كواليس الأسابيع التي سبقت توقيع معاهدة الحماية في مارس 1912
ماذا جرى فوق طاولة قصر فاس؟
«أخيرا أظهرت صك الحماية، وطلبت من السلطان أن يمضيه، فإذا أبى وماطل وهدد بالتنازل عن العرش، لم تقبل تنازله إلا بعد الإمضاء، وأخيرا، وفي الثلاثين من مارس 1912 أمضى الصك. وبعد أقل من أربعة أشهر (29 يوليوز)، قام نائب برلماني في مجلس النواب الفرنسي ووصف اتفاقية الحامية بأنها «الاتفاقية الخطيرة، اتفاقية التدليس والغش والخداع»، وزاد فقرأ على النواب احتجاجا قويا صارما صادرا عن مولاي عبد الحفيظ، جاء فيه: «نؤكد أنه لم يسبق أن وقعت استشارة جلالتنا من قبل، ومن المعلوم أن المغرب دولة ذات مميزات تامة السيادة، ولا يمكن تحديد مصير سبعة ملايين من المسلمين دون النظر بعين الاعتبار إلى مشاعرهم السلالية والدينية، والواقع أن جنابنا الشريف يمثل شعبا لم يسبق استعماره قط، كما أنه لم يكن خاضعا لأي سلطة أجنبية، ولا مستعبدا من طرفها، ويتعلق الأمر بإمبراطورية ظلت متمتعة بكامل الاستقلال، منذ قرون وأجيال».
يونس جنوحي
عندما قال السلطان: الإمبراطورية المغربية لا يمكن أن تُعتبر أرضا مُستعمرة
عندما بويع المولى عبد الحفيظ سنة 1908، لكي ينقذ المغرب «مما آلت إليه الأوضاع»، بحسب ما كان يراه العلماء وقتها، من تحكم للأجانب في الشأن الداخلي المغربي، كانت الاتفاقيات بين كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا قد وصلت إلى مرحلة متقدمة، لم يعد معها احتلال فرنسا للمغرب إلا مسألة وقت.
ورغم أن مؤرخين مغاربة وأجانب أكدوا أن المولى عبد الحفيظ بذل قصارى جهده لكي يخرج بأقل الخسائر من القاعة التي وقع فيها معاهدة الحماية، إلا أن الكثير من الغموض بقي يلف النقاط الإيجابية التي دافع عنها مولاي عبد الحفيظ، لضمان مصالح المغرب، لكنها أخفيت ليكتشف السلطان أنه وقع ضحية مؤامرة فرنسية متكاملة الأركان، باعتراف الفرنسيين أنفسهم كما سوف نرى في هذا الملف.
وُقع اتفاق فرنسي ألماني سنة 1911، تخلت بموجبه ألمانيا عن منافسة فرنسا في المغرب. وهكذا كتب المولى عبد الحفيظ، حسب ما أورده الباحث المغربي محمد العربي الشاوش، في بحث أكاديمي بعنوان «أسرار من موقف المولى عبد الحفيظ من معاهدة فاس» والذي أنجزه سنة 1985، وتحدث فيه عن موقف المولى عبد الحفيظ من الاتفاق الفرنسي الألماني، وجاء فيه: «لكن الظروف المتأزمة التي جلس فيها على العرش لم تساعده على إنجاز ما تعهد به. وانفجرت الثورة الشعبية من جديد ضد الوضعية المتدهورة في البلاد، خاصة بعد الاتفاق الفرنسي الألماني عام 1911 الذي تخلت بموجبه ألمانيا عن معارضة فرنسا في التدخل في شؤون المغرب.
رسالة تاريخية للمولى عبد الحفيظ بخطه وإمضائه تفضح معاملة رجال الحماية الفرنسية له رحمه الله على إثر هذا الاتفاق الخطير، بادر السلطان بتقديم مذكرة بالغة الأهمية إلى وزارة الخارجية الفرنسية، جاء فيها ما نصه: «إن شرف الإمبراطورية (المغربية) واعتبارها، واحترام تقاليدها، يلزم أن يبقى كما كان في الماضي كاملا غير منقوص، بحيث لا يمس بحال من الأحوال. والحكومة الفرنسية لا تجهل أن السلطة الحاكمة لم تزل موضوعة بين أيدي العائلة العلوية منذ أربعة قرون، فلا بد من أن تحفظ لها هذه الحرمة. ولفت نظر الحكومة الفرنسية إلى الحقيقة الواقعة، وهي أن المغرب منذ الفتح الإسلامي لم ينضم إلى أية دولة أجنبية كمستعمرة من المستعمرات. وأنه منذ ثلاثة عشر قرنا لم ينقطع عن التمتع باستقلاله التام. ولهذا السبب نفسه لا يمكن أن تعتبر الإمبراطورية الشريفة في المستقبل أرضا مستعمرة». ولعل هذا النص يوحي بما شعر به مولاي عبد الحفيظ من سوء نية فرنسا نحو المغرب، وأنه وضعها أمام مسؤولياتها المستقبلية».
السفير الفرنسي رينو.. عرّاب مهندسي طاولة معاهدة فاس
لم يكن هذا الأخير سوى واحد من موظفي الإدارة الفرنسية الذين توافدوا إلى فاس، قبل التوقيع على معاهدة الحماية. بل إن سفراء آخرين حلوا قبله في فاس، لكنه دخل التاريخ باعتبار أنه رعى وصول سياسيي فرنسا وممثلي الحكومة الفرنسية عند جلوسهم مع المولى عبد الحفيظ لتوقيع المعاهدة، استكمالا للاتفاق الفرنسي الألماني الذي يعود إلى سنة 1911.
كان السفير رينو، وهو يتحرك في فاس، غير مكترث لتبعات سيره في الطريق نحو القصر الملكي، لأن القلق الأمني وقتها لم يعد واردا، بعد أن بسط جيش فرنسا نفوذه لتأمين المنطقة كاملة. ولو أن الوفد الفرنسي جاء إلى فاس، قبل أشهر، لكان تأمين السلامة الجسدية لأعضاء الوفد، مهمة شبه مستحيلة.
ما قامت به فرنسا، أنها تحايلت على المغرب في الأسبوع الأخير الذي سبق توقيع معاهدة الحماية، وتخلت عن أقوى ما اتفقت عليه مع المولى عبد الحفيظ، أسابيع فقط بعد التوقيع.
وكان السفير الفرنسي رينو أحد المساهمين الكبار في هذه العملية.
نستكمل مع الباحث المغربي محمد العربي الشاوش، وهو للإشارة أحد أوائل الباحثين المغاربة الذين انكبوا خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، على تفحص الوثائق الفرنسية التي كشفت الموقف الحقيقي للمولى عبد الحفيظ، وكيف جرى الالتفاف عليه من لدن موظفي الخارجية الفرنسية.
واستغلت فرنسا اتفاقا مع المولى عبد الحفيظ يهم تأمين الجيش الفرنسي لفاس، على خلفية أحداث انفلات أمني خطيرة عمت المدينة وبعض أقاليم المغرب، بسبب الوجود الفرنسي في البلاد، ما بين يناير وبداية مارس 1912. يقول:
«لكن الدبلوماسية الفرنسية استغلت ظروف تحول قيادة الجيش الفرنسي في فاس من وضعية التعاون العسكري إلى وضعية الإرهاب ومحاصرة السلطان، فأوفدت السفير (يوجين رينو) لمحاولة إقناع السلطان بفكرة معاهدة الحماية، في محادثات طويلة كان يقوم بدور الترجمة فيها قدور بن غبريط، الذي كان يحظى بثقة السلطان. غير أن جلالته لم يقتنع بنظرية الحماية وعارضها بشدة، بل هدد بالاستقالة أمام إصرار السفير الفرنسي على إقناعه بوجهة النظر الفرنسية. وأمام هذا الموقف ندرك قسوة الإكراه الذي مارسته الدبلوماسية الفرنسية على مولاي عبد الحفيظ، معززة بالقوة العسكرية المرابطة في فاس.
كان السفير رينو يقدر أن استقالة السلطان إحباط لمهمته الاستعمارية، ولذلك مارس كل الضغوط لبقائه في الحكم مع مواصلة المحادثات في موضوع الحماية. ودامت جلسة يوم 29 مارس 1912 ست ساعات (من 6 مساء إلى 12 ليلا)، بالقصر الملكي بفاس. وفي صباح 30 مارس تم توقيع معاهدة الحماية في ظروف غامضة، وفي جو يُشْعِرُ بالإكراه والابتزاز. وقد أعرب عن ذلك الكاتب الفرنسي (روبير رينار)، في ما نقله عنه الكاتب الإنجليزي (روم لاندو) في كتابه (تاريخ المغرب في القرن العشرين – ط 2) قال: «إن السيد رينو قاد هذه المفاوضات المضنية باللجوء إلى الوعد مرة وإلى الوعيد أخرى، وبفضل أسلوبه هذا انتهت المفاوضات التي طال أمدها بالنجاح وتوجت بتوقيع المعاهدة».
++++++++++++++
عندما احتج مولاي حفيظ: «لم تتم استشارتي من قبل»
كُتب الكثير عن كواليس معاهدة الحماية، وما وقع في الأسابيع الأخيرة التي سبقت توقيعها.
لكن موقف السلطان مولاي عبد الحفيظ غُيب من طرف عدد كبير من الباحثين، خصوصا المتعاطفين مع سياسة فرنسا في المغرب، أو الذين اعتمدوا مصادر فرنسية فقط في عملية التوثيق. والسبب أن فرنسا غيبت موقف مولاي عبد الحفيظ، حتى لا تُفضح عملية التجاوز التي قامت بها فرنسا لصلاحياته، باعتباره سلطانا للمغرب.
جاء في بحث أكاديمي اعتمد على ما نقله الملك الراحل الحسن الثاني في مذكراته «التحدي»، وأيضا على مضامين أرشيف مداخلات النواب الفرنسيين في البرلمان الفرنسي، أثناء جلسات مناقشات تطورات الأحداث في المغرب، مباشرة بعد توقيع معاهدة الحماية سنة 1912، وهي الوقائع التي اهتم بها الملك الراحل الحسن الثاني كثيرا، ودقق فيها منذ أن كان وليا للعهد، وانشغل بها وصرح لمسؤولين فرنسيين، سيما موظفي الإقامة العامة الذين تعرف عليهم عندما كان يرافق والده السلطان محمد بن يوسف، في اجتماعات القصر الملكي في أربعينيات القرن الماضي. هذا البحث الذي أعده الأكاديمي المغربي عبد الله العمراني، بعنوان – صور من ماضي الحماية- نقتطف منه ما يلي:
«بعد أن احتلت فرنسا الجزائر سنة 1830، وفرضت حمايتها على تونس سنة 1881، شرعت تعمل كل ما في وسعها لإيقاع المغرب في شباك سيطرتها الاستعمارية، فعقدت مع دول أوروبية استعمارية منافسة اتفاقيات ودية، ومعاهدات تراض ومقايضة في السنوات 1904-1906- 1910- 1911، وأخذت تثقل كاهل المغرب بالسلفات والقروض التي لم يكن يستلم منها إلا القليل، وصارت تشاكس، وتستفز، وتشجع الفتن الداخلية، حتى إذا تحرك الشعب، أوعزت إلى صاحب الجلالة مولاي عبد الحفيظ (1908- 1912) أن يطلب نجدة جندها وحمايته، وكانت في ذلك «تسر حسوا في ارتغاء»، كما قال المثل العربي.
وأخيرا أظهرت صك الحماية، وطلبت من السلطان أن يمضيه، فإذا أبى وماطل وهدد بالتنازل عن العرش، لم تقبل تنازله إلا بعد الإمضاء، وأخيرا، وفي الثلاثين من مارس 1912 أمضى الصك. وبعد أقل من أربعة أشهر (29 يوليوز)، قام نائب برلماني في مجلس النواب الفرنسي ووصف اتفاقية الحماية بأنها «الاتفاقية الخطيرة، اتفاقية التدليس والغش والخداع»، وزاد فقرأ على النواب احتجاجا قويا صارما صادرا عن مولاي عبد الحفيظ، جاء فيه: «نؤكد أنه لم يسبق أن وقعت استشارة جلالتنا من قبل، ومن المعلوم أن المغرب دولة ذات مميزات تامة السيادة، ولا يمكن تحديد مصير سبعة ملايين من المسلمين دون النظر بعين الاعتبار إلى مشاعرهم السلالية والدينية، والواقع أن جنابنا الشريف يمثل شعبا لم يسبق استعماره قط، كما أنه لم يكن خاضعا لأي سلطة أجنبية، ولا مستعبدا من طرفها، ويتعلق الأمر بإمبراطورية ظلت متمتعة بكامل الاستقلال، منذ قرون وأجيال».
الحرب «المسكوت عنها» بين فاس ومراكش بسبب فرنسا
نتحدث هنا عن الأيام الأخيرة من سنة 1911، والأسابيع الأولى من سنة 1912، طيلة شهري يناير وفبراير. إذ إن انقلابا كبيرا وقع في موقف المدني الكلاوي، حاكم مراكش والأخ الأكبر للتهامي الكلاوي، الذي سوف يصبح لاحقا قائدا لأكبر حملة دعم مغربية لفرنسا. بعد أن كان المدني الكلاوي مهندس دعم قبائل جنوب المغرب للمولى عبد الحفيظ سنة 1908، لكي يصل إلى العرش ويحارب «الكفار»، أصبح المدني الداعم الأول للجيش الفرنسي، خصوصا عندما رأى بنفسه كيف أن قوادا كبارا وأقوياء، لم يقووا على مواجهة الجيش الفرنسي الحديث في مواجهات عبدة ودكالة وأحداث وجدة. ورغم أنه كان محافظا إلى حدود سنة 1908، إلا أنه سرعان ما تراجع عن مواقفه.
كان دعم المدني الكلاوي لفرنسا في الأطلس موضوع ملفات كثيرة أثرناها أكثر من مرة، وكانت نتيجة التنقيب في المصادر، سواء المغربية أو الفرنسية، تخلص إلى خلاصة واحدة مفادها أن الأسابيع القليلة التي سبقت توقيع معاهدة الحماية، كانت أحداثها محفوفة بالكثير من الزوابع، التي جعلت الرؤية الواضحة للكواليس غير ممكنة لعدد من الشخصيات.
سبق أيضا وأن أثرنا كيف أن المعارضين لوجود فرنسا في المغرب، سيما في جامعة القرويين، قد سارعوا إلى تكفير الذين حملوا السلاح لصالح فرنسا. لكن الأمور كانت أكبر من أن يُثير المعارضون الانتباه إليها.
نحن نتحدث عن قوة عسكرية ضخمة، يؤازرها عشرات الآلاف من المحليين الذين كانوا معتادين على «حْركات» المخزن القديمة، واعتادوا أيضا على ركوب البغال لأيام وصعود المناطق الجبلية الوعرة، وخوض حروب زمن «السيبة»، والخروج عن طاعة «المخزن»، وتنفيذ الغارات ضد القبائل.
كانت بعض القبائل تكن لأخرى عداوات كثيرة، وحسابات تاريخية قديمة، استفادت منها فرنسا لاستعمالها ضد بعضها في تلك الحرب التي كان الغرض منها، كما أوضحنا سابقا، هو إطباق السيطرة على الجنوب وعلى منطقة الأطلس عموما، بحكم أنها كانت عصية تماما على الاختراق.
كانت المواجهة العسكرية مع قبائل آيت بوغامز دامية، واستعملت فيها الطائرات لتنفيذ غارات ضد آلاف الرجال المرابطين في الجبال، ظنا منهم أن الآلة العسكرية الفرنسية لن تصل إليهم. بالإضافة إلى مئات جنود المدفعيات الثقيلة التي وصلت لأول مرة إلى الجبال، محمولة على ظهور المقاتلين المغاربة، الذين مكنوا فرنسا لأول مرة في تاريخها، من استعمال المدافع الثقيلة، وسط الجبال.
هذه المواجهات أسفرت عن مقتل آلاف المغاربة. وهو ما أورده المؤرخون المغاربة الذين عاشوا تلك الأحداث، أمثال المؤرخ عبد الرحمن بن زيدان، أو الذين عاصروا الذين كانوا في قلبها وشاركوا فيها، وسجلوا شهاداتهم، أمثال المؤرخ عبد الكريم الفيلالي.
وكان هؤلاء المؤرخون المغاربة قد أثاروا مسألة احتماء عدد من الأعيان المغاربة بجنسيات أجنبية، ولم يجدوا حرجا في رفع أعلام دول أوروبية فوق منازلهم، أسابيع قبل توقيع معاهدة الحماية، لكي يضمنوا عدم سريان القوانين التي سنها القواد المناهضون لفرنسا عليهم.
وهذه الوقائع كلها أدخلت المغرب في دوامة من الاحداث، وامتدت لسنوات قبل أن «تتعايش» نخب المخزنيين والأعيان المغاربة مع واقع المغرب الجديد. وكان مجيء المولى يوسف إلى السلطة عنوان مرحلة مغربية جديدة، تعامل فيها المخزن بمرونة مع مضامين المعاهدة.
بن غبريط.. رجل فرنسا الذي أعدّ لطاولة توقيع المعاهدة
«من جهة أخرى كان بن غبريط يعيش صعوبات في مهمته. كان في الأصل قاضيا في الجزائر، وأرسل إلى المغرب ليمثل دور الوسيط للإقامة الفرنسية لما يزيد على 17 سنة. خلال تلك الفترة أرسل إلى كثير من المهمات الحساسة، وتمت ترقيته في السلم الإداري وأشرف على الاستعلامات العامة، وكان يستفيد جدا من ديانته، لأنه كان مسلما، ويتحدث العربية بطلاقة شديدة. وبالتالي فإن الجميع يتعامل معه دون قيود أو موانع. لكنه أسر لي أنه كان يعاني صعوبات وعاش ويلات كثيرة في فاس، قبل قدوم مولاي عبد الحفيظ. في تلك الفترة كانت البلاد تعيش أزمات حقيقية، ونشأت علاقات بين فرنسا وألمانيا، وكانوا يحاولون احتواء الأوضاع في المغرب.
الآن، يتضح جليا أنه في الدار البيضاء يوجد ظل لمولاي حفيظ. بن غبريط رجل فرنسا القوي، أرسل كي ينافس وجود «فاسيل» الألماني. مولاي حفيظ بذل قصارى جهده ليوازن بين الدولتين ويورطهما، حيث كان يعتقد أنه سيحتمي بألمانيا من الشبح الفرنسي الذي يقض مضجعه».
بهذه الكلمات وصف الصحافي البريطاني لاورنس هاريس، الذي زار قصر السلطان مولاي عبد الحفيظ، قبل توقيع معاهدة الحماية بثلاث سنوات، لكنه تنبأ بها وأدرك مبكرا أن استفراد فرنسا بالمغرب عن بقية الدول الأوروبية المتنافسة، ليس إلا مسألة وقت فقط.
هذا الصحافي كان أول من انتبه إلى الدور الذي لعبه الموظف بن غبريط في عملية تمثيل فرنسا، ومحاولة إقناع السلطان المولى عبد الحفيظ بالابتعاد عن الألمان والإنجليز، وعدم قبول الهدايا والعروض التي قدموها إليه.
والحقيقة أن بن غبريط لم يكن الجزائري الوحيد الذي جاء إلى المغرب، مع بداية القرن الماضي، لكي يلعب دورا في الهندسة لتوقيع معاهدة الحماية، بل هناك جزائريون آخرون كانوا مكونين على يد الفرنسيين في الجزائر، وجاؤوا إلى المغرب للاشتغال في الإدارة التي تنوي فرنسا تأسيسها في المغرب، بموجب اقتراحات بنود معاهدة الحماية. هؤلاء جاؤوا إلى المغرب قبل صياغة المعاهدة، وكانوا يمثلون عين فرنسا ويرعون مصالحها ويحاولون خلق نوع من الامتداد، باستمالة الأعيان والمثقفين المغاربة وقتها لكي يكونوا في صفهم.
هل نجح بن غبريط في مهمته؟ الواضح أن الرجل كان قد تملكه السرور الكبير وهو يرى كيف أن الوفد الفرنسي قد جلس فعلا إلى طاولة واحدة مع المولى عبد الحفيظ لتوقيع المعاهدة، لكن فرحته الكبرى كانت في الحقيقة قد بدأت قبل التوقيع، عندما لاحظ أن بعض أثرياء المغرب قد بدؤوا يتسابقون في ما بينهم للفوز بصداقته، خصوصا وأنه روج لنفسه في كل من فاس والرباط، أنه يتمتع بنفوذ كبير لدى ممثلي فرنسا وبريطانيا في المغرب، وأن مجرد رسالة منه إلى المسؤولين الأوروبين في طنجة الدولية، تكفي لقضاء مصالح أغنى أثرياء فاس وأكثر رجالها نفوذا.
هل صحيح أن فرنسا حسمت احتلال المغرب منذ 1880؟
هناك طرح تاريخي مفاده أن مستقبل المغرب قد نوقش في مؤتمر مدريد 1880، وأن السنوات اللاحقة كانت فقط تشهد كواليس صراع دول أوروبا لكي تفعّل فرنسا ما خططت له، وهو ضم المغرب إلى مستعمراتها، وبحث تسوية مُرضية مع الألمان والإنجليز والتنازل لهم عن مستعمرات في القارة الإفريقية، مقابل أن يُخلوا لها ساحة المنافسة على المغرب.
اتفاق مدريد نص على ضمان امتيازات لشخصيات مغربية كانت تعمل مع شركات أجنبية.
وكان هذا يعني أن هؤلاء التجار أو الموظفين المغاربة، لم تعد تسري عليهم القوانين المغربية، رغم أنهم كانوا مغاربة مقيمين في المغرب.
وهذه الخطوة كانت أول المسامير التي دقت في نعش مشروع الدفاع عن استقلال المغرب عن دول أوروبا، وعلى رأسها فرنسا.
هذه الخطوة أشعلت فتيل الاضطرابات السياسية في المغرب.
من كان يحكم البلاد وقتها؟ كان المولى الحسن الأول يصارع لمنع وقوع تمردات داخلية، ونجح فعلا في مسعاه، وظل المغرب، رغم سريان مفعول اتفاقية مدريد، لا يزال يعيش على أمل التخلص من التهديد الفرنسي الذي صار وقتها أقرب من أي وقت مضى.
ورغم أن فرنسا كانت تحاول الوصول إلى قصر فاس، إلا أن المولى الحسن الأول كان يتبرم من استقبال مبعوثي الخارجية، والذين كانوا يأتون من فاس، قادمين إليها من طنجة ومعهم مترجمون وموظفو المفوضية الفرنسية في المدينة.
كان لدى فرنسا وزير خارجية اسمه «دو بيلكاسة». وقد أشارت إليه عدد من المراجع المغربية. من أهمها الدراسة التي نشرتها مجلة الأوقاف، دعوة الحق، في عددها 150، والتي كان عنوانها: «التمهيدات السابقة لمعاهدة الحماية وأثرها على الوضع المغربي».
وهذه الدراسة أشارت إلى دور وزير الخارجية الفرنسي، في تقوية حظوظ فرنسا قبل أزيد من عشرين سنة على توقيع معاهدة الحماية، والكواليس التي سبقت توقيعها منذ 1904. وهو ما يعني أن فرنسا قضت أزيد من عقدين لتنفيذ المخطط الرامي إلى توقيع معاهدة الحماية. من أقوى ما جاء في هذا البحث: «وقد استطاع هذا الوزير بالفعل أن ينحي إيطاليا عن المشكلة المغربية بالتناول عن معارضتها في ما تقوم به في طرابلس الغرب، كما استطاع أن يقيم معاهدة بينه وبين إنجلترا سنة 1904 ولم ينشر للعموم كل بنودها، بل ترك جزءا منها سريا وهذا الجزء السري كان له أثر كبير في تسلط فرنسا على المغرب، دون أن تجد معارضة من إنجلترا، لأن فرنسا بموجب هذا الاتفاق ستتنازل هي أيضا بدورها عن معارضة الإنجليز في حكم مصر.
وفي هذا الاتفاق وقع الإشعار بتقسيم الأرض المغربية، وحددت الخريطة الجديدة التي ستصبح للمغرب، بعد أن تأخذ إسبانيا جزءا منه.
ونحن إذا أضفنا إلى هذه المعاهدات وجود التحالف الثنائي الذي كان بين فرنسا وروسيا، للتضييق على ألمانيا، لعلمنا أن فرنسا لا تتوقع من روسيا أي اعتراض.
إذن فلماذا تأخرت فرنسا عن تحقيق أهدافها وتنفيذ خطتها؟
السبب في ذلك ليس مرجعه باقي الدول الموقعة على وثيقة مدريد، وإنما سببه فقط التخوف من معارضة ألمانيا وحدها».