم الوضع، أي سيُتركون ببساطة للموت). يمكننا ملاحظة كيف ينتهك قبول منطق «البقاء للأقوى» المذكور أبسط مبادئ الأخلاق العسكرية، والتي تنصّ، بعد المعركة، على وجوب معالجة المصابين بجروح خطيرة أولاً، حتى لو كانت فرص نجاتهم ضئيلة (إلا أن نظرة أقرب تقلّص المفاجأة، فلطالما تصرّفت المستشفيات بالطريقة ذاتها مع مرضى السرطان). لتجنب سوء الفهم أنا واقعي تماما هنا عوضاً عن التوفير والاقتصاد، يجب أن يكون هدفنا الأول تقديم المساعدة غير المشروطة للمحتاجين لضمان نجاتهم، وبغض النظر عن التكاليف. إلا أن الوضع أكثر غموضاً بكثير: إنها تقوم بتوحيدهم أيضاً! ترك مسافة أمان، والبُعد الجسدي، هو أيضاً نوعٌ من إبداء الاحترام للآخرين، فقد أكون أنا نفسي حاملاً للفيروس. يتجنّب ولديَّ لقائي هذه الأيام، لخشيتهما إصابتي بالعدوى فالمرض قد يكون عابرا في حالتهما ومميتا في حالتي. نسمع مؤخراً مراراً وتكراراً أن كلّ فرد منا مسؤولٌ شخصياً، ويتوجب عليه التقيّد بالقوانين والقواعد الجديدة. وتعجّ وسائل الإعلام بأخبار عن أناس أساؤوا التصرّف، وعرّضوا أنفسهم والآخرين للخطر. المشكلة هنا شبيهة بتناول وسائل الإعلام للقضايا البيئية من منظار المسؤولية الفردية… والتركيز على المسؤولية الفردية، بالرغم من أهميتها، تتحوّل إلى إيديولوجيا بمجرّد أن تشرع في التعتيم وتوجيه الاهتمام بعيداً عن السؤال الكبير حول كيفية تغيير النظام الاقتصادي والاجتماعي. لا يمكن خوض المعركة ضد كورونا إلا يداً بيد مع النضال ضد التهويمات الإيديولوجية، وباعتبار هذه المعركة جزءاً لا يتجزأ من النضال البيئي الأوسع.
أحمد خالد توفيق.. وفاة فيروس
لا أشعر أن مشكلة فيروس كورونا خطيرة لهذا الحد إذا وصل إلى مصر… والسبب سأشرحه حالاً..
عندما وصل الكورونا إلى مصر كان يحمل هذا الاسم المخيف MERS-CO ومعناه (المتلازمة التنفسية الخاصة بالشرق الأوسط الناجمة عن فيروس كورونا). هبط من الطائرة وهو يتحسس شاربه في ثقة كما يفعل مستر اكس في الأفلام… غدًا سوف يغزو البلاد وسوف تمتلئ عنابر المستشفيات. هل تذكر الـسارس SARS الذى ارتجفنا من هوله منذ أعوام، والذى فتك بمكتشفه الطبيب الإيطالى كارلو أوربانى؟ إن فيروس سارس هو أخو فيروس الكورونا مع اختلاف بسيط. بل إنه يتذكر أوبئة الإنفلونزا الشهيرة. وباء 1917 مثلاً الذي لم يترك مخلوقًا على ظهر الأرض إلا وأصابه، وقد دفنت قرى كاملة تحت الثلوج بعد ما مات كل أهلها…
كان فيروس الكورونا يأمل أن يكرر هذه الأمجاد عندما وصل إلى مصر، خاصة أن الكثافة السكانية العالية والتكدس يسمحان له بالبقاء والتكاثر للأبد..
من البداية كانت العملية صعبة. إنّ عبور الطريق بالنسبة لفيروس مسالم عملية شبه مستحيلة وسط أزمة المرور المستعصية والميكروباصات المجنونة، وعندما حاول أن يستعمل أحد سائقي السيارات كوعاء فإنه فوجئ بأن السيارات لا تتحرك بتاتًا… هذا موقف سيارات كبير بحجم مدينة..
لاحظ أشياء عديدة في جسم من حاول أن يصيبهم… هناك الكثير جدًا من دخان العادم ودخان السجائر ودخان الشيشة والغاز المسيل للدموع… هؤلاء القوم يتنفسون دخانًا لا هواء، والجو ملوث بشكل لا يوصف… لقد أصيب الفيروس بالربو ولم يعد يستطيع التقاط أنفاسه… يحتاج لجلسة استنشاق…
عندما حاول أن يتسرّب إلى دم هؤلاء، وجد أنّهم يعانون فقر الدم بشكل أو آخر… هذا دم لا يسمح بتكاثر فيروس مكتمل العافية مفعم بالفحولة. هناك نسبة عالية من مادة «ترامادول» كذلك… وهذا جعله يترنح وبدأ يصيح: «اخص عا الصرصار اللي في الملوخية!». كان في حالة غريبة من الصهللة والرغبة في إحداث صخب وإزعاج… ما لا يعرفه أن هذا «ترامادول» صيني مغشوش مما يمسح المخ مسحًا… أي أنّ المخدرات القاتلة يتمّ غشها بمواد أكثر فتكا… !
فوجئ بفيروس آخر من أسرة RNA يمسك به… يأخذه مقص حرامية ثم يطعنه بمطواة قرن الغزال في وجهه، ويطالبه بأن يدفع إتاوة أو أرضية… عندما تتسلل لكبد يعبث فيه الفيروس (سي) فعليك أن تحمي نفسك. فيروس (سي) موجود هنا منذ زمن، ويشكّل أعلى نسبة له في العالم، وقد تعلّم أن يتكيف مع كلّ شيء، وتعلم أساليب البلطجة والفتونة. عليك أن تدفع له ثمن تواجدك هنا وإلا فلتبحث عن مكان آخر تعمل فيه. هناك أقاويل عن جهاز سوف يتخلص من هذا الفيروس ومعه الإيدز وسواهما ويحولهم لصباع كفتة يتغذى به المريض، وهذا يفترض أن وزن الفيروس 5 كيلوجرام مشفّى… لكن الكورونا ليس مؤهلاً لفهم هذه التفاصيل العلمية على كل حال…
لقد تعلم الكورونا أشياء كثيرة في مصر، منها أن الملاريا فيروس… كان يعتقد أن الملاريا حيوان وحيد الخلية وهذا يتعلمه أيّ طفل في الصف الثاني الإعدادي، لكنه اكتشف أن هذا غير صحيح كما قال مبتكر جهاز التشخيص… الملاريا فيروس مثله، ولعله يكتشف في ما بعد أنّه –أعني الكورونا– ذكر بط.
حاول أن يحتمي في أعلى الجهاز الهضمي، لكنه فوجئ بكميات من اللبن المخلوط بالسيراميك واللحم منتهي الصلاحية، والزيتون الأسود المطلي بالورنيش، والجبن المحفوظ بالفورمالين. ثم غرق في بركة من ماء المجاري العطن… عرف أنّها مياه معدنية ابتاعها صاحب الجسد ليشرب ماء نقيًا، غير عالم أنها مملوءة من الحنفية…
فجأة ساد حرّ رهيب، وارتفعت الحرارة إلى حد غير مسبوق… بعد هذا أدرك الفيروس البائس أن الأمر يتكرر خمس مرات يوميًا… الحرارة 42 مئوية والكهرباء تنقطع لخفض الأحمال فلا مراوح ولا أجهزة تكييف. هذه مشكلة لم يجد أحد حلها وتبادلت كل الحكومات الاتهامات بشأنها… قيل إنّها بسبب نقص الغاز أو عطل في المحولات أو مؤامرة أو لعبة سياسية… لا أحد يفهم وبالتالي لا أحد يعرف كيف يحل المشكلة… المهم أن الفيروس لا يستطيع أن يتحمل هذه الظروف…
تسلّل إلى دورة مياه عمومية فراح يفرغ أحشاءه من القرف… المنظر لا يوصف والرائحة ألعن… مشى للباب مترنحًا لكن الرؤى تداخلت، وبدأت أشياء تكبر وتصغر أمام عينه وظهرت بقعة سوداء في مركز الرؤية…
بعد قليل عرف أن وعيه ينسحب… الحياة تتسرب منه… سقط… لقد قضت مصر على الفيروس…
كما ترى أنا مطمئن… هذا الفيروس الرقيق الواهن سوف يصاب بالتسمم ويموت، فلا مكان له في مصر… لا داعي للقلق.
عن كتاب: شربة الحاج داود
وفاة فيروس ص 15
سنة 2014