«هم من أجيال مختلفة. منهم من كان المغرب أول وجهة يتجهون إليها خارج الولايات المتحدة الأمريكية . بينما كان آخرون قد جاؤوا إلى المغرب قادمين إليه من تجارب في الشرق، ولديهم سابقة معرفة بالإسلام والثقافة الإسلامية والعربية.
سفير الولايات المتحدة في المغرب لم يكن أبدا منصبا للترضيات أو لإرسال دبلوماسيين إلى النقاهة والتقاعد المريح من السلك الدبلوماسي كما هو شأن بعض الدول الأخرى. إذ من خلال تأمل مسار أغلب السفراء والقناصلة الأمريكيين في المغرب منذ 1900، يتضح أنهم جاؤوا إلى المغرب في عز أدائهم المهني في وزارة الخارجية الأمريكية، بل منهم من تألق في الإدارة وكوفئ بالإشراف على العلاقات المغربية الأمريكية في مراحل مفصلية من تاريخ العالم، مثل الإنزال الأمريكي في السواحل المغربية سنة 1943 أو خلال الإعلان عن استقلال المغرب سنة 1956، حيث كانت الولايات المتحدة الأمريكية من أوائل الدول التي بادرت إلى تعيين سفير لها في الرباط ليقدم أوراقه لأول مرة أمام الملك الراحل محمد الخامس.. ومن يومها وتاريخ كامل من العلاقات الدبلوماسية يُكتب بين البلدين..»
يونس جنوحي
++++++++++
قرنان من تبادل السفارات بين واشنطن والرباط
كانت صور السفير دافيد فيشر، الذي دخل التاريخ بلعبه دور الراعي لاتصالات واشنطن مع المغرب خلال مراحل إعلان اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بمغربية الصحراء، تغزو الصحافة الدولية. هذا الأخير الذي انتهت مهامه في المغرب نهاية سنة 2021، ليحل محله سفير آخر، قادم إلى الرباط هذه الأيام، اسمه بونيت تالوار، كان حلقة أخرى في سلسلة أسماء شغلت منصب سفير الولايات المتحدة في المغرب منذ سنة 1956، وقبلها أيضا عندما كان المكلفون بالمهمة الدبلوماسية لتمثيل الولايات المتحدة في مغرب الحماية الفرنسية، بالإضافة إلى القناصلة في المنطقة الدولية.
بالنسبة للسفير الجديد الذي ينتظر وصوله إلى المغرب لكي يقدم أوراق اعتماده في القصر الملكي، فقد تم اختياره بعناية في فترة وصول بايدن إلى البيت الأبيض. إذ أن الأمر هنا يتعلق بموظف حكومي راكم خبرة طويلة في ملفات الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، منذ عهد الرئيس كلينتون، إذ أنه يعتبر من جيل الشباب الذين تكونوا في البيت الأبيض قبيل مرحلة اجتياح العراق وأزمات الشرق الأوسط الكبرى واتفاقيات السلام. إذ كان «تالوار» من الأسماء الوازنة في مرحلة ما بعد أحداث 11 شتنبر 2001، حيث راهنت عليه الإدارة الأمريكية لكي يدبر ملفات شائكة في علاقاتها مع دول الشرق الأوسط خلال أزمة ما عرف وقتها بمكافحة الإرهاب.
مع أوباما شغل «تالوار» منصب مستشار، وتقلب في وظائف مشابهة، كانت تلتقي كلها في حساسية موقعه داخل المربع الرئاسي باعتباره أقوى مستشاري الرؤساء، الديموقراطيين منهم على وجه الخصوص، بينما كان يتوارى إلى الظل كلما تعلق الأمر بوصول رئيس جمهوري إلى البيت الأبيض، خصوصا فترة بوش وترامب.
في عز اهتمام الصحافة الدولية بملف أفغانستان والعراق، صنفت مجلة «فورين بوليسي» الشهيرة السيد «تالوار» في لائحة أكثر الشخصيات تأثيرا في السياسة الخارجية الأمريكية. اللائحة ضمت خمسين اسما من الديموقراطيين الأمريكيين، منهم من قضى أزيد من أربعين سنة في محيط البيت الأبيض، وكان تصنيف «تالوار» وقتها مُلفتا، إذ كان من بين الشباب الذين ألحقتهم المجلة الشهيرة عالميا في تغطية الملفات الدولية إلى جانب أسماء أخرى قديمة في الحزب.
المهام التي أرسل إليها «بونيت تالوار»، كانت في إطار مهامه من داخل المكتب الاستشاري لرئيس الجمهورية في قضايا الشرق الأوسط وشمال افريقيا والأمن القومي، وكلها ملفات حساسة جدا.
والمنصب الاستشاري الذي شغله مع الرئيس باراك أوباما، كان الأرفع في مساره المهني قبل أن يتم استدعاؤه مرة أخرى من طرف الرئيس الأمريكي الحالي «جو بايدن»، ويُعلن عنه نهاية الأسبوع الماضي سفيرا للولايات المتحدة الأمريكية في الرباط.
لا سيما وأن إعلان تعيين «تالوار» سفيرا في المغرب، تزامن مع إعلان إسبانيا موقفها التاريخي من مغربية الصحراء، حيث دعمت لأول مرة في تاريخ ارتباطها بالملف، الحل الذي اقترحه المغرب لحل الأزمة في الصحراء ورفض مقترحات الانفصال التي تدافع عنها الجزائر.
السفير «روكويل».. عاش مع الحسن الثاني فاجعة الصخيرات
إذا كان لا بد من تحديد اسم أسوأ سفير أمريكي في المغرب حظا، فلن يكون غير السفير «ستيوارت روكويل». هذا الأخير عين سفيرا في المغرب ما بين سنوات 1970 و1973، أي أنه كان سفير أمريكا في الرباط خلال محطتين فاصلتين من حياة الملك الراحل الحسن الثاني، وفي تاريخ المغرب أيضا.
يتعلق الأمر بالمحاولتين الانقلابتين اللتين استهدفتا حياة الملك الراحل الحسن الثاني سنة 1971 و1972. الأولى في الصخيرات عندما هاجم الكولونيل «اعبابو»، مدير مدرسة أهرمومو العسكرية، بتواطئ مع الجنرال المذبوح، القصر الملكي في الصخيرات، في يوليوز 1971 وسقط مئات الضحايا بينهم سفراء أجانب. والمحاولة الثانية، كانت سنة بعد ذلك، في صيف 1972، حيث استهدف الجنرال أوفقير، بتواطئ مع قيادات في الطيران وتخطيط من الطيارين أمقران واكويرة، اللذين كان مكتبهما غير بعيد عن مقر مكاتب المسؤولين الأمريكيين الذين سلموا القاعدة الجوية في القنيطرة إلى المغرب بعد انسحاب القوات الأمريكية منه.
السفير الأمريكي كان في موقع لا يحسد عليه، خصوصا وأن بعض الأخبار تحدثت عن علم مسبق للأمريكيين بالمخططين الانقلابيين، ليجد السفير نفسه محرجا أمام الملك الراحل الحسن الثاني ومُجبرا على تقديم تفسير باسم الولايات المتحدة للملك الحسن الثاني.
وما زاد من تعقيد وضع هذا السفير، انتشار الإشاعات مفادها أنه انسحب من الحفل في الصخيرات مبكرا لعلمه مسبقا أن العسكريين سوف يقتحمون البوابة وينفذوا المخطط الانقلابي. بينما رواية أخرى تحدثت عن ارتداء السفير للباس مغاير لما كان يلبسه أغلب الضيوف – حسب الشهادات فإن أغلب الضيوف كانوا يرتدون لباسا صيفيا تماشيا مع الموضة – حتى يميزه المهاجمون، وهي رواية تفتقر إلى الدقة بحكم أن تلاميذ المدرسة العسكرية أثناء الإدلاء بشهاداتهم في المحكمة أكدوا أنهم لم يكونوا يعرفون أي تفاصيل عن الهجوم بل كان الأمر يتعلق بغارة عشوائية راح ضحيتها مئات الضحايا، بينهم دبلوماسيون وسياسيون، بطلقات عشوائية.
بعد الانقلاب الثاني، حل نائب الرئيس الأمريكي في الرباط لكي يقدم للملك الحسن الثاني رسالة من الرئيس الأمريكي، ويهنئه على سلامته من المحاولة التي استهدفت طائرته البوينغ، وبدا وقتها أن نائب الرئيس، واسمه «أكنيو» كانت مهمته عسيرة جدا، حيث نقل له الملك الحسن الثاني حسب ما تأكد في وثائق «ويكيليكس» قلقه من أن تكون هناك أياد خارجية دعمت المحاولتين.
وما يؤكد أن مهمة هذا الدبلوماسي الأمريكي المخضرم كانت عسيرة جدا، أن خبر وفاته استأثر باهتمام الصحافة الأمريكية، يوم 12 مارس 2011، حيث نشرت مقالات تحدثت فيها عن أصعب وأحلك الفترات التي قضاها في حياته المهنية، وطبعا كان الأمر يتعلق بالمحاولتين الانقلابيتين اللتين استهدفتا حياة الملك الراحل الحسن الثاني.
++++++++++++
«ماكسويل بليك».. قصة 20 عاما بالمغرب لأول «مكلف بالشؤون الدبلوماسية»
السفينة التي أقلت السيد «بليك» إلى المغرب كانت عسكرية. وعندما رست في مياه طنجة الدولية، جاء الناس من كل حدب وصوب لرؤيتها. أطنان من الحديد لا تغرق، معجزة سبقت وصول أول مسؤول أمريكي إلى المغرب، بعد أن كان الأمر مقتصرا في السابق على «مبعوثين» خلال القرنين الماضيين.
كان وصول السيد «ماكسويل بليك» إلى المغرب سنة 1912. جاء في سياق توقيع معاهدة الحماية، لكنه لم يجد أي أثر لتداعياتها على مهامه الدبلوماسية، إذ أنه وجد الطريق معبدا وسالكا أمامه في منطقة طنجة التي لم يسر عليها مضمون معاهدة الحماية، واعتُبرت مدينة دولية تتقاسم جنسيات عدة مسؤولية تسييرها.
وجود السيد «بليك» في طنجة، كان حدثا كبيرا خرجت على إثره الحشود لرؤية المسؤول الأمريكي في المدينة، خصوصا وأن سكان طنجة القدامى تم إشعارهم بوضعيتهم الجديدة في مدينتهم، أي أنهم ليسوا معنيين بمعاهدة الحماية، وأن قوانينها لا تسري عليهم، وهكذا فقد بدأت سياسة إعداد جوازات سفر لأعيان طنجة ورجالها المؤثرين، بالإضافة إلى فرض قيود على تنقل المغاربة من وإلى طنجة.
استمر وجود السيد «بليك» في المغرب إلى سنة 1917، ليحصل على ترقية مهمة في مساره الدبلوماسي. وتوجد في أرشيف قسم دبلوماسيي الولايات المتحدة الأمريكية معلومات بخصوص هذا الدبلوماسي الأمريكي. هذه المعلومات تفيد بأنه كان من سكان ولاية «ميسوري»، وتكون جامعيا بحيث أصبح في مكتب الخدمات الخارجية.
بدأ مهمته في المغرب، في شهر شتنبر 1912. لكنه في العشرين من شهر يوليوز1917، انتهت خدماته باعتباره مكلفا بالشؤون الأمريكية في طنجة، وعُين قنصلا عاما، حيث بقي يمارس مهامه الدبلوماسية في طنجة إلى حدود يوم 11 أبريل 1922.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ أن علاقته بالمغرب لم تنته رغم انتهاء مهامه الدبلوماسية، وهو ما كان دليلا على أنه نجح في مهمته الدبلوماسية، إذ أصبح صديقا حميما للوزير المهدي المنبهي، وهو الوزير المغربي الذي كان عالما بشؤون المخزن وأوضاع المغرب وكان على علاقة بالأعيان المؤثرين. بل إنه كان صديقا للسلطان مولاي يوسف، ونجح في ربط الاتصال بين «بليك» وبين دار المخزن في فاس والرباط، التي أصبحت عاصمة للمملكة.
زار السيد «بليك» خلال ولايته عددا من المدن المغربية وراكم صداقات مهمة جدا مع الأعيان المغاربة.
لذلك اضطرت وزارة الخارجية الأمريكية إلى إرساله مجددا إلى المغرب سنة 1925، لاحتواء أوضاع أزمة وتداعيات حرب الريف التي كان يقودها محمد عبد الكريم الخطابي ضد الوجود الإسباني. حيث كان القنصل العام وقتها في المغرب هو السيد «جوزيف دينين»، والذي اشتغل قنصلا عاما في طنجة ما بين سنوات 1922 و1924، ليترك المجال لماكسويل بليك، الذي عاد إلى منصبه يوم 25 ماي 1925 واستمر فيه إلى حدود سنة 1940.
أي أنه قضى أكثر من عشرين سنة بين المغاربة، وكان أول دبلوماسي أمريكي يحظى بأطول مهمة دبلوماسية في شمال إفريقيا وفي الشرق الأوسط.
حيث إن الطنجاويين القدامى كانوا يعرفونه، إذ أصبح منظره، خصوصا خلال مرحلة تعيينه الثانية، وهو يمر بقبعته الأمريكية بين أزقة المدينة القديمة في طنجة، وصولا إلى مكتبه في مقر المفوضية الأمريكية، منظرا مألوفا لسكان المدينة.
«رايفز» و«بول آلينغ» .. مبعوثا أمريكا إلينا في «عام البون»
يتعلق الأمر بدبلوماسيين مخضرمين جاءا إلى المغرب في سياق مضطرب جدا. إذ أن السيد «رايفز» جاء إلى المغرب مكلفا بمهمة دبلوماسية وهي تمثيل الولايات المتحدة الأمريكية في المغرب، خلال فترة الحرب العالمية الثانية، خلفا للسيد «جون وايت» الذي كان يتقلد منصب قنصل عام.
السيد بول، كان في وضع لا يُحسد عليه، لأن الحرب العالمية الثانية كانت تأكل كل اهتمام العالم، وكانت الولايات المتحدة على وشك الدخول فيها. إذ أن هذا الأخير، برفقة السيد «بول ألينغ» كانت مهمتهما الأساسية تمثيل الولايات المتحدة أمام الملك الراحل محمد الخامس وسلطات الحماية الفرنسية. ففي مراسلاتهما السرية وقتها، كانا يصفان المغرب بـ «المغرب الفرنسي»، لكنهما كانا يشددان على ضرورة لقاء الملك الراحل محمد الخامس نظرا للسلطة التي يمثلها رغم تأكيد فرنسا على أنها السلطة الحامية في المغرب.
وهكذا لعب الاثنان معا دورا كبيرا، رغم أن «رايفز» انتهت مهامه سنة 1945، أي أنه كان مهندس ترتيب مفاوضات الإنزال الأمريكي الشهير في سواحل المحيط الأطلسي، حيث وصلت القوات الأمريكية لتشارك في الحرب العالمية الثانية وشيدت قواعدها العسكرية، خصوصا قاعدة مدينة القنيطرة، التي كانت تسمى «بور ليوطي»، أي ميناء ليوطي.
بينما الثاني، «بول ألينغ»، كانت مهمته تدبير العلاقات الأمريكية المغربية، خصوصا وأن الصحافة الدولية تحدثت عن وعود أمريكية للمغرب بمساندته للاستقلال عن فرنسا، خلال لقاء «آنفا» الشهير عندما منح الملك الراحل محمد الخامس موافقته للرئيس الأمريكي على إنزال القوات الأمريكية في المغرب.
سنة 1945 كانت سنة عصيبة على العالم، إذ خرجت معظم الدول الكبرى من تداعيات الحرب منهكة، وانتشر الجوع بسبب قلة الموارد ودمار الاقتصاد العالمي.
كانت الأجواء في طنجة، حيث كان يوجد مكتب القنصل العام الأمريكي السيد «بول» تعيش على وقع مجاعة غير مسبوقة أبدا في تاريخها. إلى درجة أن بعض الأسر الطنجاوية العريقة بدأت تنسحب من طنجة وترحل في اتجاه الرباط للاستفادة من «البون» الذي كانت سلطات الحماية الفرنسية توزعه على السكان لتزويدهم بالمواد الأساسية بنظام «الحصص»، بينما في طنجة، كانت هناك خلافات كبيرة بين التمثيليات الدبلوماسية للدول التي تسير المدينة، خصوصا الدول الأوربية، وهو ما جعل طنجة تتأثر بالحرب العالمية الثانية أكثر من أي مدينة أخرى في المغرب.
كان على «بول ألينغ» أن يتحمل تداعيات تدهور الوضع الاقتصادي في طنجة خصوصا بوجود جاليات أجنبية كبرى، بينهم أمريكيون بطبيعة الحال، حيث استمر في منصبه إلى حدود العام 1947 ليختم مهمته الدبلوماسية في المغرب، حيث إنه عندما كان بصدد المغادرة، نظم له أعيان طنجة حفلا كبيرا لوداعه، رغم الظروف العصيبة التي كانت تعيشها المدينة.
وما جعل مهمة «ألينغ» مختلفة نوعا ما عن سابقيه، أنه كان ملما بالثقافة العربية والمشرقية، وكان يفهم اللغة العربية، بحكم أنه كان يعمل في السلك الدبلوماسي منذ عشرينيات القرن الماضي، وسبق له العمل لسنوات في بيروت ودمشق. وكان يفتخر بأنه تعين في منصبه بطنجة يوم الرابع من يوليوز 1945، وهو ما صادف احتفال الأمريكيين بذكرى استقلال البلاد، حيث كان وصوله إلى طنجة وتعيينه رسميا في مقر المفوضية الأمريكية، احتفالا بالمناسبتين معا.
من طنجة، تقوت حظوظه الدبلوماسية بحكم المهمة العسيرة التي شغلها في المغرب، ليتم إرساله سفيرا إلى باكستان، حيث ختم مساره الدبلوماسي وعاد إلى الولايات المتحدة، لكن الموت لم يمهله طويلا، حيث توفي سنة 1949.
السيد هولمز.. احتفل معنا بالاستقلال وترك مقعده لـ «كانون» أول سفير بالمغرب
عندما عادت العائلة الملكية من المنفى في نونبر 1955، كان السيد هولمز حديث عهد بمنصبه في طنجة حيث كان قنصلا عاما. لكنه لم يمكث طويلا رغم أن الظروف السياسية كانت تُنبئ بانفراج في الأوضاع.
فقد كانت المفاوضات في الرباط تتحدث عن سيناريو لتسليم مدينة طنجة إلى المغرب، وبقاء البعثات الدبلوماسية بها تحت سيادة الدولة المغربية.
كان الأمريكيون وقتها يتوفرون على قاعدة جوية وقواعد عسكرية في ثلاثة مواقع بالمغرب، بالإضافة إلى وجود لاقطات كبيرة في طنجة، اعتُبرت من أقوى النقط التي كانت تراقب بها الولايات المتحدة الصواريخ السوفياتية تحسبا لأي هجوم خلال مرحلة الحرب الباردة منتصف الخمسينيات.
وهو ما كان يعني أن الأمريكيين مهتمون جدا بما سوف تؤول إليه الأوضاع في المغرب.
ما وقع أن «هولمز» ترك مقعده باعتباره قنصلا عاما، للسيد وليام بورتر الذي عمل في المغرب سنة 1956 وشهد طيّ مرحلة «طنجة الدولية» وعودة المدينة إلى السيادة المغربية، حيث ترك منصبه للسيد «بورتر» المكلف بمهمة طيلة سنة 1956، ليختم لائحة القناصلة. إذ أن المغرب باعتباره دولة مستقلة حديثا، لم يعد مقبولا إرسال قناصلة إليه، بل أصبح الوضع يقتضي وجود سفير معتمد في العاصمة الرباط، وهكذا جاء السيد «كافيديش كانون» ليدخل التاريخ باعتباره أول سفير أمريكي في المغرب.
هذا السفير كان يحمل معه تجربة دبلوماسية ثقيلة جدا. إذ سبق له أن كان سفيرا لأمريكا في يوغوسلافيا، ثم سفيرا إلى سوريا ما بين سنوات 1950 و1952. وأصبح سفيرا بعدها في البرتغال، ومنها إلى اليونان ومن اليونان حمل حقيبته وجاء سفيرا إلى المغرب.
كانت الرباط بالنسبة إليه، خصوصا منطقة «لوداية» معقل أنشطة كثيرة بحكم أن بعض العائلات الأمريكية كانت متعلقة بالرباط، وكانوا يكترون بعض المنازل من عائلات رباطية. هؤلاء الأمريكيون، رغم التوصيات التي كانوا يتلقونها بشأن عدم مغادرة القاعدة العسكرية في القنيطرة خلال فترة الحماية مخافة الاعتداء عليهم والخلط بينهم وبين الرعايا الفرنسيين، إلا أنهم خالفوا التعليمات وعاشوا فعلا بين الرباطيين، وبعد الاستقلال أصبحت «لوداية» قبلة مفضلة للأمريكيين، وبينهم السفير الأمريكي نفسه.
وهكذا، أصبح وجود سفارة أمريكية في الرباط أمرا واقعا، بينما بقيت المفوضية في طنجة تحظى بمكانة دبلوماسية رمزية. في الرباط، كان السفير الأمريكي يؤسس لعلاقة مع السياسيين المغاربة، حيث حاول التعرف على زعماء الحركة الوطنية الذين لعبوا دورا كبيرا في استقلال المغرب، وكان أول سفير ينظم رسميا حفلات عشاء واحتفالات يدعو إليها نخبة من المغاربة، من صحافيين وسياسيين ودبلوماسيين أجانب. وهكذا دخلت الصداقة الأمريكية المغربية مرحلة تبادل الزيارات الرسمية حيث حل الملك الراحل محمد الخامس في الولايات المتحدة لأول مرة وكان الحدث قد حظي باهتمام كبير في الصحافة الأمريكية، وقد كان السفير الأمريكي «كانون» أحد مهندسي التقارب الأمريكي المغربي وقتها، حيث أنهى مهامه في المغرب سنة 1958.
السفير «دوك» وإدريس البصري..
كان وصول السفير «بيدل دوك» إلى المغرب سنة 1979، متزامنا مع صعود إدريس البصري إلى وزارة الداخلية. وكانت وقتها العلاقات المغربية الأمريكية يشوبها الحذر، إذ أن بعض التقارير التي أعدتها السفارة الأمريكية تحدثت عن تزوير كبير للانتخابات نهاية السبعينيات، ونقلت أراء المعارضة التي اتهمت إدريس البصري شخصيا بتزويرها بصفته مديرا لمكتب الشؤون السياسية في وزارة الداخلية.
ومن ذلك الوقت اهتم الأمريكيون بإدريس البصري، وكانت من مهام السفير الأمريكي الجديد، السيد «دوك» أن يربط اتصالا مع إدريس البصري.
جدير بالذكر أيضا، أن السفير الأمريكي الجديد كان على اتصال جيد بالملك الراحل الحسن الثاني. إذ أن المغرب وقتها كان قبلة لعقد قمم عربية وإسلامية كبرى، في عز أزمات الشرق الأوسط والصراع العربي الإسرائيلي، وصراع المملكة العربية السعودية مع إيران.
كان الملك الحسن الثاني يحظى بتقدير كبير في أوساط الزعماء العرب، حيث كان مستشاروه ينقلون الرسائل السرية بينه وبين رؤساء وملوك الدول الشقيقة. لذلك كان السفير الأمريكي مهتما جدا باستقاء آراء الملك الراحل الحسن الثاني بخصوص التطورات في الشرق الأوسط.
من يكون إذن هذا الدبلوماسي الأمريكي الذي كان يطلبه الملك الحسن الثاني هاتفيا أحيانا في ساعات متأخرة من الليل، ويتناول معه عشاءه بعيدا عن أجواء البروتوكول؟
يتعلق الأمر بدبلوماسي سبق له أن كان مديرا للبروتوكول في البيت الأبيض ما بين سنوات 1961 و1965، حيث عمل مع جون كينيدي، صديق الملك الحسن الثاني المقرب.
ومنذ 1979 بدأ السيد «كانون» مساره الدبلوماسي سفيرا في المغرب،
حيث سبق له أن كان سفيرا في الدنمارك ما بين سنوات 1968 و1969، ثم قبلها كان سفيرا إلى إسبانيا ما بين سنة 1965 و1968، وهو ما كان يعني أن اختياره سفيرا إلى المغرب نهاية السبعينيات لم يكن مجرد توزيع للحقائب، وإنما كان الرجل الأكثر قربا وقتها من القضية المغربية، خصوصا وأن المغرب كان يعيش على تداعيات التوتر في الصحراء المغربية لصد هجمات «البوليساريو»، وكان الأمريكيون مهتمين وقتها بمعرفة تفاصيل عن الخلافات المغربية الإسبانية بخصوص الصحراء فاختاروا السفير السابق إلى إسبانيا لكي يحل في الرباط.
إدوارد غابرييل.. مهندس مشاركة كلينتون في جنازة الحسن الثاني
منذ سنة 1997 والسيد «غابرييل» سفير أمريكي في الرباط، لكنه لم يتسلم منصبه إلا في السنة الموالية، أي 1998.
لكن أهم المهام الدبلوماسية التي قام بها كانت في يوليوز 1999 حيث أشرف على ترتيب مشاركة الرئيس بيل كلينتون في جنازة الملك الراحل الحسن الثاني، واستمر في منصبه سفيرا في عهد الملك محمد السادس، حيث لم يغادر مهامه الدبلوماسية في الرباط، إلا في شهر مارس 2001.
عندما سُمي «غابرييل» سفيرا في الرباط، كانت الصحافة الأمريكية قد أفردت له «بورتريه» تحدثت فيه عن رجل أعمال أكثر مما هو سياسي. بالنسبة للصحافة الأمريكية، فإن رجلا مثل «غابرييل» لن يحظى باهتمام كبريات الصحف الأمريكية، بحكم أنه لم يكن موظفا سابقا في الخارجية ليبدر ملفات الأزمات الكبرى. لكنه فرض اسمه بطريقة أخرى، عندما أصبح اسمه صادرا في كل المقالات التي خصصت لوفاة الملك الراحل الحسن الثاني، حيث تابعت كل الصحف الأمريكية والقنوات التلفزية أيضا جنازة الملك الراحل باعتباره أحد القادة العرب والمسلمين الأكثر تأثيرا في السياسة الدولية خلال القرن العشرين.
وهكذا فإن هذا السفير الذي كان رئيسا تنفيذيا لشركة تحمل اسمه، كما أن خلفيته الأكاديمية لم تخرج عن نطاق شهادات الاقتصاد من الجامعات الكبرى، بعكس أشهر الدبلوماسيين الأمريكيين الذين كانوا يتوفرون على شهادات في العلوم السياسية والقانون، إلا أن «غابرييل» كان على موعد مع التاريخ. إذ كان وراء ترتيب وصول «بيل كلينتون» إلى حضور جنازة الملك الراحل الحسن الثاني، وهو ما جعله يحظى باهتمام وسائل الإعلام الأمريكية، خصوصا وأنه بقي في منصبه بعد رحيل كلينتون ومجيء جورج بوش الابن، ليكون أول سفير أمريكي في الرباط، في بداية مرحلة حكم الملك محمد السادس.