بقلم: خالص جلبي
في الاستفتاء الذي طرحته قناة «الجزيرة» عن سبل تغيير الأوضاع في بلد عربي، مالت الكفة لجماعة التغيير من الخارج بالطريقة الثورية، باجتثاث العائلة الحاكمة بقوة السلاح.
وعندما لا يقف الأمر عند مفكر بعينه، بل يتعدى هذا إلى اعتقاد الجمهور الواسع أن هذا الطريق هو سبيل الصالحين والملائكة بعد ذلك ظهير، فهو يعطي فكرة عن نوعية الفكر السائد، وأننا مقبلون على مرحلة ظلامية من توديع العقل. وإذا كان هذا النموذج يحتكم إلى السلاح في صراعه مع الحكام، فسيكون هذا سلاحهم مع بعض كما حصل مع المجاهدين الأفغان. ويبدو أننا نخوض مرحلة قد تمتد قرنا من الدخول من جديد إلى الظلمات، قبل الوصول إلى شاطئ الأنوار العقلية. كما كان مع بحر الظلمات قبل اكتشاف أمريكا.
وبعد اغتيال السادات انعقد مؤتمر في قبرص عن الديموقراطية في العالم العربي، فقال أحد اليساريين: إنني من موقف يساري أمد يدي إلى الذي قتل السادات وشَرَّفَ السلاح العربي. وهي وصف دقيق لطفولية العقل العربي في الإيمان بالعضلات أكثر من الدماغ.
ونحن هنا لسنا بصدد مناقشة ما فعله السادات من المنظور السياسي هل كان خطأ أم صحيحا؛ فهذا يترك حكمه للتاريخ، ولكنها سحب قاتمة تجلل سماء الثقافة العربية، بتصور حل المشكلة الاجتماعية بالتصفية الجسدية، تتورط فيها أرقى مستويات الفكر من عقلاء القوم.
وأسلوب «لأقتلنك» هذه المرة جاء من خندق المتصدرين للثقافة في العالم العربي، وليس من العيارين والحرافيش والزعران والبلطجية والشبيحة. ولم يتغير كثيرا بين مصرع السادات واليوم.
ونحن في كلامنا هذا لا نريد إدانة اتجاه على حساب تزكية آخر؛ فأحد اليساريين بارك القتل، ولكن الذي قَتَلَ كان من غير اليساريين (الإسلامبولي)، في شهادة موجعة أن أكثر التيارات ترضع من الثدي نفسه، وأن معظمها يسبح في التيار الدموي ذاته، إنتاجا وتكريسا لثقافة ابن آدم القاتل الأول. ولا نكاد نعثر على شريحة ثالثة مختلفة تحررت من هاجسي (التآمر) و(عقدة التزلف) وتعتمد الصدق في مواجهة الحاكم، وبتعبير (تشومسكي) المثقف من يصدع بالفكرة في وجه القوة.
كما لا يمكننا تصور واضح للتعامل مع الحاكم، بحيث ندعمه في الصواب ونعارضه في الخطأ. وهو نموذج جديد لا تعرفه الثقافة العربية لا يعبد الحاكم ولا يغدر ولا يداهن، ويشكل الجهاز المناعي الاجتماعي، فينعم الجميع بالأمان.
وإذا كان المثقفون لم يستوعبوا بعد آلية ارتداد الأحكام عليهم، فعلينا أن نتوقع امتداد أمد كسوف الثقافة العربية؛ وعندما نفرح باغتيال الحكام، من نموذج حادثة اغتيال السادات، أو المطالبة باجتثاث العائلات الحاكمة بحد السيف، فنحن ندشن ثقافة الاغتيال المضادة، فلا نتعجب من امتلاء السجون.
إنها آلية شد الأنشوطة على عنق الطرفين، كلما شد أحد الطرفين على عنق خصمه شدها على رقبته؛ فإذا وهبنا الأمن والاعتراف للآخرين منحنا ذلك لأنفسنا.
وصف الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد»، قبل قرن، مقتل الثقافة بالاستبداد، ولكنه اعتبر أن المجتمع مثل السيارة يمشي بـدعسة بنزين ويفرمل بكوابح المعارضة. وهي أساس صنع كل سيارة في شركات التصنيع، ولكن سيارات العالم العربي السياسية تمشي بدون كوابح، وكل من يفكر في إصلاح الأوضاع يتجه عقله نحو استبدال دعسة البنزين فقط. والسيارة التي تمشي بدون فرامل تمشي نحو الحوادث، ولا أظن أن هناك من يتجرأ فيقود سيارة بدون فرامل.
كما أن الكواكبي لم ير حل المشكلة الاجتماعية باغتيال الحكام واجتثاثهم، ولكن بالمحافظة عليهم مع كبح جماحهم. وهذا يولد المعارضة العاقلة ويخلق حكومة عاقلة. وسورة «المؤمن» في القرآن تدور كلها حول هذه الفلسفة، حينما أعلن رجل يكتم إيمانه فقال: أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله؟ ولكننا نقرأ القرآن بعيون الموتى.
وحسب تحليل الكواكبي، فإن انتشار الاستبداد مصدره تحتي شعبي أكثر من كونه مسلطا من الحاكم على المحكومين؛ فهو آلية «القابلية» للاستعمار بتعبير «مالك بن نبي».
إن فكرة كوبرنيكوس في فهم العلاقة بين حركة الشمس والأرض كانت انقلابية، وشقت الطريق لتغيير أعظم مفهوم كان الناس حوله يقتتلون. ولم يتجرأ كوبرنيكوس أن يصرح برأيه، كما لم تكتحل عيناه برؤية كتابه إلا قبل موته بساعة فقط. والانقلاب الصاعق في مفهوم كوبرنيكوس الكوني، أن الشمس لم تعد هي التي تدور حول الأرض، بل العكس. ونحن بحاجة إلى مفهوم اجتماعي من هذا النوع، لإدراك أن الحكومات كوكب تابع يدور حول شمس المجتمع. وإذا كان مفهوم كوبرنيكوس قد أدخل أوروبا الحداثة، فودعت الكنيسة والإقطاع، فإن علما اجتماعيا من هذا النوع سوف يقود إلى تغيير انقلابي في فهم «أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم». فالتغيير هنا انتقل من السماء إلى الأرض، ومن الغيب إلى عالم الشهادة إلى يد الإنسان.
نافذة:
الانقلاب الصاعق في مفهوم كوبرنيكوس الكوني أن الشمس لم تعد هي التي تدور حول الأرض بل العكس ونحن بحاجة إلى مفهوم اجتماعي من هذا النوع لإدراك أن الحكومات كوكب تابع يدور حول شمس المجتمع