كواليس ما يحدث داخل إدارات عمومية.. هذا ما يريد مسؤولون إخفاءه عنا
عزيز الحور
وراء الصورة المثالية التي تحاول إدارات عمومية أن تظهر بها، من خلال تشييد بنايات مهيبة تعتليها أعلام وطنية تزيدها رهبة، تختفي، في الكواليس وداخل الأروقة، مشاهد بؤس قد لا ينتبه إليها المواطن الذي تتوقف رحلته داخل إدارات عمومية عند البوابات وشبابيك الخدمات وأبهاء الاستقبال ولا تلج إلى الأماكن المعتمة ودهاليز المكاتب الداخلية. ما الذي يحصل، في الحقيقة، داخل وزارات ومؤسسات عمومية وجماعات؟ «الأخبار» تمكنت، على فترات مختلفة، وعلى مدار عام كامل، من التسلل إلى داخل مؤسسات عمومية لرصد المشاهد التي لا يريد مسؤولو هذه المؤسسات أن نراها. جل زياراتنا كانت بعد صلاة الجمعة. في ذلك الوقت تفرغ الإدارات من موظفيها، بمن فيهم حراس أمنها. تفاصيل هذه الزيارات وما اكتشفناه من مشاهد صادمة في هذا التقرير.
توجد الوظيفة العمومية في المغرب اليوم في موضع جدل. السبب تعالي النقاش بشأن جودة خدمات إدارات عمومية توفر لها إمكانات بشرية ضخمة في ظل تسجيل وجود أعداد كبيرة من الموظفين الأشباح على مستوى عدد من الإدارات
على مستوى المعطيات الرقمية، يقول التقرير السنوي الذي تعده وزارة الوظيفة العمومية، في نسخته الخاصة بسنة 2013، وهي النسخة الوحيدة التي تطرقت لموضوع الموظفين الأشباح، وأن عدد الموظفين الذين ضبطوا في حالة تغيب غير مشروع خلال سنة 2013 قدر بـ574 موظفا. هل هذا فعلا هو عدد الموظفين الأشباح في المغرب؟
في الواقع، الرقم المذكور يتعلق فقط بالموظفين الذين جرى إثبات تغيبهم غير المشروع عن عملهم. ذلك أن عدد الموظفين الذين لم يثبتوا العكس، أي أنهم زاولوا عملهم بانتظام طيلة سنة 2013، بلغ ألفين و699 موظفا، وفق التقرير المذكور. ألفان و168 موظفا منهم أفلحوا في تقديم تبريرات لعدم تقديمهم شهادات تثبت اشتغالهم سنة 2013، في حين فعلت مسطرة ترك الوظيفة في حق 574 موظفا ظلوا يتوصلون بأجورهم شهريا رغم أن أقدامهم لم تطأ المؤسسات التي يعملون بها منذ مدة.
المعطيات الرقمية هاته لا تقدم الصورة الكاملة لظاهرة الموظفين الأشباح في الإدارة العمومية. ثمة معطيات أخرى تثبت أن التغيب عن العمل، ولو لوقت قصير، أمر دارج في الإدارات. هذا ما وقفنا عليه خلال زياراتنا لإدارات عمومية انتقيناها على نحو عشوائي للتثبت مما إذا كان الغياب عن العمل ظاهرة مستفحلة في إدارة عمومية.
الخلاصة التي وقفنا عليها كانت صادمة؛ يمكن لأي شخص أن يدخل هذه الإدارات، خصوصا في وقت صلاة الجمعة، حيث تفرغ من موظفيها، والتجول في أرجاء المكاتب والاطلاع على الوثائق، بكل حرية. كما ظهر أن عددا من الإدارات ليست بذلك النظام الذي يظهر بمكاتب الاستقبال المخصصة للمواطنين بها. ثمة أروقة خلفية تشهد مشاهد صادمة؛ سجلات رسمية ملقاة إلى جانب كراسي وطاولات، كل ذلك بجانب مواد تنظيف قابلة للاشتعال.
قبو وزارة الداودي ومرحاض أمانة الحكومة
البداية كانت بوزارة التعليم العالي وتكوين الأطر والبحث العلمي. حللنا بمقر الوزارة، والواقع بمقاطعة حسان بالرباط، يوم الجمعة 20 مارس من العام الماضي. كان مقر الوزارة شبه خال. ولجنا من الباب الخلفي المخصص للزوار. بعد المرور عبر مكتب الاستقبال حيث يتم توجيه الزائر إلى مصلحة من مصالح الوزارة تبدأ رحلة تيه في مقر الوزارة الواقع، في الحقيقة، في بنايتين، تفصل بينهما باحة واسعة. البناء عتيق ويعود لعقود على ما يبدو من هندسته.
في البناية الأولى توجد مديريات الوزارة وأقسامها ومصالحها، بينما خصصت البناية الثانية، والأكثر أناقة، والتي تطل على الشارع الرئيسي، لمكتب الوزير ومدير ديوانه وكبار مسؤولي الوزارة.
كلتا البنايتين خلت، تقريبا، من الموظفين، رغم أن وقت زيارتنا كان قبل صلاة الجمعة. جل المكاتب كانت مغلقة، خصوصا تلك التي توزعت في ردهات بالطابق الأول للوزارة. بهذه الردهات وضعت مكاتب يظهر أنه تم التخلي عنها ولم يتم بعد إيداعها في مستودع خاص، على افتراض وجوده داخل الوزارة.
كان مثيرا، في أحد الزوايا، وضع معدات مكتبية وكراسي وحتى آلة ناسخة بطريقة عشوائية، وبجانب ذلك دراجة نارية يرجح أنها تعود لأحد أعوان الوزارة. كيف لدراجة نارية أن تركن داخل وزارة تشرف على قطاع بالغ الأهمية؟
قرب مكتب الوزير بنفسه، وفي مكان مخصص للاجتماعات على ما يظهر، تم تكديس لوازم مكتبية ولوجستيكية. فوق الطاولة المخصصة للاجتماعات وضعت أكوام من الوثائق والأوراق.
على الأقل، كانت الأروقة والردهات وجدران بناية الوزارة مصبوغة بطلاء يشبه الجير، باستثناء البناية التي يوجد فيها مكتب الوزارة والتي كانت جدرانها مزينة بفسيفساء أخاذة. غير أن الطلاء اختفى في قبو الوزارة الذي يقود إليه درج في الزاوية. دخلنا القبو. رطوبة جديدة تنبعث منه. القبو مضاء بمصباح صغير يصدر نورا باهتا. عفن ظهر من فرط الرطوبة يكسو جدران القبو. المكان خصص لوضع مواد التنظيف على ما يظهر. كان مثيرا وجود قنينات مواد شديدة الاشتغال بالقبو. أقل خطأ قد يؤدي إلى اشتعال المكان واحتراق الوزارة بالكامل.
نحن الآن بمقر الأمانة العامة للحكومة، المؤسسة بالغة التأثير في العمل الحكومي والمحاطة بهالة كبيرة من الغموض. الوصول إلى مقر الأمانة العامة صعب. ليست هنالك علامات تشوير تقود إلى المقر الواقع خلف بناية المطبعة الرسمية والموجودة قبالة «تواركة» حيث يوجد القصر الملكي بالرباط.
دخلنا المقر زوال يوم الجمعة. كان فارغا تماما إلا من موظفة بلجنة الصفقات في الطابع الفوقي. هذا الطابق يظهر أنه حديث التهيئة. ما سواه من مرافق بدت قديمة ومتهالكة، بما في ذلك مراحيض في الطابق السفلي. بباب المرحاض كتبت عبارة ركيكة؛ «أترك المكان كما تحب أن تلقاه». ما يدفع للاستغراب هو أن العبارة معلقة داخل مؤسسة هي التي تتكلف بمراجعة القوانين في المغرب وإخراجها.
داخل مكتب السيد المندوب
إذا كانت إدارات مركزية تشهد كل تلك الفوضى حيث يغيب الموظفون، لأسباب قد تكون قانونية، وتعج الردهات والزوايا والمكاتب بأكوام النفايات المكتبية، فكيف سيكون الحال في إدارات لا مركزية؟
للوقوف على جواب لهذا السؤال اخترنا التسلل، اعتباطيا، داخل مؤسستين لا مركزيتين تابعتين لوزارتين، يتعلق الأمر بنيابة التربية الوطنية بعمالة الحي الحسني بالدار البيضاء، والتابعة لوزارة التربية الوطنية، والمندوبية الجهوية للإسكان، التابعة لوزارة السكنى وسياسة المدينة.
البداية مع نيابة التعليم بالحي الحسني. حللنا هنا في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر. مقر النيابة عبارة عن مدرسة تم هجرها، توجد في مكان معزول وسط فيلات حي الهناء. أقسام البناية حولت إلى مكاتب. من المفترض أن تعج النيابة بالموظفين وتنشط فيها الحركة في تلك الفترة التي كانت تصادف بداية العام الدراسي. الصورة على عكس ذلك تماما. سكون تام يسود النيابة التي كنا قد حللنا بها عند وقت الغداء. كل الموظفين تقريبا خرجوا لتناول وجبة الغداء، رغم أن التوقيت المعمول به في هذه الإدارة هو مستمر. عدد من المواطنين ورجال التدريس الذين حلوا بالنيابة لقضاء أغراضهم وقفوا في أرجاء مختلفة من ساحة البناية/المدرسة في انتظار الموظفين وفي مقدمتهم النائب.
خلال تلك الفترة جلنا في مكاتب النيابة. كانت كلها موصدة. بما في ذلك مكتب النائب. في مكتب أرضي علقت لافتة تشير إلى أن الأمر يتعلق بمكتبي الصحة المدرسية والمستندات. لكن المكتب اتخذ، على ما يظهر، مستودعا رصت به كراسي فائضة. بجانب المكتب زاوية كسدت فيها صناديق كرتونية تضم كتبا مدرسية جديدة. من المفترض أن تكون هذه الكتب وزعت عند بداية الموسم الدراسي. عدد من الصناديق تعرضت للتلف بسبب طريقة وضعها. بالقرب منها خزانات حديدية قديمة في رفوفها توضع مستندات رخص الغياب ووثائق إدارية أخرى يفترض وضعها في مكتب المستندات الذي تحتله كراسي غير مستعملة. بجانب كل هذه الفوضى مراحيض قديمة. قبالة مطرح أزبال صغير ألقيت فيه نفايات النيابة وبينها وثائق غير مهمة.
الموظفون لم يشرعوا في العودة إلى عملهم إلا عند الثانية والنصف زوالا. موظف مكلف بالخزينة يتحدث مع آخر يسأله، وهما يصعدان الدرج، عما إذا كان قد أغلق مكتبه قبل خروجه، يرد قائلا: «أغلقت المكتب، على العموم ليس في الصندوق سوى 9 آلاف درهم». آخر الواصلين إلى العمل كان نائب التعليم.
بعد إشارة إلى هذا الوضع في «الأخبار» بعد زيارتنا بيومين تم جمع الكتب المدرسية وإغلاق الممر المؤدي إلى هذا المكان المعتم بنيابة التعليم.
من نيابة التعليم تلك ننتقل إلى المندوبية الجهوية للإسكان بالبيضاء، والواقعة وسط المدينة قبالة المحكمة الابتدائية من مدخلها الخلفي. ولجنا المندوبية يوم الجمعة 18 دجنبر الماضي، بعد صلاة الجمعة مباشرة. خلت البناية من الموظفين تماما، باستثناء موظفة في أواسط عمرها، وفتاة كانت تستمع إلى أغاني عبر «اليوتوب» في مكتب كتابة المندوب الجهوي.
مكاتب البناية كانت حين زيارتنا تشهد أشغالا. الفوضى عارمة بأرجاء المكان. كان مثيرا تكديس أكوام من الوثائق والسجلات في زاوية بردهة الطابق الفوقي للبناية. سجلات تخص تراخيص ودراسات لملفات تعمير تعود إلى سنوات سابقة.
المثير للانتباه أكثر هو جل المكاتب كانت مفتوحة، بما في ذلك مكتب المندوب الجهوي. من السهل جدا دخول المكاتب هاته والاطلاع على الوثائق أو حتى إتلافها والحصول عليها بكل سهولة.
طفلان يسيران مكتبين بالجماعة الحضرية للبيضاء
قادتنا جولة إلى مقر الجماعة الحضرية للدار البيضاء للتأكد مما إذا كانت الجماعات الترابية تعرف الوضع نفسه الذي تشهده إدارات عمومية كما عايننا، ولو أن مؤشرات رقمية تنبئ عن أن الوضع سيكون أكثر سوءا، بجماعة البيضاء تشهد وجود نحو 15 ألف موظف شبح كما تقر بذلك معطيات رسمية.
الوضع كان أكثر سوءا بالفعل حين زيارتنا لمقر الجماعة في مناسبتين، أولهما عقب صلاة الجمعة والثانية يوم الثلاثاء 2 فبراير الجاري. خلال الزيارة الأولى بدا ملفتا الغياب التام للموظفين. الأمر برره موظف مكلف بالاستقبال بأن الأمر يتعلق بيوم الجمعة. «راك عارف الجمعة الناس كايبغيو ياكلو كسكسو»، يقول مرخيا ثغره لابتسامة تحاول أن تجعل الواقعة أمرا عاديا. على خلاف ذلك كان هناك بضعة موظفين يتسامرون. يبدو أنهم كانوا ينتظرون الانتهاء من إعداد أكلة سمك كانت رائحة طهيها، في أحد مكاتب الطابق الأول، تزكم الأنوف. خلال الزيارة الثانية الوضع اختلف نسبيا. جل المكاتب مفتوحة تقريبا، وعدد من الموظفين موجودون، وإن كان قد بدا فتور عليهم. في مكاتب كان موظفون يتسامرون وفي مكتبين بالطابق الأول جلس طفلان أمام الحاسوب يتصفحان الأنترنت. أحد الطفلين كان رفقة أمه الموظفة على ما يبدو، والتي كانت منهمكة في الحديث مع موظفات أخريات في المكتب نفسه.
المشهد ذاته تكرر عند زيارتنا هذه المرة للمستشفى الإقليمي بمدينة ابن سليمان، فإلى جانب غياب إداريين، وعلى رأسهم مدير المستشفى الذي كان يحضر دورة تكوينية، كما أخبرتنا كاتبته، كانت عدد من مرافق المستشفى تعج بالمرتفقين. في إحدى المرافق جلس مواطنون ينتظرون. في المكان المخصص للاستقبال جلست طفلة يظهر أنها ابنة أحد مسؤولي المستشفى.