لا ينزعج المحامي من عبارة محام متدرب، بل يفخر بقضاء فترة تدريب في مكتب قطب من أقطاب الدفاع. في سابقة من نوعها في المغرب، قرر وزير العدل السابق، محمد أوجار، إنشاء معهد خاص بتكوين المحامين، وهو ما اعتبره أهل القضاء عتقا لرقاب العديد من المحامين المتدربين من تعنت مكاتب أصحاب البذل السوداء الممارسين. لكن يبدو أن مشروع أوجار لم يجد طريقه إلى التنفيذ، رغم تحمس كثير من الراغبين في دخول عالم الدفاع القضائي للفكرة، مطالبين بمعاهد جهوية للتكوين، وداعين أوجار إلى الاستعانة ببعض المحاكم التي تم الاستغناء عنها في هذا المجال، لجعلها فضاء لتقديم الدروس النظرية والتطبيقية.
التدريب ليس وليد اليوم، إذ غالبا ما يقضي المحامي المتدرب سنة ونصف من التدريب في المحاكم، وفي زمن مضى كان القضاء فيه مقسما بين قضاء يتعلق بالأحوال الشخصية التي تهم المسلمين، وآخر يتعلق بالمحاكم العبرية التي تهم اليهود، فيما القضاء العصري كان يبت في القضايا التي تهم الفرنسيين، وكذا المتعلقة بالنزاعات بين المغاربة والفرنسيين، أو القضايا الكبرى كقضايا الشركات والبنوك، وإن كان أطرافها مغاربة.
عندما كان عباس الفاسي محاميا متمرنا، كان يتعلم دروسه الأولى في مكتب محاماة امحمد بوستة، الأمين العام الأسبق لحزب الاستقلال. وأغلب الأمناء العامين السياسيين للأحزاب المغربية خرجوا من مكاتب المحامين، ومنهم من حول وجهته إلى السياسة وأصبحت مصدر رزقه الأول.
بدأ عبد الرحمان اليوسفي محاميا متدربا في الديار الفرنسية، على غرار عبد الرحيم بوعبيد والمعطي بوعبيد وعبد اللطيف السملالي، وحين استوزروا أسندوا أمور مكاتبهم لمحامين لا يقلون عنهم شأنا. لكن العديد من الوزراء يغفلون فترة التدريب التي قضوها في مكاتب محامين مغاربة وأجانب، ويقفزون عليها.
حسن البصري
رضا كديرة.. تعرف على زوجته في مكتب محام فرنسي
بعد حصول أحمد رضا كديرة على دبلوم معهد الدراسات القانونية العليا بالرباط، قرر الشاب ابن المدينة القديمة للعاصمة البحث عن يد تنتشله من المغرب وتساعده على استكمال دراسته الجامعية في فرنسا، سيما بعد أن قطع عدد من رفاق دربه الدراسي مضيق البوغاز واستقر بهم المقام في الجامعات الفرنسية. ولأنه كان يعاني من اليتم والخصاص، فقد تحمل عمه العربي تكاليف الرحلة إلى باريس، ومكن ابن شقيقه من تحقيق طموحاته.
غير أن الفضل الكبير في اندماج اكديرة، في عالمه الجديد، يرجع إلى فتاة تعرف عليها خلال تردده على مكتب المحامي الفرنسي جورج إيزار، حيث كان يقضي فترة تدريب، وهي شابة فرنسية تدعى كريستيان دوفال فونتينبلو، وهي ابنة عسكري فرنسي شارك في الحرب العالمية الأولى ولقي حتفه فيها، بل إن عائلتها لها ارتباط وجداني بالعسكر حيث شارك جدها في جيش نابليون، مما يعطي انطباعا أوليا عن تربيتها الصارمة.
اقترح أحمد على كريستيان تحويل علاقة العشق المتبادل إلى زواج، واتصل بوالدته لإخبارها بهذا الارتباط، في الوقت الذي كانت الوالدة تخطط لزواج عائلي، وفي أول زيارة لكريستيان إلى الرباط وقعت أسيرة حب غير مسارها، وأجبرها على إقناع شقيق والدها العسكري بضرورة الخضوع لنبض قلبها الذي خفق لشاب مغربي ضدا على الضوابط العسكرية الصارمة التي كانت تسيطر على أجواء الأسرة.
كان جورج يملك مكتبا للمحاماة في باريس، وكان نائب رئيس لجنة “فرنسا-المغرب”، رمته الصدف المهنية في وقت مبكر من مساره في مغامرة شمال-إفريقية، حيث جعلت منه مدافعا عن السلطان محمد الخامس في المنفي.
قال عنه الملك محمد الخامس: “إني أقدر دفاعك عن القضية المغربية قبل الدفاع عن شخصي، وأعرف جهودك لنصرة الدستوريين الجدد، وباي تونس، وقادة الاستقلال وأرملة فرحات حشاد، وما تتعرض له من متاعب”.
نهل أحمد رضا كديرة من هذا المعين القانوني دون أن يعلم بأنه سيصبح يوما مستشار الملك الحسن الثاني والرجل القوي في بلاطه. وبعد عودته من فرنسا فتح مكتب محاماة بزنقة 18 يونيو بالرباط، وكانت أول قضية يرافع فيها هي الدفاع عن صديقه رشيد ملين أمام سلطات الحماية سنة 1952، في وقت وصلت فيه العلاقة بين فرنسا والحركة الوطنية درجة بالغة من التشنج.
بين المحاماة والصحافة والسياسة، تاه الرجل الذي ترك مكتبه رهن إشارة عدة محامين، قبل أن يتأبط حقائب وزارية ويصبح مقربا من الملك.
برر المستشار الملكي السابق عبد الهادي بوطالب ابتعاد كديرة من السياسة والقضاء وعدم الإقبال على زيارته من طرف الوزراء وهو على فراش المرض، لعلاقته المتوترة مع محيطه، وقال إن “علاقة رضا كديرة مع زملائه مرت بمرحلة فيها نوع من الاستفراد بوظيفة المستشار. وقبل وفاته تغير طبعه فأصبح بشوشا متعاطفا مع الجميع. لكن علاقته بالملك اعتراها بعض الفتور في السنوات الأخيرة من عمره ساهمت في عزلته وعدم اقتراب رفاقه من مقر سكناه خوفا من مضاعفات زيارة رجل غضب منه الملك”.
آخر لقاء له بالملك كان خارج التوقعات واعتبارات الزمان والمكان أيضا. إذ إن النظرة الأخيرة التي ألقاها الملك الراحل على اكديرة، في آخر أيام حياته، كانت في فيلا صغيرة ومتواضعة بتمارة، لينتهي كل شيء في علاقة الرجل بالحكم.
في يوم الخميس 14 دجنبر 1995، توفي أحمد رضا اكديرة في إحدى مصحات باريس. رافقته زوجته كريستين في آخر نبضات قبله، وحين توفي قررت اعتناق الديانة الإسلامية، حتى تدفن إلى جانب قبره في نفس مقبرة الشهداء.
وهبي.. فترة تمرين في مكتب مؤسس حزب الطليعة
كان مكتب أحمد بن جلون، الكاتب العام السابق لحزب الطليعة الديمقراطي الاشتراكي، قبلة لعدد من المحامين اليساريين الشباب الذين اتخذوه محطة تمرين قبل دخول عالم المحاماة. فقبل وفاته ترك وصية لأعضاء حزبه، في كلمة مسجلة وجهها إلى مؤتمرهم السابع، حيث أوصى بمواصلة النضال لتحقيق المطالب المشروعة كالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، والاستمرار في معركة البحث عن ديمقراطية حقيقية، قائمة على سلطة الشعب، كما أوصى المحامين الشباب بتبني القضايا السياسية والحقوقية دون تعويضات في إطار النضال السياسي.
أجمع كثير من السياسيين، الذين تمرنوا على يده، على أن أحمد كان يستيقظ باكرا، يتناول فطوره ويطالع أجندته، ويرتدي بذلة المحاماة استعدادا لجلسة الترافع عن قضية ما، وحين ينتهي من عمله لا يمكنه العودة إلى البيت مباشرة، إذ يتوقف في مقهى “الموناليزا” القريبة من مكتبه، التي يدخلها وفي ساعده بذلته السوداء متأبطا مجموعة من الجرائد والمجلات، “يأخذ قهوته ويطالع الجرائد ويحاول فك كلماتها المتشابكة وكأنه أمام شبكات عالقة في حياته المهنية والسياسية ويكسرها بسيجارته المعتادة”، على حد تعبير ابنه عمر محمود.
من أبرز الوزراء الذين تمرنوا في مكتب بن جلون، وزير العدل عبد اللطيف وهبي، وهي محطة مهمة في مسار الرجل، خاصة حين التحاقه بمهنة المحاماة سنة 1989، إذ كان محاميا متدربا بمكتب أحمد بنجلون الشقيق الأصغر لعمر بنجلون، قبل أن يفتتح مكتبا بالرباط سنة 1992.
تقول بعض الكتابات التي رصدت سيرة وهبي، إنه “في أفضل الأحوال كان يستظل بظل غيره، وبالنظر إلى مكانة أحمد بنجلون السياسية وعرقه النضالي فطبيعي أن يكلف بالدفاع في ملفات سياسية ضخمة عرضت على القضاء، وطبيعي أن يشارك وهبي حينها أستاذه بنجلون في بعض تلك الملفات ولو من باب الحضور لإرواء الفضول كأي محام مبتدئ”.
لم يتبع وهبي ملة بن جلون السياسية واختار الانضمام لمكتب محلي لشبيبة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية عندما كان يافعا في ضواحي تارودانت، رغم أنه قضى فترة تمرين في حزب الطليعة الذي أسسه ممرنه أحمد بنجلون.
أمين عام الشورى والاستقلال.. متدرب بمكتب محام يهودي
عبد الواحد العياشي، من مواليد سنة 1938، لكن الاسم العائلي سيتحول، مع مرور الوقت إلى معاش. أصوله العائلية من قرية إيموزار كندر على سفوح جبال الأطلس المتوسط، حيث عاش في وسط عائلي بسيط، إذ كان والده تاجرا للمواد الغذائية في المنطقة، قبل أن تنتقل العائلة من إيموزار إلى فاس. والده كان يريد أن يراه يوما فقيها وهذه هي أمنيته، لكنه سيصبح فقيها في القانون، “ربما خاب ظنه في ولم أحقق حلمه”، كما عبر عن ذلك بأحد حواراته. هو أيضا شقيق الجنرال أحمد الدليمي، فوالدته أرضعت الدليمي وكان هذا الأخير يقبل يديها ويقول لها أنت أمي.
نشأ معاش في زنقة عين الخيل بفاس القديم، وسط أسرة بسيطة قليلة الإمكانيات. تابع دراسته بمدرسة اللمطيين بدرب العامر، وهي بالمناسبة مدرسة عريقة درس فيها كثير من السياسيين ومن بين أشهر المعلمين الذين مروا منها عبد الرحيم بوعبيد الذي قضى فيها سنتين. بعدها التحق بمدينة الحاجب، واستمر في خطواته في الطريق نحو التفوق الدراسي ومن ثم نحو مهنة البذلة السوداء، علما أن أغلب تلاميذ وتلميذات مدرسة اللمطيين دخلوا عالم القضاء.
أصبح معاش من القيادات التاريخية لحزب الشورى والاستقلال، كما ترأس نادي الرجاء البيضاوي لسنوات، وحقق العديد من الألقاب في زمن لم تكن فيه الدروع والكؤوس من اهتمامات اللاعبين أو مطالب المناصرين داخل الرجاء.
كانت الدولة في حاجة لعدد كبير من المدرسين، لأن المنظومة التعليمية كانت تعرف خصاصا كبيرا في تلك الفترة، وكانت الحكومة تستعين بمدرسين من مصر ومن دول عربية ومن فرنسا أيضا بالنسبة للمواد العلمية.
عين معاش معلما في مدينة مكناس، وفي سنة 1958 سينظم محمد الفاسي بصفته عميدا لكلية الحقوق، مباراة خاصة بأطر حزب الاستقلال للولوج إلى الكلية بالرباط، فنجح في هذا الاختبار ووجد نفسه طالبا جامعيا في شعبة الحقوق إلى جانب أسماء سياسية غالبيتها تنتمي لحزب الاستقلال، وبعد حصوله على الإجازة في الحقوق قرر أن يحصل على إجازة في شعبة الآداب لأنه كان متيما بالأدباء المصريين واللبنانيين، بعدها سيلتحق بعمله في قطاع المحاماة كمحام متدرب أولا في مكتب المحامي اليهودي طوليدانو بمدينة فاس، وبعدها بالدار البيضاء بمكتب النقيب الجناتي وإلى جانب الفقيه القانوني إبراهيم السملالي خريج جامعة دمشق والذي كان قاضيا لكنه سيستقيل من المهنة احتراما لمبادئه وسيفضل الترافع.
أثناء فترة التدريب في مكتب الفاسي لحبابي كمحامي متمرن، شرب من ثدي الرجاء البيضاوي، وأصبح مشجعا لهذا الفريق العريق، وانخرط في جمعية محبي الرجاء بالضبط سنة 1962، قبل أن يصبح رئيسا للفريق.
عباس الفاسي يقضي فترة تمرين بمكتب الاستقلالي امحمد بوستة
ولد محمد بوستة عام 1925، في مدينة مراكش بحي أزبزط وسط أسرة ميسورة. أتاحت له فرصة ولوج مدارس الأعيان ابتدائيا وثانويا، قبل أن يغادر المدينة صوب فرنسا لاستكمال دراسته الجامعية في السوربون. كانت أسرة بوستة ذات ارتباط وثيق بسلاطين الدولة العلوية، بل إن العلاقة وصلت إلى حد المصاهرة مع السلطان مولاي سليمان الذي حكم المغرب، فكان من تداعيات هذه المصاهرة انضمام أفراد من عائلة بوستة إلى بطانة سيدي محمد الرابع، خاصة جده الذي أصبح كبير حراس السلطان، وشارك في كثير من المعارك آخرها الحملة على متمردي الشراردة التي انتهت بمقتله. شكلت عائلة بوستة خصما تقليديا لعائلة الباشا لكلاوي، ومارست الحكم في مراكش والحوز لسنوات، إلا أن شهرة والده ارتبطت بالعلم أكثر من السلطة.
درس امحمد في جامعة السوربون الفلسفة والقانون، وحين عاد إلى المغرب فتح له والده مكتبا للمحاماة في الرباط سنة 1950، وعمره 25 سنة، قبل أن يصبح نقيبا للمحامين، بل إن مكتبه كان مدرسة في المرافعات، حيث تخرج منه محامون مشهورون شقوا طريقهم في هذه المهنة التي كان يسيطر عليها الأجانب خاصة الفرنسيون. وأبرز الشخصيات التي تمرنت في مكتب بوستة الأمين العام السابق لحزب الاستقلال، عباس الفاسي، الذي درس بدوره القانون وحصل على صفة متدرب في مكتب بوستة، قبل أن يدخل غمار السياسة حيث عينه أحمد بلافريج عضوا في حكومته وزيرا للوظيفة العمومية والإصلاح الإداري بعد ثماني سنوات فقط من الممارسة في قطاع غير حكومي، إذ شارك كمحامي في أغلب المحاكمات السياسية التي عرفها المغرب إبان فترة الصراع بين القصر والمعارضة.
بوزوبع.. المحامي المتمرن في أشهر محاكمات الانقلابيين
صنع محمد بوزوبع عناوين الأخبار عندما كان وزيرا للعدل في تجربة حكومة عبد الرحمان اليوسفي. كانت الأنظار كلها متجهة إليه لأنه أمسك وزارة حساسة جدا في مرحلة انتقالية من تاريخ المغرب. كان عليه أن يدبر الملفات العالقة، خصوصا قضايا ضحايا سنوات الرصاص والاختفاء القسري، بل إن سقف الانتظارات كان عاليا جدا، إذ إن بعض الاتحاديين كانوا ينتظرون منه مطالبة فرنسا برفع السرية عن وثائق ملف اختفاء المهدي بن بركة.
كان موقف محمد بوزوبع صعبا للغاية، فعندما كان محاميا شابا سنة 1972، كان من أشهر الشباب الذين تطوعوا للترافع لصالح المتهمين في ملف انقلاب طائرة البوينغ. وقضى ساعات طويلة في جلسات لا تنتهي، للاستماع إلى الطيارين وطاقم القاعدة الجوية في القنيطرة لكشف ملابسات الإعداد للانقلاب.
وبما أنه أصبح وزيرا للعدل في حكومة عبد الرحمن اليوسفي، فقد كان ملزما بإعادة فتح تلك الملفات من جديد، خصوصا وأن المتهمين السابقين في قضية انقلاب طائرة البوينغ وقبله بسنة واحدة، انقلاب الصخيرات 1971، كانوا جميعا يطالبون بالإنصاف، خصوصا وأن أغلبهم قضوا عقوبات سجنية ومنهم من أرسل إلى معتقل تازمامارت الرهيب، بالإضافة إلى تسريح آخرين من الخدمة العسكرية على خلفية الملفين.
عرف اسم الشاب محمد بوزوبع في بداية السبعينيات، باعتباره محاميا تدرب على يد عبد الرحيم بوعبيد، إذ إنه كان من بين المحامين المتطوعين في ملف محاكمة مراكش الكبرى، وقدم مرافعات لصالح متهمين كانت المصالح الأمنية التابعة للجنرال أوفقير والدليمي تريد إغراقهم بتهم تصل حد الخيانة والتآمر على الأمن الداخلي للدولة، وهو ما لم يكن وقتها سهلا. إذ إن المحامين كانوا يتعرضون لمضايقات أثناء تنقلاتهم المستمرة من الرباط والدار البيضاء إلى مراكش لحضور أطوار المحاكمة في عز الصيف.
عندما أصبح بوزوبع وزيرا للعدل، كان عليه أن يستحضر كل تلك الملفات الثقيلة. وعلى عكس المتوقع، إذ كان من الصعب التعامل مع ملفات كان يعرف تفاصيلها جيدا، بحكم أنه رافع في أغلبها لصالح المتهمين أو عائلاتهم. لكن الوضع اختلف كثيرا عندما أصبح وزيرا للعدل. إذ رغم اشتغال هيئة الانصاف والمصالحة والمجلس الاستشاري لحقوق الإنسان على هذا النوع من الملفات حيث تم جمع شهادات الضحايا والتحقيق في المقابر الجماعية وتدبير ملفات نقل رفات المقابر المجهولة لضحايا التعذيب، إلا أن تدبير تلك الملفات من وزارة العدل كان محاطا بكثير من الصعوبات.
الباشا لكلاوي يشطب على التعارجي من هيئة المحامين
قبل أن يتسلم الحقيبة الوزارية كان بلعباس التعارجي محاميا في هيئة مراكش، بعدها سيسطع اسمه كوزير مغربي للتعليم سنة 1965، حيث ارتبط اسمه لاحقا بتدبير ملف المظاهرات التلاميذية، عندما خرج التلاميذ احتجاجا على قرار الوزير ليجدوا الرصاص الحي في انتظارهم.
هذا الوزير، كان محاميا في السابق، وسبق له العمل في هيأة مراكش. بل إنه عندما كان لا يزال في بداية شبابه، عانى من جبروت وسلطة الباشا الكلاوي الذي كان يترأس قضاة مراكش، وتبنى شغفه الحقوقي موريس بوتان المحامي الفرنسي الشهير للمهدي بن بركة، الذي اعتبر أن قضية هذا الأخير هي قضيته الأولى.
بوتان من موقعه كمحامي ناصر المغرب في حقبة مؤلمة من تاريخ المغرب الراهن، بدءا من مرحلة مقاومة الشعب المغربي للاستعمار الفرنسي، مرورا إلى مرحلة سنوات الرصاص التي عاشها المغرب.
حين كان بلعباس متدربا ومناضلا حقوقيا تعرض لمضايقات من الباشا الكلاوي في بداية خمسينيات القرن الماضي، إذ أن الباشا سن قانونا يمنع على الشباب من الجنسين الخروج إلى الحدائق العمومية في مراكش.
كان بلعباس التعارجي أحد أوائل الذين تمردوا على تعليمات الباشا، وأمسك يد خطيبته وتجول معها في شوارع مراكش، وهو ما جعل الكلاوي يقرر أن يحرض ضده ويأمر بالتشطيب على اسمه من لائحة المحامين، ويجبره على مغادرة مراكش لممارسة المحاماة في مدينة أخرى غير تابعة لنفوذ الباشا.
بعد الاستقلال أصبح بلعباس التعارجي من أبرز الأسماء التي رشحت للملك الحسن الثاني لكي تشغل مناصب وزارية، إذ كان صديقا لرضا اكديرة وحدو الشيكر الذي شغل مناصب وزارية أبرزها وزارة الدفاع ثم وزارة الداخلية. أما بلعباس فقد كان دائما من الأسماء المقربة من الدوائر العليا.
التبر.. نقيب رفض حقيبة الرياضة واختار رئاسة جامعة
ولد محمد التبر في يونيو 1927 بمدينة مراكش، كانت ميولاته علمية لكنه اختار دراسة القانون في جامعة السوربون بباريس، بعد عودته سنة 1952 إلى المغرب مارس الشاب المراكشي مهنة المحاماة كمتدرب أولا في مكتب محامي أجنبي وآخر مغربي قبل أن ينال صفة محامي “كامل الأوصاف” وبعد أربعة عشر سنة أصبح نقيبا للمحامين بالدار البيضاء.
دخل الرجل عالم السياسة مسلحا بالقانون، وأصبح رئيسا للفريق الاتحادي بالبرلمان، وسطع نجمه خلال تقديم ملتمس الرقابة سنة 1964 ضد حكومة أحمد باحنيني، في عز الاحتقان الداخلي.
قال عبد الله درميش، نقيب المحامين بالدار البيضاء سابقا، إن مداخلات التبر في البرلمان ومناقشته لقضايا الشعب ودفاعه عن أطروحة “ملتمس الرقابة” قد سلط عليه الضوء من طرف السلطات المغربية: “كانت تلك المناقشات تنقل عبر الأثير (الراديو والتلفزة)، بأمر من الحسن الثاني، وحدث عند تقديم مداخلة التبر أن توقف البث الإذاعي والتلفزي، إلا أنه سرعان ما عاد البث بأمر المغفور له الحسن الثاني”. حاولت الحكومة عبثا مصادرة مواقف المحامي السياسي الذي كانت مداخلاته عبارة عن مرافعات شدت انتباه ملك البلاد.
لم تسقط الحكومة بملتمس الرقابة، بل أخضعها الحسن الثاني لتعديلات، وأصبح اسم التبر حاضرا في ذهن الملك بمرافعات تحت قبة البرلمان، خاصة وأن المحامي كان يحذر من احتقان اجتماعي قادم، وهو ما حصل بعد سنة وتحديدا في مارس 1965، لذا تطوع للدفاع عن التلاميذ ضحايا سنوات الرصاص.
كان الرجل عاشقا للرياضة، وخاصة لعبتي الملاكمة والشطرنج، وإذ تولى منصب رئيس الجامعة الملكية المغربية للملاكمة أولا، والجامعة الملكية للشطرنج ثانيا، وهو أول رئيس لجامعتين في تاريخ الرياضة المغربية.
بدأت علاقة التبر بالحسن الثاني على نحو جديد، إذ تباحثا في شأن استضافة أسطورة الملاكمة العالمية محمد علي كلاي، سنة 1971 بالدار البيضاء، وهي المواجهة التي شهدها الملعب الشرفي وتعذر على الملك حضورها فناب عنه ولي عهده سيدي محمد.
نسج التبر مع الملك علاقة صداقة وظل في أحلك الظروف السياسية التي عرفها المغرب، خاصة في أعقاب انقلابين، وقيل إن المحامي كان يتحاور مع الحسن الثاني حول رقعة الشطرنج، لكنه رفض منصب وزير للرياضة وتولى منصب رئيس الجامعة الملكية للشطرنج سنة 1972 إلى سنة 1975، “حيث ارتقى الشطرنج المغربي في عهده أرقى مستوياته التنظيمية وتبوأ أعلى الدرجات، وكان له الشرف أن حظي بلقاء المغفور له الملك الحسن الثاني سنة 1974 رفقة الأساتذة الكبار في هذه اللعبة الذين شاركوا في أول دوري دولي مغلق بالدار البيضاء، وكان ضمن هؤلاء الروسي كوطوف”. وفي 27 يناير 2014 انتقل التبر إلى عفو الله.
جاك فيرغيس.. “محامي الشيطان” الذي تمرن بمكتبه سياسيون مغاربة وجزائريون
ولد في التايلاند من أب منحدر من جزيرة لاريونيون وأم فيتنامية، نشأ في جزيرة لاريونيون، وجاور وهو تلميذ ريمون بار الذي أصبح لاحقا رئيس وزراء، حيث كان والده نائبا شيوعيا وشقيقه التوأم بول مؤسسا للحزب الشيوعي في هذه المستعمرة الفرنسية، لكن جاك سيعلن انسحابه من الحزب لأن مواقفه لم تكن حازمة مع نضال دول المغرب العربي.
عين مستشارا للرئيس الجزائري أحمد بن بلة بعد استقلال الجزائر التي منحته جنسيتها، لكنه عاد إلى فرنسا وأنشأ مجلة “ريفولوسيون” ومجلة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وظل يتردد على المغرب بعد أن نسج شبكة علاقات مع سياسيين مغاربة، بل إنه ترافع تطوعا لفائدة معتقلين مغاربة ضد نظام بلاده بنفس الحماس الذي ميز دفاعه عن معتقلي الثورة الجزائرية، إلى أن أطلق عليه إعلام الجمهورية الفرنسية لقب “محامي الشيطان”
في عام 1970 ترك زوجته وأبناءه واختفى ثماني سنوات، حيث زار فلسطين والزايير وكامبوديا، في الوقت الذي قالت فيه صحافة فرنسا إن جاك أصبح محاميا للجاسوس كارلوس، لكن الرجل رد ساخرا: “أنا على استعداد لأدافع عن كل جواسيس العالم”.
حين قرر الملك الحسن الثاني تبني قضية البستاني المغربي عمر الرداد، نصحه الفرنسيون بتسليم الملف للمحامي جاك فيرغيس الذي سبق له أن ترافع عن ثوار الجزائر المعتقلين لدى السلطات الفرنسية خلال حرب التحرير، وهو ما كان حيث بدا الرجل واثقا ببراءة موكله، خاصة أن الرجل الذي ما أن يترافع في قضية، حتى تتحول إلى مادة إعلامية مشوقة ومثيرة، فهو المحامي الذي لا يتراجع، لذلك عقد مؤتمرا صحافيا، بعد نحو الشهر على صدور الحكم، قدم فيه شاهدة غيرت مجرى القضية.
ولأنه كان مناهضا للاستعمار بالقلب قبل النصوص القانونية، فقد تزوج المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد الثورية في جبهة التحرير الوطني التي حكم عليها القضاء بالإعدام، قبل أن تحصل على العفو وقد فرض نفسه مدافعا عن الشخصيات المدانة من التاريخ بمبرر أن “واضعي القنابل هم من يطرحون الأسئلة”. لكن الغريب هو أن المحامي تزوج بموكلته جميلة بمجرد مغادرتها السجن، بعد أن أشهر إسلامه في مسجد بحي القصبة في الجزائر العاصمة، وأوصى بدفنه في مقبرة مسيحية أو إسلامية لا فرق.
توفي جاك فيرغيس في منتصف شهر غشت 2013، نتيجة سكتة قلبية عن عمر يناهز 88 سنة، وهو جالس في أحد المطاعم الباريسية.
عبد القادر بن جلون.. المحامي الذي تأبط ثلاث حقائب وزارية
بعد انتهاء دراسته الجامعية في فرنسا، عاد للاستقرار بالمغرب في سنة 1934، وتمرن خلال ثلاث سنوات في عدد من مكاتب المحاماة الكبرى ليكون ثاني محامي مغربي بعد الأستاذ أحمد زروق.
دخل الرجل التاريخ السياسي بزيارته التاريخية لمحمد الخامس في منفاه بمدغشقر. حين وافقت سلطات الحماية الفرنسية على تمكين ممثلي حزبي الاستقلال والشورى والاستقلال من السفر إلى مدغشقر ومقابلة السلطان المنفي محمد الخامس. في أوائل شهر شتنبر 1955 غادر ممثلو الحزبين باريس قاصدين إقامة محمد الخامس في “أنتسيرابي” بمدغشقر، وكانت البعثة السياسية تتكون من: عبد القادر بن جلون وعبد الهادي بوطالب، مفوضين عن “حزب الشورى والاستقلال”، من جهة، ومن جهة أخرى، امتطى طائرة أخرى عمر بن عبد الجليل، وعبد الرحيم بوعبيد، عن “حزب الاستقلال”.
دام سفر الاستقلاليين والشوريين نحو الثلاثين ساعة، توقفت خلالها الطائرة في روما، وأثينا، والقاهرة، والخرطوم، واسمارة بإثيوبيا، ونيروبي، وتناناريف، ومن هذه المدينة الواقعة بمدغشقر، ركبوا السيارة لقطع مسافة مائة وسبعين كيلو مترا، هي الفاصلة بينها وبين أنتسيرابي.
وصل الشوريان إلى هذه المدينة بعد ثلاث ساعات ونصف الساعة، وكان الليل قد أرخى ستائره، وكان في استقبالهما كل من صاحبي السمو الملكي الأميرين مولاي الحسن ولي العهد، ومولاي عبد الله.
يقول عبد الهادي بوطالب: “تشرفنا بن جلون وأنا- بالمثول بين يدي جلالة الملك، وانهمرت الدموع ونحن نستعرض الحالة في المغرب وآفاق التحرير، وكان جلالة الملك يحمل نظارة سوداء لإخفاء عبراته، كان محمد الخامس، كما فهمنا من خلال حديث جلالته، يتتبع بالليل والنهار مختلف الإذاعات للتعرف بخاصة على أعمال المقاومة المتصاعدة، والتي كانت أبلغ تعبير عن صمود الشعب المغربي، وتمسكه بملكه وقضيته”.
استقبل محمد الخامس الشوريين والاستقلاليين، قبل أن يودعهما بنبرات حزينة: “عندما كنا نودع السلطان، عبد القادر ابن جلون وأنا، كان قوله الفاصل: “أرجوكم ألا تجعلوا من رجوعي شرطا مسبقا، فأهم منه استرجاع الاستقلال والسيادة”.
لا يجب أن نعتقد بأن الوزير في تلك الفترة يعد من النخب المعزولة عن الشعب، فعبد القادر بن جلون الذي يعتبر ثاني رئيس في تاريخ الوداد، بعد المؤسس الحاج محمد بنجلون التويمي حيث تقلده الرئاسة سنة 1943، كان من أوائل الممثلين المغاربة إلى جانب رجل القانون الزغاري حيث انضما لأول فرقة تمثيل، كما أنه ينتمي لأول بعثة طلابية مغربية توجهت إلى فرنسا لاستكمال تعليمها العالي. سيصبح وزيرا في ثلاث محطات، مع الحكومة المغربية الأولى بعد الاستقلال حكومة البكاي، بحقيبة وزير المالية. ثم بعد خمس سنوات وفي عهد الحسن الثاني، سنة 1962، وزيرا منتدبا مكلفا بالشغل، ثم عاد وزيرا للعدل سنة 1963 حيث كان له دور بارز في إصلاح العدالة، ثم أنهى مساره محاميا ونقيبا للمحامين. وحسنا فعلت ابنته لطيفة حين كتبت سيرة والدها وتوقفت عند محطات حياته كفنان وكسياسي في حزب الشورى والاستقلال، كمسرحي وكرجل قانون وكوزير ورئيس للوداد، علما أن ابنته هي زوجة الكاتب عبد الله العروي.