إعداد: محمد اليوبي – النعمان اليعلاوي
طيلة فترة الطوارئ الصحية توقفت عجلت الاقتصاد الوطني، ووجدت ملايين الأسر المغربية نفسها بدون مدخول يوفر لها لقمة العيش، ووجدت السلطات صعوبة كبيرة في تحديد الفئات المتضررة التي تستحق الدعم الاجتماعي لمواجهة تداعيات الأزمة الصحية، والسبب أن جل المغاربة يشتغلون في قطاعات غير مهيكلة، ولا يتوفون على أي تغطية اجتماعية أو صحية، رغم وجود العديد من القوانين والمشاريع التي مازالت عالقة، وجاءت جائحة «كورونا» لتنفض عنها الغبار وتعجل بإخراجها إلى الوجود.
كشفت التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للأزمة الصحية التي يعرفها المغرب على غرار باقي دول العالم، عن أهمية توفر المغاربة على التغطية الصحية والاجتماعية، ولذلك عجلت الجائحة بإخراج العديد من المشاريع والقوانين التي بقيت عالقة في الرفوف منذ سنوات. ومن بين الدروس المستخلصة من هذه الأزمة ضرورة إخراج منظومة متكاملة للدعم الاجتماعي للفئات الهشة التي تكون أول متضرر من مختلف الكوارث والأزمات، وهو ما نادى به الملك محمد السادس منذ ثلاث سنوات، في إطار نظرة استباقية تأكدت أهميتها في الوقت الراهن.
نظرة استباقية
قبل أزيد من سنة أهاب الملك محمد السادس بالحكومة الإسراع بإصدار النصوص التشريعية والتنظيمية والتطبيقية، الخاصة بإصلاح الرعاية الصحية الأولية، ومواصلة توسيع التأمين الإجباري على المرض، مع إعطاء مسؤولية أكبر للمستوى الترابي. وقال الملك، في رسالة وجهها للمشاركين في فعاليات تخليد اليوم العالمي للصحة برسم 2019 المنظم بالرباط، تحت شعار «الرعاية الصحية الأولية.. الطريق نحو التغطية الصحية الشاملة»، «نهيب بالحكومة الإسراع بإصدار النصوص التشريعية والتنظيمية والتطبيقية، الخاصة بإصلاح الرعاية الصحية الأولية، ومواصلة توسيع التأمين الإجباري على المرض، بما يتيح تعزيز الولوج إلى خدمات صحية عن قرب، ذات جودة عالية، وبكلفة معقولة، مع إعطاء مسؤولية أكبر للمستوى الترابي، في إطار الجهوية الموسعة واللاتمركز الإداري». وأبرز الملك في الرسالة أن المغرب خطا خطوات واسعة في إرساء نظم التغطية الصحية الأساسية، بحيث دخلت التغطية الصحية الإجبارية حيز التنفيذ سنة 2005، كما تم تعميم نظام المساعدة الطبية أو ما يسمى «راميد» سنة 2012.
وذكر الملك، في هذا الصدد، باتخاذ مجموعة من الإجراءات في مجال توسيع الاستفادة من أنظمة التأمين عن المرض، لتشمل طلبة التعليم العالي في القطاعين العام والتكوين المهني، والمهاجرين وكذلك أمهات وآباء الأشخاص المؤمنين، كما انخرط المغرب، يضيف الملك في الرسالة، في إجراءات التأمين الإجباري الأساسي عن المرض الخاص بفئات المهنيين، والعمال المستقلين، والأشخاص غير الأجراء، بهدف تكميل مشروع التغطية الصحية الشاملة وتحقيق الولوج العادل للعلاجات، كما ينص عليه دستور المملكة المغربية.
وأشاد الملك أيضا بدعم منظمة الصحة العالمية المتواصل لجهود المغرب الرامية للنهوض بالمنظومة الصحية الوطنية، وتجويد الخدمات الصحية المقدمة للمواطنين، ومحاربة الأمراض، مبرزا الأهمية البالغة التي تكتسيها خدمات الرعاية الصحية الأساسية لكونها نهجا يشمل كل مكونات المجتمع، ويتمحور حول احتياجات وأولويات الأفراد والأسر والمجتمعات، ويهتم بصحتهم، بجوانبها البدنية والنفسية والاجتماعية، الشاملة والمترابطة، إرشادا ووقاية وعلاجا، وإعادة تأهيل.
وأضاف الملك أن الرعاية الصحية الأولية تكتسي أهمية بالغة في اتجاه تحقيق التغطية الصحية الشاملة، باعتبارها تتجاوب مع التحول الكبير الذي يجتاح العالم، ويتحدى المنظومات الصحية، وكيفية تمويل الرعاية الصحية، عن طريق اعتماد آليات تعاضدية وتضامنية لمواجهة المخاطر والنفقات الصحية المتزايدة. وأوضح الملك أن الرعاية الصحية الأولية ترتكز على الالتزام بالعدالة الاجتماعية، والمساواة في الولوج إلى الخدمات الصحية، وعلى الاعتراف بالحق الأساسي في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة، كما ورد في المادة 25 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ونص على ذلك دستور المنظمة العالمية للصحة الصادر في 1948.
وفي هذا الصدد، أشارت الرسالة الملكية إلى أنه «إذا كان توفير الموارد المالية والبشرية الصحية الملائمة، ضروريا لتوفير الرعاية الصحية الأولية، فإن من الواجب التعامل بمنهجية مع المحددات الأوسع للصحة، بما في ذلك العوامل الاجتماعية والاقتصادية، والبيئية والسلوكية»، مبرزة أن ذلك يقتضي بلورة وإقرار سياسات وإجراءات قطاعية وبين -قطاعية، تأخذ بعين الاعتبار هذه العوامل مجتمعة، في إطار المسؤولية المشتركة بين كافة المتدخلين في الشأن الصحي.
من جهة أخرى، اعتبر الملك أن تحقيق التغطية الصحية الشاملة ليس أمرا بعيد المنال، كما أنه ليس حكرا على الدول المتقدمة، فقد أكدت تجارب عديدة، وبشكل ملموس، أنه يمكن بلوغ هذا الهدف كيفما كان مستوى نمو الدول.
وفي هذا الشأن، أكد الملك أن الوفاء بهذا الالتزام يتطلب توافر بعض الشروط الأساسية في النظام الصحي، من بينها نهج سياسة دوائية بناءة تروم توفير الأدوية الأساسية، التي تعتمد عليها البرامج الصحية العمومية ذات الأولوية، وتشجيع التصنيع المحلي للأدوية الجنيسة، والمستلزمات الطبية ذات الجودة، من أجل تحقيق السيادة الدوائية. وبموازاة ذلك، أشار الملك إلى أنه يتعين تعزيز الحماية المالية للأفراد والأسر لتحقيق هذا المبتغى، حتى لا يضطر المواطنون، لاسيما ذوو الدخل المحدود، إلى تسديد معظم تكاليف علاجاتهم من مواردهم الذاتية. كما ينبغي، يضيف الملك، تضافر الجهود بين البلدان، لضمان نجاعة أكبر في تحقيق غايات الهدف الثالث من بين أهداف التنمية المستدامة، أي ضمان الحياة الصحية وتشجيع الرفاه للجميع من كل الأعمار في أفق 2030، والذي التزم به المغرب كباقي أعضاء المجتمع الدولي.
وذكر الملك أيضا أن للتغطية الصحية الشاملة أولويات تجب مراعاتها، من بينها الرصد الوبائي والتصدي للأوبئة العابرة للحدود، وتعزيز المنظومات الصحية، والمساهمة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وتلبية احتياجات وتوقعات السكان، في ما يخص صحتهم وتكاليفها. وأوضح الملك أن التغطية الصحية الشاملة «ليست رهينة التمويل فقط، ولا تقتصر على مجهودات قطاع الصحة وحده، بل يجب اتخاذ كافة التدابير الكفيلة بضمان المساواة والإنصاف، في الولوج إلى الخدمات الصحية، وتحقيق التنمية المستدامة، والإدماج والتماسك الاجتماعيين».
منظومة الدعم الاجتماعي
تطرق الملك محمد السادس، في خطابه بمناسبة الذكرى الـ 19 لعيد العرش المجيد، لأول مرة، لموضوع إحداث «السجل الاجتماعي الموحد»، يتعلق بنظام وطني لتسجيل الأسر، قصد الاستفادة من برامج الدعم الاجتماعي، على أن يتم تحديد تلك التي تستحق ذلك فعلا، عبر اعتماد معايير دقيقة وموضوعية، وباستعمال التكنولوجيات الحديثة، واعتبره مشروعا اجتماعيا استراتيجيا وطموحا يهم فئات واسعة من المغاربة، وأكد أن هذا المشروع هو أكبر من أن يعكس مجرد برنامج حكومي لولاية واحدة، أو رؤية قطاع وزاري، أو فاعل حزبي أو سياسي.
ويتعلق الأمر بمشروع معلوماتي لاستهداف الفئات المستفيدة من البرامج الاجتماعية، وذلك في إطار الإجراءات المواكبة للإصلاح الشامل لمنظومة الدعم الاجتماعي. وسيشكل هذا السجل قاعدة معلوماتية شاملة ستمكن من توحيد المعلومات الاجتماعية والاقتصادية للمواطنين والأسر من أجل إعطاء رؤية واضحة حول الفئات الهشة والفقيرة، وذلك لحسن استهدافها وتعزيز التناسق بين هذه البرامج، ما سيمكن من تصور وتنفيذ برامج اجتماعية أكثر إنصافا وشفافية ونجاعة. ويتوخى هذا النظام المعلوماتي المندمج حل مختلف الإشكاليات التقنية التي تشكل عائقا أمام تنفيذ نظام استهداف ناجع وفعال يمكن من إيصال الاستفادة الفعلية من البرامج الاجتماعية إلى الفئات التي تستحقها فعليا، حيث سيشكل السجل الاجتماعي الموحد المنطلق الوحيد للولوج لكافة البرامج الاجتماعية.
وتعتزم الحكومة في مرحلة أولية، تهييء الأرضية المناسبة لوضع سجل موحد وتحديد شروط الأهلية للمستفيدين من أجل الاستفادة من مجموعة من البرامج الاجتماعية. واعتمدت الحكومة، بشراكة مع البنك الدولي، مشروعا جديدا يهم إعداد سجل وطني للسكان يشمل جميع المواطنين المغاربة من جميع الأعمار، وكذلك الأجانب الذين هم في وضع منتظم، مع رقم تعريف لكل فرد، كما أنه سيتم إنشاء سجل اجتماعي موحد يجمع المعلومات عن الحالة الاجتماعية للأفراد والأسر المعيشية، وسيشكل السجل مدخلا رئيسيا للولوج لكل أو معظم البرامج الاجتماعية، منها «راميد» و«تيسير» ودعم الأرامل، بما فيها الدعم على المقاصة والبرامج المستقبلية بصفة عامة.
ويتمثل دور هذا السجل في التحقق من المعلومات المصرح بها من طرف الأسر عند إقبالها على البرامج الاجتماعية، وذلك باستغلال الروابط بين السجل الاجتماعي الموحد والأنظمة الأخرى، مثل المصالح الجبائية والأمن الاجتماعي ومؤسسات توزيع الماء والكهرباء وأنظمة التأمين الصحي والمحافظة العقارية، ويندرج ذلك أيضا في مقاربة شمولية متعددة الأبعاد من استهداف الأسر باعتماد شتى المعايير المتعلقة بمستوى العيش، وتطوير آليات ومعايير جديدة لتسجيل الأسر في البرامج الاجتماعية وذلك بوضع أدلة الإجراءات واستمارة تسجيل جديدة تقوم على أساس البيانات المطلوبة من قبل البرامج الاجتماعية.
وشرعت وزارة الداخلية في إحداث السجل الوطني للسكان، الذي هو عبارة عن قاعدة مركزية للبيانات الديمغرافية والبيوميترية الخاصة بكافة المغاربة (بمن فيهم القاصرون)، وكذلك الأجانب المقيمين بالمملكة المغربية، حيث يمنح لكل فرد تم تسجيله رقم تعريف وحيد، وهو ما سيسهل عملية التحقق من الهوية وتفادي أي غش أو تدليس في المعطيات التعريفية للأشخاص. وسيتيح هذا السجل الوطني لكافة المصالح والمؤسسات إمكانية الولوج إلى قاعدة البيانات التي يوفرها هذا السجل عند إسداء الخدمات الإدارية أو الاجتماعية للمواطنين والمرتفقين بصفة عامة، ما سيمكن من تبسيط وتسريع مساطر الاستفادة من الخدمات بالنظر إلى سهولة التحقق من هوية طالب الخدمة، وكذلك عبر توفير إمكانية تقديم خدمات إلكترونية عن بعد بما في ذلك تسهيل العمليات المالية وتعزيز الاندماج المالي.
وهناك مشروع ثان يتعلق بإحداث السجل الاجتماعي الموحد، الذي هو نظام معلومات مندمج، يستعمل كنقطة وحيدة لتسجيل طالبي الاستفادة من البرامج الاجتماعية، ويحتوي على معلومات حول طالب الاستفادة وأسرته والتي يتم استخدامها لترتيب وتصنيف الأسر استنادا للمتغيرات السوسيو-اقتصادية، وتلك المرتبطة بظروف عيش الأسرة. ويوفر السجل محددات للبرامج الاجتماعية لاستهداف الفئات المعنية ويوفر معطيات دقيقة من خلال تحيين دوري لها والتحقق من صحة البيانات عبر آليات التكامل مع نظم المعلومات الأخرى.