كواليس المنفى بعد 69 سنة على أحداث منسية
الساعات الأخيرة التي سبقت نفي محمد الخامس
«من الأمور التي سبقت قرار المنفى وعجلت به أن الملك الراحل محمد الخامس رفض مرة أن يوقع على بروتوكول فرنسي أحضره إليه ضابط فرنسي لكي يوقعه. مضمون البروتوكول كان قاتلا للحركة الوطنية وللإرادة الشعبية أيضا. وهنا بدأت محنة السلطان محمد بن يوسف مع الفرنسيين. فقرر في خطوة ذكية ألا يوقع بالخاتم السلطاني الشهير، واكتفى بكتابة عبارة «صار بالبال» لكي يقول لفرنسا بطريقة ملكية أنه لم يمنح موافقته على البروتوكول، لكنه اطلع عليه.
في تلك اللحظة التي سوف نأتي إلى تفاصيلها في هذا الملف، علم المقيم العام أنه يتعين عليه أن يُزيل محمد الخامس من القصر الملكي إذا أراد أن يمرر قرارات أخرى في المستقبل..
يونس جنوحي
نشرة الأخبار ورسومات «كورسيكا» التي أبكت المغاربة
رغم محاولات الإقامة العامة الفرنسية لجعل قرار نفي الملك الراحل محمد الخامس قرارا شعبيا استجابت خلالها لمطالب لائحة الأعيان، باشاوات وقياد، طالبوا فيها بإزاحته عن العرش، إلا أن الشارع المغربي كان رافضا لقرار المنفى، وظل يعتبر السلطان محمد بن يوسف ملكا شرعيا للبلاد.
أولى نشرات الأخبار في جهاز الراديو التي بثت إلى بقية المدن المغربية، من الرباط، خبر رحيل السلطان محمد بن يوسف على الساعة الثالثة زوالا يوم 20 غشت 1953، كانت تقدم الخبر كما لو أنه إعلان سيخلف فرحة شعبية، بينما كان الأمر في الحقيقة يتعلق بنكبة جماعية عاشها المغاربة قبل حتى أن تُجيش الحركة الوطنية أفرادها للخروج إلى الشوارع احتجاجا على ترحيل محمد الخامس خارج المغرب.
إذ أعلن الحداد في المنازل، ونزل الناس إلى الصلاة في المساجد، وسجل أعوان السلطة الذين كانوا يتعاونون مع الإدارة الفرنسية أن الناس كانوا يبكون داخل المساجد وفي التجمعات المغلقة خصوصا في الساحات العامة في القرى والمدن الصغرى.
إذ إن القرار لم يكن يستند إلى أي مطلب شعبي، بل إن الأعيان الذين ساندوه كانوا لا يتوفرون على أية شعبية في مناطقهم بل كانوا محط كره شعبي، خصوصا وأنهم كانوا من الأثرياء والإقطاعيين، بالإضافة إلى أنهم كانوا دائما يصدرون عقوبات تطال الفلاحين الصغار، خصوصا منهم القياد التابعين للباشا الكلاوي.
وجود أسماء هؤلاء القياد والأعيان في لائحة المطالبين بتنحية السلطان محمد بن يوسف، كان كفيلا بجعل القرار محط سخط شعبي عارم منذ الساعات الأولى لإعلانه.
خرج الناس إلى الشوارع أولا في الرباط وسلا، ثم الدار البيضاء، ثم بقية المدن المغربية فور وصول الخبر إليها عبر موجات الراديو، حيث كانت مكاتب الإدارة الفرنسية في هذه المدن قد تلقت تعليمات عبر الهاتف، مفادها أن تكون في أهبة الاستعداد لتطويق أي تجمع بشري في الشوارع.
الحقيقة أن الساعات التي تلت نفي السلطان محمد بن يوسف تبعها ارتباك كبير في صفوف الوطنيين، ولم يُسجل أي تصعيد فوري وقتها، بل جاءت التداعيات لاحقا ووصلت حد بداية تنفيذ اغتيالات في صفوف الفرنسيين وإتلاف لخطوط الهاتف وتخريب لبعض واجهات محلات الفرنسيين خصوصا في الدار البيضاء.
أما في الساعات الأولى التي تلت انتشار خبر المنفى، فقد كان الذهول العنوان الأبرز الذي خيم على مناطق المغرب، حيث عاش المغاربة تجربة لم تتكرر، إذ نشر الوطنيون في الأيام التي تلت نفي السلطان محمد بن يوسف صورا نُسخت باستعمال آلات طباعة عتيقة وشبه بدائية، لكنها عجلت بصناعة أكبر كمية ممكنة من تلك الرسومات التي وزعت على أوسع نطاق، حيث تصور السلطان محمد بن يوسف في منفاه، وهي الصور التي زادت من حزن المغاربة على تبعات يوم 20 غشت 1953.
والدة محمد الخامس توفيت حزنا على نفيه
رغم أن وطنيين كثرا كتبوا عن محنة المنفى يوم 20 غشت 1953 وتداعياتها على المشهد السياسي وعلى الحركة الوطنية، إلا أن الملك الراحل محمد الخامس لم يثر في الخطابات التي تلت عودته من المنفى مسألة أثر المنفى نفسيا عليه شخصيا، ولم يجعل منه موضوعا خاصا به وإنما تعامل معه على أنه محنة بلد بأكمله. وهكذا ظلت واقعة وفاة والدته حزنا على نفيه حبيسة صدور الأشخاص القلائل الذين كانوا قريبين منه والعارفين بأجواء «دار المخزن».
إذ إن عدم وداع الملك الراحل لوالدته التي كانت تجمعه بها علاقة متينة جدا، حيث حالت المسافة والنفي بينه وبين حضور جنازتها، زاد من حدة المنفى لدى الأسرة الملكية كاملة.
وفي الرباط، كان خبر وفاة أم السلطان منتشرا في أوساط الأسر التي كانت مقربة من القصر، وأيضا أسر أعضاء الحركة الوطنية الذين أقاموا العزاء حدادا على وفاة أم السلطان.
تزامنت وفاة والدة السلطان محمد بن يوسف مع بداية التصعيد ضد فرنسا سنة 1954، إذ بدأت وقتها أولى عمليات الخلايا السرية للمقاومة، وكان الفرنسيون قد بدؤوا للتو يتعاملون مع أولى تداعيات القرار الذي اتخذوه قبل أشهر.
نقل الأرشيف البريطاني الرسمي صورا توثق لما سُمي وقتها عملية إلحاق أفراد من أسرة الملك الراحل محمد الخامس بالمنفى أسابيع بعد نفيه، وكان الصحافي المكلف بالتغطية الصحافية للحدث، قد ارتكب خطأ كبيرا، بحكم ندرة المعلومات حول الموضوع، وقال في قصاصة الأنباء إن الأمر يتعلق بإلحاق والدة محمد الخامس به لكي ترافقه في منفاه الجديد من كورسيكا إلى مدغشقر. لكن الحقيقة أن والدة الملك الراحل لم تلتحق به، وإنما كان الأمر يتعلق بمرافقيه في القصر الذين سمحت لهم الإقامة العامة الفرنسية بمغادرة المغرب، بعد الاطلاع على لائحة مفصلة بأسمائهم، حاملين معهم بعض الأغراض التي سُمح لهم بنقلها معهم، كما صودرت منهم أغراض كثيرة في المطار، من بينها كُتب طلبها الملك الراحل محمد الخامس وكتب أخرى طلبها ولي العهد الأمير مولاي الحسن.
انزعج الفرنسيون لأن خبر مصادرة الكتب قد تسرب إلى الصحافي الذي كان يعمل في الـ «بريتيش باثي»، وأعطت التعليمات للصحافة الناطقة بالفرنسية في المغرب حتى لا تعمم خبر مصادرة الأغراض.
ولاحقا اتضح أن المكتبة الكبرى للملك الراحل محمد الخامس، والتي كانت توجد داخل القصر الملكي بالرباط، قد اختفت، ونُهبت محتوياتها على يد «مجهولين» كانت فرنسا بالتأكيد تعرفهم جيدا. إذ إن مكتبة الملك الراحل كانت تضم الكتب النفيسة والإصدارات التي أهداها أصحابها بأنفسهم إلى الملك الراحل ومنهم علماء في جامع القرويين وعلماء من المشرق خلال زياراتهم إلى المغرب.
هذه الجزئية المتعلقة بمنع الملك الراحل محمد الخامس من اصطحاب بعض أغراضه معه، تكشف إلى أي حد كانت تجربة المنفى أكبر من ترحيل عن القصر الملكي والمغرب، بل كانت سجنا مصحوبا بقرارات تعسفية، أثرت على المحيط العائلي والشخصي للملك الراحل وبقية أفراد أسرته.
عريضة 20 مارس السرية.. أول لائحة
طالب فيها الأعيان بإزاحة محمد الخامس
أغلب المغاربة يعرفون أن يوم 20 غشت 1953، يجسد ذكرى أليمة تتمثل في نفي الملك الراحل محمد الخامس وأسرته إلى خارج المغرب وتعيين ابن عرفة في الأيام القليلة التي تلت الحدث، سلطانا جديدا على المغرب.
لكن الحقيقة أن يوم 20 غشت لم يكن إلا نتيجة لمخطط كبير بدأ مبكرا. إذ تقول بعض المصادر التاريخية إن عدم التفاهم بين الملك الراحل محمد الخامس والإقامة العامة بدأ منذ 1950 بسبب التقارب بينه وبين الحركة الوطنية، وأيضا بسبب فشل التوصل إلى صيغة لإحلال حكومة فرنسية في المغرب.
لكن اليوم الحاسم الذي مهد لنفي الملك الراحل كان هو يوم 20 مارس من سنة 1953، حيث اجتمع الأعيان في مراكش ووقعوا عريضة، كانت سرية جدا في البداية، لكنها سرعان ما تسربت، لكي يتضح أن مهندسها هو الباشا الكلاوي وبعض الأعيان من أصدقائه وأتباعه وممثليه نواحي مراكش.
وهؤلاء تم إغراؤهم من طرف السلطات الفرنسية وتلقوا وعودا بتعيين أبنائهم الذين كانوا يدرسون في فرنسا، في مناصب حكومية في الحكومة الجديدة التي أُخبروا أنها سوف تتأسس فورا بعد إعفاء الملك الراحل محمد الخامس.
ورغم أن فرنسا لم تخبر هؤلاء الأعيان بحقيقة ما كانت تنوي القيام به ولا تفاصيله الدقيقة، إلا أنها أغرتهم بوعود تتعلق بامتيازات إدارية ومالية، وهو ما جعل هؤلاء الأعيان يجمعون معهم عشرين قائدا من أتباعهم لكي ينضموا إلى اللائحة.
الخطير في تلك اللائحة أن الباشا الكلاوي، باعتباره رجلا مشرفا على عدد كبير من القضاة حاول استمالتهم للتوقيع معه لكن محاولته باءت بالفشل، لكنه كان مصرا على أن يكون موضوع اللائحة وهدفها هو سحب السلطات الدينية من الملك الراحل محمد الخامس.
والغريب وقتها أن كبار علماء المغرب كانوا في صف الملك الراحل محمد الخامس وكانوا يعيبون على الكلاوي تحالفه مع فرنسا، ورفضوا بالمطلق الموافقة على مضمون المطلب الذي بُنيت عليه اللائحة أساسا.
في الأسابيع القليلة التي سبقت يوم التوقيعات، كان الملك الراحل محمد الخامس قد وصل إلى الباب المسدود مع ممثلي الحماية الفرنسية بشأن إصلاحات سياسية، كان الغرض منها إفراغ سلطات الملك وجعلها صورية وتفويت الصلاحيات كاملة إلى مجلس حكومي خاص تعينه فرنسا وتشرف عليه.
وقد كانت الصحافة الفرنسية في تلك الأيام تنشر مقالات مغرضة تؤكد فيها أن أعداد الفرنسيين في المغرب بات يسمح بأن تسير فرنسا الشأن السياسي في المغرب.
لكن المشكل أن بعض مضامين معاهدة الحماية تُجبر الإقامة العامة على الرجوع إلى الملك الراحل محمد الخامس في بعض القرارات. وهو ما جعلها تهندس خطة جمع الأعيان الموالين لها، وعلى رأسهم الباشا الكلاوي، لسحب السلطة الدينية للملك الراحل، وهي خطة بطبيعة الحال استهدفت رمزية السلطان.
مكالمات هاتفية سبقت لحظة النفي
الجنرال كيوم كان مهندس قرار النفي، إذ وجد أنه لا يمكن أن يتفاهم مع السلطان محمد بن يوسف الذي بقي متمسكا بالاتصال مع الحركة الوطنية ورفض إصدار قرار رسمي بالتبرؤ منها ومن رموزها السياسية والدينية أيضا. وبما أن محاولات فرنسا ضرب السلطان بالأعيان الموالين لها، قد باءت كلها بالفشل، فقد صار الجنرال يفكر بطريقة المعارك، واقترح أن يتم ترحيل السلطان محمد بن يوسف خارج المغرب، لضرب الحركة الوطنية وتطويقها.
على الساعة الثالثة بعد الزوال من يوم 20 غشت 1953، غادر السلطان محمد بن يوسف مع عائلته على متن طائرة عسكرية أقلته إلى كورسيكا، حيث أمضى بها أشهرا، قبل أن يغادرها هي الأخرى صوب مدغشقر يوم 2 يناير 1954.
ما وقع في الرباط صباح العشرين من غشت، كان كله يؤكد أن حدثا غير عادي سوف يقع. إذ أن القصر الملكي طوق بأمر من الجنرال كيوم وقطعت أسلاك الهاتف في الرباط وانتشر البوليس على طول الطريق بين المطار والقصر الملكي لإفشال أي محاولة للتجمع.
لم يكن أحد من السياسيين المغاربة والوطنيين يعرفون بما كان سيقع بالضبط. لكن كل المؤشرات تؤكد أن حدثا عظيما، غير مسبوق، على وشك الحدوث.
جاء ضابط إلى القصر الملكي يتقدم قوة مسلحة من الجيش الفرنسي، وطلب لقاء السلطان، ثم تلا عليه القرار الفرنسي، وأخبره أن القرار موقع وأنه جاء إلى القصر الملكي لتفعيله على الفور.
إذ أن الأسرة الملكية لم يكن لديها الوقت الكافي للتصرف أو الطعن في القرار الذي كان موقعا من أعلى سلطة في الإقامة العامة الفرنسية.
وفي الوقت الذي كانت فيه الطائرة العسكرية تنتظر، كانت الأسرة الملكية تودع جنبات القصر الملكي، وسرعان ما انتشر الخبر بين الخدم وموظفي القصر الملكي، ورغم حرص القوات الفرنسية التي كانت تطوق الرباط على عدم انتشار الخبر إلى حين إقلاع الطائرة على الأقل، تجنبا لأحداث عنيفة قد تقع احتجاجا على القرار، إلا أن الخبر تسرب بسرعة إلى خارج أسوار القصر. وأيضا، رغم انقطاع خطوط الهاتف، إلا أن مكالمات هاتفية أجريت في الرباط انتشر بسببها الخبر بسرعة. واتضح أن الإقامة العامة لم تقطع خطوط الهاتف في الرباط كلها بل منعت الاتصال بين بعض المدن فقط، وقطعت خطوط الهاتف عن بعض المنشآت ومنازل بعض المسؤولين على الخصوص لتأمين عملية ترحيل السلطان. إذ أن التقارير تؤكد أن واحدة من الأميرات، أجرت اتصالا هاتفيا من مكان إقامتها وأخبرت صديقة لها أن مسؤولين فرنسيين قد جاءوا إلى القصر الملكي للقاء والدها وأخبروه بقرار نفيه هو وأفراد عائلته، وودعت صديقتها التي كانت من أوائل من علموا بالخبر خارج أسوار القصر الملكي، ليصل الخبر في دقائق قليلة فقط، إلى منازل رباطية أخرى من أصدقاء السلطان محمد بن يوسف وبقية أفراد الأسرة الملكية.
«صار بالبال».. العبارة التي كتبها محمد الخامس في أوراق الإقامة العامة
القليلون فقط كانوا يعرفون بأمر عبارة «صار بالبال» التي وقع بها الملك الراحل محمد الخامس على أوراق بروتوكول أرسله إليه الفرنسيون لتوقيعه، لكنه لم يوافق عليه.
حدث هذا في سياق بداية الخلاف بين الملك الراحل والمقيم العام الفرنسي. إذ أن الملك الراحل كان يوقع، بموجب معاهدة الحماية الموقعة بين المغرب وفرنسا سنة 1912، على القوانين، ومقترحات الفرنسية، ويحتفظ لنفسه بحق إصدار الظهائر وتنظيم القوانين المتعلقة بالمغاربة.
وقد أفاد محمد رشيد مُلين الذي ألف مرجعا مهما بعنوان «نضال ملك» سنة 1956 وأهداه إلى الملك الراحل محمد الخامس بعد عودته من المنفى، حيث جمع فيه يوميات وأحداث وإفادات من قلب مكتب السلطان محمد بن يوسف طوال الأشهر والأسابيع التي سبقت المنفى. إذ أن سنة 1953، وحتى السنتين اللتين سبقتاها، كانت كلها تؤشر على اقتراب لحظة صدام بين القصر والإقامة العامة الفرنسية.
يقول مُلين بخصوص عدم موافقة الملك الراحل محمد الخامس على توقيع البروتوكول الفرنسي الذي كان يرمي إلى تقزيم الحركة الوطنية وتقييد العمل الحزبي في المغرب، وحركت فرنسا بعض الأعيان الذين جيشوا قبائلهم للمطالبة بنفس ما كانت تريده الإقامة العامة، بل ذهب مُلين إلى القول في كتابه إن فرنسا أرادت إهانة الملك الراحل عندما أرسلت إليه ذلك البروتوكول. يقول:
« كانت الإقامة العامة تريد أن تدفع سلطان المغرب إلى اتخاذ موقف تجعله مبررا أمـام الحكومة الفرنسية ، لتدبير يجعـل باريز أمام الأمـر الواقـع، فتضطر إلى تعضيد ممثـلها بالرباط ، بالرغم عن عدم تحبيذها لسياسته، إن مصلحة المغرب تحتم أن يعمل السلطان على إحباط هاته الخطة، ولو بالتوقيع على (البروتوكول) الذي أراد له محرروه أن يكون بلاغا يعلنون فيه انتصارهم في معركة لا يفتخر ضابط صغير بذكرها في سجل أعماله، فكيف بقائد عظيم، يرن اسمه في العالمين القديم والجديد لقد أراد الاستعمار أن يهين ملكا جليلا ، وأن يوجه ضربة قاتلة إلى فكرة سامية ومبدأ مقدس ، ولكن أنى له ذلك ؟ لقد حسبوا أنهم بلغوا مبتغاهم حينما جـاء المستشار المسيو (كلوزيل) في الساعة الثامنة مـن مساء ذلك اليوم المشؤوم، يوم الاحد (25) فبراير يرافقه ضابطان، فلما مثل بين يدي صاحب الجلالة مطالبا بالتوقيع، لم يتمالك من التعبير عن تقديره و إعجابه بتضحية هذا الرجل العظيم، الذي وقف قوته وجسمه وفكره على خدمة الشعب ، وها هو بعاطفته في سبيل مصلحة الأمة المغربية نعم إن ملك المغرب كان مضحيا حينما وقع على (بروتوكول) 25 فبراير.. (..) نعم لقد اغرورقت عيناه بالدموع حينما كتب تلك الكلمتين «صار بالبال» التي لا تدل على موافقته بل اطلاعه على البروتوكول. لقد وجه نداء إلى الرب الرؤوف الرحيم المطلع على ما تكنه الصدور.
لقد خرج المستشار ومعه البروتوكول بتوقيع سلطان المغرب وحمله إلى الإقامة، فلم تمر إلا ساعة حتى كانت القبائل راجعة وتاركة العاصمة وراء ظهرها. إن البروتوكول كان سريا لم ينشر. والتصريحان لم يُذاعا إلا يوم الاثنين. فكيف توصلت الإقامة العامة إلى إقناع القبائل؟
إن الحقيقة أن حركة القبائل حركة اصطناعية نظمتها أياد خفية استعمارية استعملت وسائل الإغراء (..) كما أعلنت عن عزل أربعة أفراد من أعضاء المخزن هم وزير الأوقاف السيد أحمد بركاش ومندوب المعارف السيد عبد السلام الفاسي، ومندوب وزارة الاقتصاد والتجارة السيد عبد الله الصبيحي، ومندوب المعادن كاتب هذه السطور..».
مُلين الذي قدم هذه الشهادة النادرة، كان على مقربة أجواء مكتب الملك الراحل محمد الخامس عندما وقع على القرار الفرنسي بعبارة «صار بالبل»، وكانت تلك بداية للقطيعة بين القصر والمقيم العام الفرنسي، وهو ما أدى لاحقا إلى أحداث غشت 1953.
شهادة صحافية عاشت كواليس وتبعات المنفى عن قرب
قليلون هو الإعلاميون الذين كانوا يعرفون حقيقة ما يقع في الإقامة العامة الفرنسية بالرباط خلال صيف سنة 1953. إذ باستثناء التعليمات التي كانت تُرسل إلى الإعلام الرسمي الناطق بالفرنسية، لنقل موقف فرنسا مما يقع داخليا في المغرب، لم يكن ممكنا لأغلب الصحافيين، حتى لو كانوا أصدقاء لشخصيات عسكرية أو مدنية، معرفة ما يدور في رأس المقيم العام وقتها.
لكن بعض الصحافيين غير الفرنسيين، كانوا محط ثقة من طرف شخصيات وطنية، وهؤلاء كانوا أحيانا يعرفون بعض المعطيات أو التسريبات قبل وقوعها بساعات بحكم أن بعضهم كانوا متزوجين من فرنسيات، أو أصدقاء لشخصيات فرنسية في الإدارة أو الأمن، وكانوا رغم انتمائهم إلى جسم الحماية الفرنسية، أصدقاء للمغاربة، وتأسفوا على نفي السلطان محمد بن يوسف، بل منهم من صرح وكتب أنه كان معارضا لقرار النفي.
الصحافية الأمريكية «مارفين هاو» التي عملت في تجربة «راديو ماروك»، وهو أول محطة إذاعية أنشأت في المغرب بداية عشرينيات القرن الماضي برأسمال وإشراف فرنسي، والتي سبق لـ»الأخبار» أن استضافتها في سلسلة «مذكرات» حكت فيها عن تجربتها في المغرب، تبقى أحد قلائل الصحافيين في العالم الذين عاشوا تجربة نفي السلطان محمد بن يوسف عن قرب. وبالرغم من أن لحظة رحيل السلطان عن المغرب رفقة أبنائه تزامنت مع وجود «مارفين هاو» في رحلة نحو الشرق لتغطية رحلة حج سنة 1953، إلا أنها كانت قد واكبت الأيام القليلة التي سبقت المنفى، وكانت على اتصال من بيروت، حيث توقفت لأيام، بالرباط لكي تغطي واقعة المنفى لأكثر من صحيفة أمريكية بالإضافة إلى راديو BBC في لندن.
وبعد عودتها من رحلة تغطية مراسيم الحج لموسم سنة 1953، وجدت أن الرباط لا تزال تعلوها مسحة الحزن بسبب نفي الملك الراحل محمد الخامس، وأعدت تغطيات صحافية عن الأسابيع الأولى في مغرب ما أراد له الفرنسيون أن يكون «مغرب ما بعد محمد الخامس».
تقول «مارفين» إنها لم تشعر خلال الأسابيع القليلة الأولى التي قضتها في المغرب مباشرة بعد نفي الأسرة الملكية، بأن السلطان «ابن عرفة» كان يشكل ثقلا للسلطة المغربية ورمزيتها كما كان السلطان محمد بن يوسف..
وتضيف: «لقد كان في الحقيقة الباشا الكلاوي هو الشخصية التي سُلط عليها الضوء وليس ابن عرفة. وكانت السلطة الفرنسية تريد أن يكون مستقبل المغرب للقياد وليس لطلبة الحقوق الذين كانوا يستعدون للتخرج والعودة إلى المغرب للعمل. إذ أن المهمة الوحيدة التي أوكلتها فرنسا إلى هؤلاء القياد هي توقيع القرارات التي تصوغها لهم».
هذا التحليل الذي قدمته «مارفين» انطلاقا من الموقع الذي كانت تشغله وقتها في الصحافة الرسمية الفرنسية، يبدو دامغا وناسفا للطرح الذي وضع في أكثر من تحليل للواقع المغربي خلال سنة 1953، خصوصا في مسألة توزيع السلط بعد نفي الأسرة الملكية، وما آلت إليه الأوضاع في المغرب بعد 1955 ومن صراع بين الحركة الوطنية والسلطة على الوزارات والحكومات بعد الاستقلال.
تقول «مارفين» إنها أياما قليلة قبل انتهاء مهامها الصحافية في المغرب، قيل لها من مصدر مقرب جدا من الملك الراحل محمد الخامس إن القصر الملكي لم يتوصل إلى اتفاق مع الحكومة الفرنسية لتشكيل حكومة مغربية رغم أن المحاولات بدأت منذ 1950.
سبع محاولات كلها باءت بالفشل ولم تنجح أي منها في إخراج حكومة مغربية إلى الوجود إلى أن انفجرت الأوضاع.
«عندما كنت أستعد للرحيل، جاء إليّ صديقي وقال لي: «مارفين إياك أن تنسي المغرب. لا تدعي عجائب مصر ورحلة الشرق تُنسيك أنك معنية أيضا بالقضية المغربية. عليك أن تعودي بسرعة إلى المغرب، لدينا أخبار كثيرة مقبلة لتغطيها».
وفعلا، تضيف «مارفين»، كان هناك الكثير لكي أتابعه. خصوصا وأنها بمجرد ما إن وصلت إلى ميناء بيروت، حتى وجدت الأوضاع متوترة والشوارع تغص بالمظاهرات.
«في اليوم الموالي لوصولي إلى بيروت وجدتُ الصحف الناطقة بالفرنسية في لبنان تكتب أن السلطان محمد بن يوسف قد أبعد عن العرش، وأن ابنه الأصغر مولاي عبد الله قد نُصّب خليفة له. لم أصدق الخبر نهائيا، ولم أتصور أن يصبح الأمير مولاي عبد الله الذي كان غاية في الهدوء واللطف خليفة لوالده السلطان. قررت مباشرة بعد اطلاعي على الخبر أن أعود أدراجي إلى الرباط وأن أشتغل على هذه التطورات للصحافة الأمريكية».
تضيف «مارفين» إنها بعد إجراء بعض الاتصالات اتضح لها أن الصحافة في لبنان ارتكبت خطأ قاتلا لأنها نشرت أخبار غير صحيحة بالمرة مصدرها إشاعات لم يتم التحقق منها. لأن السلطات الفرنسية أعلنت بعد ذلك أن الأسرة الملكية نُفيت إلى «كورسيكا»، وأن أحد أبناء عمومة السلطان، وهو «ابن مولاي عرفة»، قد اختير لكي يجلس على العرش.
والمثير أن «مارفين» سبق لها محاورة الباشا الكلاوي في الراديو، وكانت تعلم بطبيعة شخصيته ورفضت أن تُجري حوارا معه بعد نفي الملك محمد الخامس، لكي تؤكد لأصدقائها الوطنيين المغاربة احترامها لمشاعرهم.