كواليس منسية لآخر المحاكمات «الخطيرة» بالمغرب
هذا ما وقع تحت سقف محكمة القنيطرة في يونيو 1973
«الجنرال الدليمي كان خائفا من أن يكون هناك انقلابيون آخرون قد يحاولون تحرير أصدقائهم، وعلى رأسهم عمر دهكون، من قاعة المحكمة. فقام بزراعة قناصة مدربين فوق سقف بناية محكمة القنيطرة وزرع قناصة سريين فوق بنايات قريبة وظل يتابع بالهاتف أطوار المحكمة واحتفظ لنفسه بحق إعطاء الأمر بإطلاق النار في حالة ما وقع تحول في الأحداث. هذه كواليس آخر محاكمة في تاريخ المغرب لمتورطين في تهمة المس بأمن الدولة. يتعلق الأمر بمحاولة 23 مارس 1973 التي توبع فيها عشرات المقاومين القدامى والمناضلين، بتهمة محاولة قلب النظام. أغلبهم لم ينكروا التهم الموجهة إليهم، بل أكدوا أنهم نالوا شرف المحاولة وأنهم لو غادروا المحكمة لقاموا بمحاولة أخرى. وهو ما جعل السفارة الأمريكية في الرباط تهتم بهذه المحاكمة التاريخية المنسية.. ».
يونس جنوحي
«المس بأمن الدولة».. تهمة قادت أصحابها إلى الإعدام يوم عيد الأضحى
قضية الثورة المسلحة التي حملت اسمها من تاريخ حدوثها، 23 مارس 1973، كانت آخر عمل مسلح في تاريخ المغرب، أريد منه قلب النظام.
ورغم أن بعض الذين عاشوا كواليسها، أو عائلاتهم، قاموا بعمل توثيقي، أشهره «أبطال بلا مجد» الذي أصدرته عائلة بنونة، وفاء لروح أحد الذين أدينوا على خلفية الإعداد لإدخال السلاح إلى المغرب والمس بأمن الدولة والتخطيط لثورة مسلحة، إلا أن الكواليس المرتبطة بالمحاكمة الشهيرة، لم تكشف بعض تفاصيلها إلى اليوم، ولم يسلط عليها ما يكفي من الضوء.
لكن أبرز عمل تطرق للجانب المتعلق بالمحاكمة التي انطلقت أطوارها في يونيو 1973، واستمرت إلى نونبر من نفس السنة، كان المجهود الذي قام به الباحث محمد لومة، إذ ألف كتابا قبل سنوات اختار له عنوان «الثورة الموءودة» وتطرق فيه لبعض الكواليس التي عاشها أبناء جيله، من المهتمين بالتحولات السياسية في مغرب السبعينيات.
ومما جاء في كتاب محمد لومة:
«كانت وقائع جلسة المحكمة لصباح يوم الخميس 29- 06- 1973 كما يلي:
- دهكون عمر: أعزب، لا عمل ولا سكن، ولا سوابق .
– كانت أول سفرة لي إلى الجزائر أواخر 1960 عن طريق ألمانيا. وكانت المرة الثانية في سنة 1965 حيث اتصلت بالشتوكي بنسعيد هناك وهو من المقاومين اللاجئين. وقد حدثني بنسعيد عن الوضعية الداخلية في المغرب من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، وعن أحداث مارس 1965 التي ذهب ضحيتها عدد من الأبرياء طلبة وعمالا وعاطلين. وإثر ذلك عرض علي الانخراط في منظمة سرية للقيام بعمليات ضد بعض الخونة والأيادي الخفية التي تستفيد من الأوضاع وتستغل الفوضى لتهريب الأموال بمساعدة أياد أجنبية وصهيونية. ولما كنت في الجزائر علمت بصدور العفو عن بعض المقاومين اللاجئين في الجزائر. وعند رجوعي إلى المغرب اتصلت بمحمد البصري بعد أن أشار علي بنسعيد بذلك وأبلغه عن طريقي تحياته، وكان محل اللقاء الكتابة العامة. فعقد معي موعدا خارج المكتب. وبقيت العلاقة صرفة إلى بداية صيف 1966، لا تتعدى إطار الشبيبة الاتحادية. وكان الهدف هو محاربة الأمية في الطبقة العاملة. وفي 30 يوليوز 1966 كان لي موعد مع محمد البصري على الشاطئ وجرى بيننا الحديث التالي:
حيث سألني ما رأيك في أن شخصا مسؤولا في حكومة بلادك شارك في اغتيال زعيم مغربي؟ ففكرت في الحال وعرفت أن الأمر يتعلق بالمرحوم المهدي بنبركة. وأن الشخص
المسؤول هو أوفقير، وأجبته :
إذا كانت هناك حجة ثابتة في الاغتيال فيجب أن تخصص محكمة شعبية لمحاكمة هذا الشخص. فأعلمني البصري آنذاك أنه سيسافر إلى منطقة ما في المغرب أو الخارج، فأعطيته العنوان في ضريح سلا للإبقاء على الاتصال.
لما انتهينا من تدريب الزبداني في سوريا قلت للبصري إن الحكومات العربية تهتم بفتح ملفات للتطوع. ودخلت إلى المغرب وبعدئذ توصلت برسالة ثانية في يونيو 1969 تطلب مني ترشيح بعض العناصر للتدريب خارج المغرب. وعن الأموال التي يهيئها لي البصري فإن ارتباطي به لم يكن ماديا، وإنما كان ارتباطا عن اقتناع. أما عن وسائل العيش في المغرب، فمنذ 1965 كنت أعيش مع محمد عثمان الذي يشتغل في وزارة الدفاع، ومن حين لآخر كنت أتصل بعائلتي في الدار البيضاء».
كان هذا مقتطفا من أول تصريح لأحد المتهمين الرئيسيين بالوقوف وراء المؤامرة المسلحة. وكانت جلسات الاستماع للمتهمين طويلة للغاية، وكان الجنرال أحمد الدليمي يتابع أطوارها وهو على أعصابه. كان الأمر يتعلق بأمن الدولة، وكانت هناك تخوفات من أن تكون هناك مفاجآت يعدها المتآمرون بعد اعتقال كل المتورطين في مخطط ثورة 23 مارس. كيف إذن جرت أطوار آخر محاكمة من هذا النوع في المغرب؟
خصوصا وأن المُدانين الذين حكم عليهم بالإعدام، نفذ فيهم الحكم يوم عيد الأضحى، قبل حتى أن تعد طلبات التماس العفو. بينما كان أصحاب الأحكام الطويلة والمؤبد، قد فقدوا أي أمل في أن يحظوا بحياة خارج أسوار سجن القنيطرة.
وكالة الاستخبارات الأمريكية تابعت تطورات هذه المحاكمة المشهودة، وكانت كواليسها وتفاصيلها، موضوع عدد من التقارير.
كواليس غير مروية عن «أخطر» محاكمة في تاريخ المغرب
دعك من مؤامرة يوليوز 1963 التي توبع فيها مناضلو حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بتهمة المس بأمن الدولة وعرضت أمامهم، داخل قاعة المحكمة، عينة من الأسلحة التي اتُهموا بمحاولة إدخالها إلى المغرب لقلب النظام. إذ أن المتهمين نفوا جملة وتفصيلا أن تكون لديهم علاقة بتلك الأسلحة. في مؤامرة يوليوز 1963 تم التحقيق مع مئات مناضلي الحزب وأخلي سبيلهم وتم الإبقاء على من رأى الأمن أنهم كانوا يشكلون خطرا على النظام. لكن اتضح لاحقا أن الأمر كان يتعلق بمؤامرة فاشلة، وسرعان ما تدخل الملك الراحل الحسن الثاني وقتها وأصدر عفوا عن المتهمين.
أما في ما يخص مؤامرة 23 مارس 1973، فقد كان الإيقاع مختلفا تماما، وكانت التهمة هذه المرة أكثر تعقيدا، ولم يكن حتى أكثر المتفائلين يتوقع نهاية «متوسطة». الكل كان يتوقع الأسوأ بمن فيهم الدفاع.
هذه الخلاصة ليست استنتاجا اعتباطيا، بل صاغها خبراء السفارة الأمريكية في الرباط في شتنبر 1973، وواصلوا كتابة مضامينها آخر أيام المحاكمة التي أسدل عليها الستار في نونبر من نفس السنة، وظلوا يراقبون تطورات المحاكمة ويسجلون توقعاتهم بشأن المستقبل السياسي والأمني في المغرب، بعد هذه الواقعة.
حسب ما ورد في التقرير، فإن الجنرال أحمد الدليمي كان المكلف الأول بالسهر على تأمين المحاكمة. وكان يعطي تعليمات للمشرفين على المحكمة لكي تكون العقوبات مشددة لتصفية جذور «المتآمرين» على أمن الدولة الداخلي، ولم يكن يهمه أن يتم اقتياد أبرياء إلى المحكمة، بدليل، حسب ما ورد دائما في التقرير، أنه لم يول أي اهتمام لمرحلة التحقيق بقدر ما كان مهتما بأن تكون المحاضر الأولية التي سلمت للقاضي مثقلة بالتهم ضد المُتابعين.
التقرير يقول أيضا إن الجنرال الدليمي كان يريد إتلاف بعض الأدلة التي تدين بعض الأشخاص المحسوبين على اليسار. واتضح لاحقا أن الدليمي كان يلعب على الحبلين، خصوصا وأنه بعد عشر سنوات، أي في يناير 1983 توفي في ظروف غامضة تتحدث عنها المخابرات الأمريكية في مؤلف «ويليام بلوم»، المعنون كالآتي: «القصص المنسية لـCIA»
الجنرال الدليمي كان يزرع مخبريه داخل المحكمة، والأمريكيون أحسوا أنه كان يريد إخفاء بعض الخيوط ولم يكن يريد للحقيقة كلها أن تصل فوق مكتب الملك الراحل الحسن الثاني.
كواليس الإعداد لمحاكمة عمر دهكون ومن معه
السفارة الأمريكية في الرباط، ومعها السفارة الفرنسية، كانتا تتابعان ما يقع في مدينة القنيطرة.
كان المغرب يعيش على إيقاع أحداث مولاي بوعزة وأملاكو وخنيفرة، ومعها الدار البيضاء ووجدة.
في يوم 25 يونيو 1973، انطلقت المحاكمة، أي بعد حوالي ثلاثة أشهر من إخماد العمل المسلح الذي كان يرمي إلى تنظيم ثورة مسلحة ضد النظام ونشر قوات للسيطرة على السلطة في المدن الكبرى الرئيسية، بعد التسلل إلى المغرب عبر المنطقة الحدودية مع الجزائر، في الجنوب الشرقي ووجدة.
لكن الأيام التي سبقت المحاكمة، شهدت مجموعة من الترتيبات السرية التي لم يُرفع عنها الستار إلا بعد أن رفعت السرية عن أرشيف الخارجية الأمريكية في إطار وثائق مراسلات سفاراتها حول العالم.
تقول هذه التقارير التي أرسلت من الرباط ما بين مارس ويونيو 1973، إن المغرب كان يعيش حالة تأهب أمني وصل أقصى درجاته خلال فترة حكم الملك الراحل الحسن الثاني، لتطويق عملية محاولة قلب النظام.
كان موظفو المخابرات الخارجية المغربية في باريس وسوريا، يتربصون بأعضاء المنظمة السرية التي كان يتزعمها محمد الفقيه البصري، صاحب الاختيار الثوري. واتضح للأمنيين المغاربة الذين كانوا يعملون بتوجيهات من الجنرال الدليمي، أقوى مسؤول أمني في المغرب مباشرة بعد وفاة الجنرال أوفقير صيف 1972 بعد فشل محاولته الانقلابية التي استهدفت الطائرة الملكية، أن هناك تحركات في باريس وسوريا لنقل وتدريب مقاتلين مغاربة بعضهم من قدماء المقاومة المغربية خلال 1956 وآخرون انشقوا مع الفقيه البصري عن حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بعد اختفاء المهدي بن بركة وأصبحوا تيارا يؤمن بالمعارضة المسلحة للسلطة.
الجنرال أحمد الدليمي، تكلف شخصيا بالإعداد لمحاكمة عمر دهكون ومن معه من الذين اعتقلوا على خلفية تهريب السلاح عبر الحدود الجزائرية. وخلال فترة التحقيق معهم اعترفوا بجملة المنسوب إليهم ووجهوا بالأدلة التي كانت تتوفر عليها مصالح الأجهزة السرية التي يشرف عليها الجنرال.
وهكذا كان المتابعون في حالة اعتقال، يتم إعدادهم لتبدأ المحاكمة.
كان الجنرال الدليمي، حسب ما أسر به لمقربين منه، تحدثوا إلى العاملين في السفارة الأمريكية في الرباط، يتخوف من أن تكون هناك خلية أخرى لم يجر اعتقال أعضائها، وهو ما يعني إمكانية قيامهم بعمل مسلح لإطلاق سراح زملائهم أثناء نقلهم إلى محكمة القنيطرة لمحاكمتهم ومواجهتهم بالمنسوب إليهم.
التهمة كانت استثنائية: الإعداد لانقلاب مسلح وإدخال السلاح إلى المغرب والتخطيط للسيطرة على المراكز الأمنية والإدارات والإذاعة وقلب النظام. لذلك فكر الجنرال الدليمي في الاستعانة بخدمات أمهر القناصين المغاربة، وراسل كل الإدارات العسكرية وإدارة الدرك، لكي يقدموا له لوائح بأسماء أمهر القناصين في الوحدات الأمنية لكي تتم الاستعانة بهم في تأمين الموكب الذي ينقل المتهمين، وتأمين قاعة المحكمة أيضا.
كانت تلك الأجواء الاستثنائية غير مسبوقة في تاريخ المغرب. وما يؤكد صدق هذه التفاصيل، أن المراقبين الأجانب الذين يمثلون منظمات دولية تابعت المحاكمة، بالإضافة إلى المراسلين الدوليين، خصوصا مراسلو AFP، رصدوا فعلا وجود فرق من القناصة المدربين، على سطح بناية المحكمة، واستغربوا للأمر، مرجحين أن تكون المخابرات المغربية وقتها قد تلقت إخباريات بإمكانية وجود مخطط لمهاجمة قاعة المحكمة من قبل أنصار الانقلابيين الذين تم توقيفهم، وجلهم كانوا مدربين على حمل السلاح واستعماله في معسكرات التدريب إما في الجزائر أو في سوريا، في مخيم الزبداني.
كان الجنرال الدليمي يسهر بنفسه على مخطط نشر القناصة على طول الطريق الرابط بين سجن القنيطرة، وبين قاعة المحكمة، كما تم نشر قوات خاصة لمراقبة الطرق المؤدية إلى مدينة القنيطرة وتفتيش دقيق للمركبات الوافدة على المدينة.
أما في محيط المحكمة، وعلى امتداد شعاع كيلومترات في محيطها، تحولت أسطح الإدارات العمومية إلى منصة للقناصين لمراقبة التحركات ورصد كل حركة مشبوهة. وكان لديهم اتصال مباشر مع الجنرال الدليمي الذي احتكر لنفسه صلاحية إعطاء الضوء الأخضر لإطلاق النار على كل مشتبه فيه.
لكن لم تسجل أي حوادث لإطلاق النار من طرف القناصة. وبقي التأهب سيد الموقف طيلة جلسات المحكمة التي استمرت من 25 يونيو إلى نونبر حيث تم النطق بالأحكام، تراوحت بين الإعدام والمؤبد. و نفذت أحكام الإعدام يوم عيد الأضحى، وهو ما زاد من رهبة كواليس تلك المحاكمة التي استمرت فصولها لأشهر من الترقب والتوجس.
مُحامون جزائريون أرادوا الدفاع عن المتهمين
لم يكن سرا بالنسبة لدفاع المتهمين، وعلى رأسهم الأستاذ المعطي بوعبيد، أن محامين جزائريين أرادوا الحضور إلى المغرب وتنصيب أنفسهم في هيئة الدفاع عن عمر دهكون ومن معه في ملف «الثورة المسلحة».
لكن ما وقع أن محامين اثنين فقط حضرا، ولم يدخلا قاعة المحكمة. وحسب ما توفر في وثائق الأرشيف التي أرخت للمحاكمة، فإن المحامي المعطي بوعبيد، الذي كان نقيبا بارزا وأحد من بصموا على مسار مهنة المحاماة في المغرب، عندما أخذ الكلمة باسم دفاع المتهمين، طلب من رئيس المحكمة، محمد اللعبي، أن يسمح لمحاميين جزائريين بدخول القاعة وتنصيب أنفسهما مع هيئة الدفاع عن المتهمين الذين كانوا يُعرضون على المحكمة طيلة الفترة الصباحية، في إطار الإجراء العادي الذي يقضي بأن يُعرض كل المتهمين أمام القضاة لكي يتعرفوا عليهم ويتأكدوا من هويتهم قبل انطلاق الجلسات.
هذان المحاميان الجزائريان، لم يكونا في الحقيقة مخالفين للقوانين، رغم أن الأمر يتعلق بقضية مغربية في محكمة مغربية بمتهمين مغاربة، بل كان الأمر يتعلق باتفاق بين البلدين، يقضي بالسماح للمحامين المغاربة والجزائريين بالترافع في قضايا بمحاكم المغرب والجزائر على حد السواء. لكن ما وقع أن المحامين الجزائريين لم يتمكنا من الدخول، وهو ما رصدته تقارير الملاحظين الأجانب الذين كانوا يسهرون على شفافية المحكمة. إذ حسب ما ينص عليه الاتفاق دائما، فإن المحامين مطالبون أولا بالحصول على موافقة مكتوبة من وزير العدل تخول لهم دخول قاعة المحكمة بعد الإدلاء بجوازات السفر. وهو ما لم يقم به المحاميان الجزائريان اللذان جاء للدفاع عن عمر دهكون ومن معه.
حسب ما سجله الملاحظون الأجانب، فإن المحاميين الجزائريين حاولا منح تصريح لوكالة الأنباء الفرنسية استنكرا فيه منعهما من دخول القاعة، لكن ما وقع أن المحاميين كتبا طلبا لوزير العدل المغربي لكي يمنحهما الإذن للترافع، لكنهما لم يتوصلا بالإذن قبل انطلاق الجلسة. وبالتالي فإن منعهما من الالتحاق ببقية أعضاء الدفاع، كان قانونيا ولم يكن فيه أي إقصاء لهما من الحضور، بقدر ما كان الأمر يتعلق أساسا بإجراء قانوني وترتيبات إدارية معمول بها في مثل تلك المواقف.
لكن قبل أن «يستغل» المحاميان الواقعة لكي يضربا في شفافية المحكمة، ويأخذ الحادث بعدا حقوقيا، خصوصا وأن المراقبين الدوليين والصحافة الأجنبية كانت تتصيد مثل تلك الهفوات، فقد تم التوصل إلى توافق.
هذا التوافق يقضي بأن يدخل المحاميان الجزائريان القاعة باعتبارهما ملاحظين. بحكم أن الجلسة التي يُعرض فيها المتهمون على رئيس المحكمة لم تكن جلسة مغلقة وإنما كانت جلسة علنية مفتوحة، وهو ما أكده الشهود. وهكذا قدم المعطي بوعبيد التماسا شفهيا لرئيس المحكمة يطلب منه السماح للمحاميين الجزائريين بالدخول، وهو ما تحقق فعلا بعد كلمة ألقاها ممثل النيابة العامة. وحسب تقرير من 48 صفحة يتعلق بجلسات المحاكمة، تتوفر «الأخبار» على نسخة منه، فإن النيابة العامة سمحت بدخول المحاميين الجزائريين على الفور بدون أي تأخير لتدارك عدم توصلهما بترخيص الترافع من وزير العدل، وتم احتواء الوضع قبل أن يتطور إلى نقطة سلبية في ملف تقييم شفافية وعدالة المحاكمة.
نقط سوداء عالقة بخصوص أشهر إعداد لعمل مسلح قاده مغاربة
من بين أهم النقط التي بقيت عالقة بخصوص محاكمة المتورطين في أحداث 23 مارس 1973، ما يتعلق بتهمة الخيانة.
أفراد الخلية المسلحة التي جرى اعتقالهم في نواحي منطقة تنغير، حيث كانوا يحتمون بالجبال وينتظرون سماع أخبار نجاح الثورة عبر أمواج الراديو، كانوا مستعدين للاعتراف أثناء المحاكمة بكل المنسوب إليهم، بل إن التقرير الأمريكي تحدث عن «شجاعة» هؤلاء المتورطين، رغم توصيات الدفاع وإشعارهم بأن عقوبة الإعدام سوف تكون في انتظارهم، إلا أنهم أصروا على الاعتراف بأنهم كانوا واعين بجسامة «المغامرة» التي أقدموا عليها. التقرير يتضمن أيضا ملاحظة مفادها أن بعض المدانين كانت معنوياتهم عالية جدا أثناء لحظة النطق بالأحكام.
لكن، إذا كان هذا حال المُدانين الذين حكم عليهم بعقوبات طويلة الأمد، ثم أفرج عنهم بعد سنوات في إطار عفو ملكي أطلقه الملك الراحل الحسن الثاني، فإن الأمر كان مختلفا تماما بالنسبة لآخرين.
التقرير يقول إن بعض المتهمين أخليت ساحتهم قبل المحاكمة، اتضح أنهم كانوا ضحايا وشايات، وتم سحبهم من القضية بناء على تعاونهم مع الأمن وإدلائهم بأسماء متهمين كانوا يؤطرونهم، ودعوهم إلى الانضمام للتنظيم والذهاب إلى الجزائر وسوريا.
تحول الأمر إلى محاولات للانسلال من التهمة، واتهام لبعض الذين وردت أسماؤهم في المحاضر أثناء استنطاقهم بالوشاية.
وفعلا، كانت هذه التهمة قد وجهت إلى بعض الأسماء، واتهموا بأنهم كانوا وراء تسريب أمر المخطط إلى الأمنيين، بينما كانت الحقيقة أن العملية كانت مخترقة، وأن الجنرال أحمد الدليمي كان مطلعا على بعض التفاصيل، ولديه فوق مكتبه لائحة بأسماء كل المغاربة الذين ذهبوا إلى الجزائر أو سوريا من مطار باريس ويعلم جيدا أنهم التقوا في باريس بأعضاء من تنظيم محمد الفقيه البصري، وهم الذين وجهوهم إلى الجزائر وسوريا على وجه الخصوص للتدرب على حمل السلاح، خصوصا في صيف سنة 1969، حيث كان رجال الوحدات التابعة لمخابرات الجنرال الدليمي يعرفون كل شيء عن تحركاتهم.
وهؤلاء تكلفوا بالإعداد بعد عودتهم من «العطلة» الفرنسية، بأمر إعداد خلايا «نائمة»، كانوا هم نواة الإعداد للثورة المسلحة. لكن ما وقع أن المخابرات عندما اخترقت المخطط ظلت تراقب كل التحركات، بينما كان عمر دهكون ومن معه يعتقدون أثناء اعتقالهم أن الأمر يتعلق بوشاية داخلية، وبدأت الاتهامات تطال بعض الأسماء، خصوصا منهم الذين لم تحرك أي متابعة في حقهم أو أطلق سراحهم خلال مرحلة التحقيق، وظلوا يحملون معهم التهمة التي وجهها لهم رفاقهم.
اللحظات الأخيرة لهروب مخططي ثورة 23 مارس 1973 قبل اعتقال أغلبهم
لو أن عمر دهكون، الذي اعتبره الأمن المغربي، العقل المدبر لعمل خلايا الثورة المسلحة على الميدان، ترك مذكرات، لربما رفع الغموض عن بعض التفاصيل التي لا تزال عالقة إلى الآن.
وحده، الرجل الذي كان مكلفا بأهم تفاصيل العمل الميداني لإنجاح الثورة المسلحة، امبارك بودرقة، الذي كان رفيقا لكل من عبد الرحمن اليوسفي ومحمد الفقيه البصري، قُطبي المعارضة الاتحادية للملك الراحل الحسن الثاني، عندما أصدر مذكراته قبل ثلاثة سنوات، وضمنها وثائق من أرشيفه الشخصي، بينها مراسلات مع عناصر آمنت بفكرة الثورة المسلحة في المغرب، نشر كواليس آخر ساعات خروجه من المغرب بعد وصول خبر بداية اعتقال المتورطين. وقد أورد في مذكراته التي جاءت عملا توثيقيا لكواليس الإعداد لأحداث 23 مارس 1973: «بوح الذاكرة وإشهاد الوثيقة»، وذكر ما يلي:
«صعدت درج العمارة سريعا ولم أتوقف بالطابق الأول، بل عبرتُ إلى الطابق الثاني. ما كان يهمني ساعتها هو الاطلاع على حال باب الشقة، هل تعرض للكسر والتشميع أم بقي سليما.
جاءت نتائج تحرياتي إيجابية. وجود باب وقفل الشقة سليمين كان يعني لي أن الشرطة لم تصل بعدُ إلى مقر لقاءاتنا. مما يؤشر على أن عمر دهكون المرجح أن يكون معتقلا حينها مازال صامدا. لم يبح بشيء بعدُ. احتراما لاتفاق كتم الأسرار لمدة ثمانية وأربعين ساعة. الذي كنا قد قطعنا العهد بشأنه بيننا.
بدأ العد العكسي إذن. وبدأ معه التخطيط لاتخاذ قرار سريع وحكيم. فكرت في ثلاثة سيناريوهات: الجزائر عبر وجدة، المطار، أو التخفي في مكان قصي وسري ريثما ينقشع الغبار. (..) العبور إلى الجزائر عبر وجدة يتطلب على الأقل أربع وعشرين ساعة. لست متأكدا أنها متاحة لي من رصيد الصمود المتبقي لعمر دهكون.
لا خيار لي إذن سوى نهج سبيل المقامرة والمغامرة. فلتكن الطائرة وسيلتي وحيلتي للخروج من محنتي.
لم يكن جواز سفري يفارقني. وكذا قدر محترم من النقود تحسبا لكل مستجد طارئ. (..) سألت عن أقرب موعد لإقلاع الطائرة نحو باريس فعلمت أنه سيكون في آخر النهار. اقتنيت التذكرة ثم توجهت نحو المطار فإذا بي ألتقي بإبراهيم السافيني الذي كان يشتغل جزارا ببوندي، سبق أن أرسله إلينا الفقيه البصري.
حاول مصافحتي، تجاهلت الأمر وقلت له بصوت خافت سنسافر معا. إن وصلنا معا بخير فذاك. وإذا لم تجدني بالطائرة أخبر الإخوة في التنظيم أنني وعمر دهكون اعتُقلنا.
لم أتنفس الصعداء إلا والطائرة تحط بمطار أورلي. فالسفر كان على متن الخطوط المغربية، واحتمال إعلامها في الجو بضرورة العودة إلى المغرب ظل واردا لذلك كان الضغط والتوجس رفيقي طوال الرحلة.
في اليوم الموالي للوصول إلى باريس أي 23 مارس 1973، سافرتُ جوا إلى الجزائر حيث موعدي مع اجتماع لتقييم ما حصل.
لم يمر على وصولي إلى الجزائر يوم واحد حتى كان بيان وزارة الداخلية يعلن اعتقال عمر دهكون وامبارك بودرقة ومجموعة من المخربين».