«التقط مصورون، عبروا من المغرب، صورا لأحياء كانت فرنسا تُكرس فيها لجميع أنواع البؤس بعد 1912، وصوروا البؤس الاجتماعي الذي كانت تغرق فيه هذه الأحياء. حتى أن مقالا عُنون كالآتي: «العبودية الجديدة في المغرب». في إشارة إلى دور الدعارة التي كانت فرنسا قد أقامتها لجنودها في البداية وأهملتها لتتسع رقعتها، برعاية خاصة من محسوبين على الاستعمار. وفي 2012 فقط، قدم الباحثان «ج. آلبرت» و «م. سابات» مقالا بحثيا معمقا، عنوانه: «Re-making a landscape of prostitution : the Amsterdam Red Light District» حول حي «بوسبير» في الدار البيضاء، وقدما خرائط لتوسعة الحي والحالة الاجتماعية لسكانه الأوائل الذين كانوا يغرقون في فقر، زادته مراقبة الجيش الفرنسي للمكان، حدة ووطأة.
بالإضافة إلى كل هذا، هناك أرشيف كامل منسي، وثق لتاريخ كامل من الحياة المغربية التي بقيت مسكوتا عنها، ردحا من الزمن»
كان هناك مصورون للمشاهير في مغرب 1920!
بعكس ما قد يعتقده البعض بخصوص انتشار الصور والتصوير في المغرب، فإن الأمر بدأ مبكرا جدا. ليس فقط في منطقة طنجة التي كانت دولية، وإنما في المغرب ككل. ربما يكون المولى عبد العزيز هو أول مغربي تُلتقط له صورة بالمعنى الحديث للصورة. خصوصا وأن الفترة التي التقطت له صورة خلالها، كان المصورون لا يزالون يعتمدون بالإضافة إلى آلات التصوير، على «تصحيح الصور» وإكمالها بالاستعانة بأدوات الرسم لاستكمال ملامحها الناقصة، قبل أن يصبح التصوير متكاملا بعد اختراع أولى آلات التصوير المُكتملة ويتم الاستغناء نهائيا عن التصحيح بالرسم.
هناك خلاف في الموضوع بطبيعة الحال، ونسب البعض لفرنسيين الأسبقية في التقاط الصور، لكن الأرجح أن صحفيا بريطانيا هو الذي كان سبّاقا إلى التقاط أول صورة للمولى عبد العزيز. فحتى والده المولى الحسن الأول الذي توفي سنة 1894، لم يحصل قيد حياته على صورة خاصة له من مصور أجنبي. وأول صورة صُنعت له كانت بعد وفاته بسنوات، وصُنعت كبورتريه له بناء على مواصفات قدمها وزراء لمصورين أجانب، تمكنوا في الأخير تقليد «بورتريه» له. فيما كان المولى عبد العزيز الذي تولى الحكم في المغرب من سنة 1894 إلى 1908، أول سلطان مغربي يتم التقاط صورة له بالاعتماد على أولى تقنيات التصوير المتبعة وقتها في أوربا. وحصل على الصورة كهدية من الوفد الذي زاره، ومن بينهم ممثلون لصحف أجنبية ودبلوماسيون.
سرعان ما حصل المولى عبد العزيز بنفسه على آلة تصوير خاصة به، وأخذ يصور يومياته داخل القصر الملكي وصورا للعائلة، لكن مصير كل تلك الصور بقي مجهولا، خصوصا في الظروف العصيبة التي غادر فيها القصر الملكي بعد أحداث تنحيته عن العرش لصالح أخيه.
مع المولى عبد العزيز بدأ تصوير المشاهير المغاربة. وخلال العشرينات تمكن مصورون فرنسيون على الأخص، من الفوز بثقة رجال مغاربة أمثال عبد الحي الكتاني، وقدور بن غبريط، وحتى الحاج المقري وقبلهم الباشا الكلاوي، قبل أن يصبح باشا على مراكش. هؤلاء كانوا نخبة من المغاربة الذين انفتحوا على مصورين أجانب كانوا يعملون في الصحافة، والتقطوا لهم صورا قدموهم من خلالها للإعلام الفرنسي خصوصا، على أنهم نخبة أثرياء وسياسيي المغرب. ومنذ ذلك الوقت، كان تصوير «المشاهير» المغاربة رائجا، وبقوة. وبطبيعة الحال، دارت حروب في الخفاء، خصوصا عندما تعلق الأمر بتحديد المصورين الذين كانوا يرافقون السلطان عبد العزيز في تحركاته اليومية. فصاحب «زمن المحلات السلطانية» تحدث عن مصورين صاروا من سكان القصر الملكي بسبب فضولهم الكبير لتغطية يوميات سلطان المغرب ومرافقيه، حتى أنه كان لا يسلم من عدساتهم وأضوائهم حتى في الأوقات التي كان فيها يمارس الرياضة، أو يتداول في شؤون الدولة مع مستشاريه. وكان الأمر يتكرر يوميا.
وعند مغادرته المغرب سنة 1908 في اتجاه فرنسا، ودعته الكاميرات أيضا وهو يغادر سفينة أمريكية كانت متوقفة في مياه طنجة، وتلقى دعوة لاستكشافها، قبل أن يشد الرحال عبر باخرة أخرى إلى فرنسا. وكانت أنظار مصوري المشاهير وقتها تركز أكثر على ما يقع في فاس، وهناك تم التقاط أول صورة للمولى عبد الحفيظ، الذي كان قادما من مراكش، ولم يكن يعرف الشيء الكثير عن التصوير، إلا أنه كان يسمع عنها كثيرا بحكم امتلاك أخيه الأصغر لآلة تصوير وقتها كان يستعملها كثيرا لالتقاط صور للعائلة الملكية. مع المولى عبد الحفيظ كان الأمر مختلفا، إذ أن أول صورة التقطت له، كانت ملكيتها تعود لمراسل صحفي بريطاني. التقط له الصورة لإرفاقها بأول حوار صحفي أجري معه أسابيع قليلة بعد وصوله إلى الحكم. وكانت تلك الصورة مثار جدل كبير بين نخبة المحيط الملكي الجديد الذين كانوا لا يستسيغون التقاط الصور في ذلك الوقت، بعكس نخبة العشرينيات من القرن الماضي، كما ذكرنا، والذين كانوا يتسابقون لالتقاط الصور.
من يعرف مصير «ذاكرتنا» المفقودة؟
إذا كان يجب فتح تحقيق في الأرشيف الوطني للمغاربة، فالبداية بلا شك سوف تكون بالصور قبل الوثائق. عشرات آلاف الصور الضائعة التي توثق لأحداث مهمة من تاريخ المغرب، لا أحد يملك فكرة عن مصيرها. صور أخرى بقيت محفوظة، وتساوي آلاف اليورو، بفضل تقنيات صيانة الأرشيف التي قام بها ملتقطو الصور أنفسهم أو المؤسسات الأجنبية التي تملك اليوم تلك الصور. فيما الأرشيف الرسمي المغربي يعرف فقرا كبيرا في الصور الرسمية وغير الرسمية التي توثق لأحداث مهمة في تاريخ المغرب. هذا دون الحديث بطبيعة الحال عن «ولوج» المواطنين المغاربة لهذا الأرشيف. بين الفينة والأخرى تظهر حزمة من الصور النادرة لأحداث وطنية مثل المسيرة الخضراء، التقطتها مؤسسات أجنبية أو أفراد أجانب باعوها لتلك المؤسسات، وبينها مقاطع بالصوت والصورة لا يتوفر الإعلام الرسمي على نسخ منها، رغم أنها بُثت أو أذيعت خلال تلك الفترة.
الصورة تبقى أقوى من الوسائل الأخرى بحكم أن آلة التصوير دخلت إلى المغرب في وقت مبكر. مصورون أجانب تمكنوا من العمل لصالح صحف، أو لصالح أنفسهم، وأيضا لصالح المؤسسة العسكرية خصوصا بعد 1912، والتقطوا صورا مهمة ونادرة للمغرب، هي اليوم لا تقدر بثمن بحكم قيمتها التاريخية.
بينما توجد صور أخرى، مجهولة ولا تتوفر معلومات عن الشخص الذي التقطها ولا الظروف التي تم التقاطها فيها، فيما أرشيف آخر من الصور التي وثقت لفظاعات الاستعمار، اختفت تماما.
مثلا، حادث قصف مدينة الدار البيضاء سنة 1907، لا تتوفر عنه سوى صور قليلة جدا، رغم أن مصورين عسكريين التقطوا صورا كثيرة للأنقاض ومخلفات القصف. فيما مصورون آخرون عادوا إلى الدار البيضاء بعد فرض الحماية، وصوروا جميع خطوات إعادة بناء المدينة أولا بأول، وكأنها تُبنى لأول مرة. وبقي ذلك الأرشيف شاهدا على تاريخ حافل بالأحداث.
امرأة مارست التصوير في الشمال سنة 1907 لكنها فقدت جميع الصور في البحر
سنسرد هنا حكاية سيدة قالت عن نفسها في مذكراتها التي نشرت في لندن، إنها كانت أول أجنبية تمارس هواية التصوير في المغرب واستعملت الألوان لتصحيح الصور والبورتريهات التي التقطتها. لكنها للأسف لم تكن تملك أي دليل على صحة كلامها. خصوصا أنها حاولت استمالة عاطفة قرائها وقالت إنها فقدت كل أعمالها المصورة عن المغرب عندما غادرته بحرا في اتجاه بريطانيا. اسمها «كاثلين» وكانت بيننا قبل أكثر من مائة عام. وغادرت سريعا، كغيرها، بطبيعة الحال. لكن كتابها لقي شعبية كبيرة في بريطانيا، ليس لمحتواه الذي كان يقطر «عنصرية» ضد المغاربة، ولكن لاعتبارات أخرى نشرتها، أهمها هو احتقار المغاربة وتصويرهم على أنهم شعب من «الرعاع». لقد كان كتابها «استعماريا» خالصا، بخلاف أغلب المذكرات التي تناولت المغرب من باب المغامرة والاكتشاف.
بدأت قصة السيدة «كاثلين مانسيل بلايديل» عندما جاءت إلى المغرب بداية القرن الماضي. في سنة 1907، كانت قد بدأت في التعرف أكثر على حياة المغاربة.
خطوة كتابة مذكراتها، كانت جريئة، لأنها كانت تنظر إلى نفسها كزوجة موظف حكومي وعسكري رفيع، تم تعيينه في المغرب. ولم يكن سهلا أن تنشر مذكراتها إلا بعد أن انتهى الدور البريطاني في المغرب، لأن حساسيات كثيرة ستثار عندما تنشر «كاثلين» قصتها مع المغرب، وكيف كانت تتصرف سيدة المجتمع في بلد كان الأجانب يتخوفون كثيرا من فكرة الإقامة به.
تحدثت أيضا عن هواية التصوير وكيف أقنعت مجموعة من النساء المغربيات البسيطات السماح لها بالعيش معهن داخل المنزل ليوم واحد حتى تلتقط لهم أكبر قدر من الصور. كما تحدثت عن صور لأطفال صغار يلعبون قرب الأضرحة، وبورتريهات لمواطنين فقراء يمارسون مهنة البناء بأدوات بدائية. وعندما تتصفح الكتاب في انتظار الوصول إلى تلك الصور النادرة عن المغرب كما تقول. تجد مقطعا قبل نهاية المذكرات بقليل، تشير فيه إلى أنها فقدت كل صورها عندما كانت في طريق العودة بسبب حادث بسيط على ظهر السفينة أدى إلى سقوط الحقيبة التي كانت تحتوي على الصور، في عرض البحر.
قد تكون «كاثلين» بالغت في وصف مناظر مغربية كثيرة. فقد كتب أحد النقاد، واسمه «جي. ماكنزي»، مقالا نُشر سنة 1914، قال فيه إن «كاثلين» ككاتبة، بالغت كثيرا في وصف تجربتها الغربية وحاولت أن تضفي عليها طابع المغامرة. يقول: «عندما أنهيت الصفحة الأخيرة من كتاب السيدة «كاثلين»، خلصت، بحكم أني زرت المغرب مرات عديدة، إلى أنها تحاول زعزعة شعور قرائها وتوهمهم أنها عاشت تجربة غير عادية. والحال أن تجربة العيش في المغرب تفتح عيون الكاتب على قصص إنسانية كثيرة، لكنها لا تكون مرعبة بالضرورة كما صورتها السيدة كاثلين.
لقد تفاجأت عندما قرأت بعض انطباعاتها بخصوص الخدم في المنزل الذي كان يقيم فيه زوجها، ولو أنها لم تخبرنا من خلال مذكراتها، عن طبيعة المهام التي عُيّن من أجلها في المغرب.
تحدثت عن عدد من الشخصيات المغربية ممن التقتهم في مدة إقامتها في المغرب، وقدمت أوصافا دقيقة لطباع وشخصيات من عاشرتهم. ولا شك أن مذكراتها ستبقى مرجعا لتكوين فكرة عن الأوضاع الاجتماعية في الفترة التي خطت فيها تلك الأوراق».
«بول سيرفانت» المصور الاستعماري الذي وثّق حياة أجدادنا خلال الثلاثينات
شاب بنظرات جامدة. لم يكن يقوى حتى على النظر إلى الكاميرا. بذلة عسكرية أنيقة ومكوية بعناية شديدة. لم يكن الرجل محاربا رغم أنه كان برتبة عسكرية محترمة. فقد كانت مهمته توثيقية أكثر مما كانت متعلقة بحمل السلاح. لم يكن شائعا في الجيش الفرنسي خلال عمليات التوسع العسكري في الأطلس والجنوب الشرقي أن يكون مصورون على أرض المعركة. على كل حال. لم يدّع هذا المصور الذي توفي سنة 1958 أنه كان يوما على أرض المعركة، بقدر ما وثق حياة المغاربة في المناطق التي كانت مجاورة لثكنات العسكريين.
عشرات من الصور، أصبحت اليوم في ملكية الأرشيف الرسمي الفرنسي، التقطها هذا المصور ما بين سنوات 1900 و1930، أي خلال المدة التي قضاها في السلك العسكري متجولا بين المغرب والجزائر.
وُلد في ليون بفرنسا سنة 1878، وكانت عائلته عند وفاته تخطط لنقل جثمانه إلى هناك، لكنه دُفن في طنجة سنة 1958، أي بعد استقلال المغرب، بناء على رغبته الشخصية.
اشتغل عند مغادرته الخدمة العسكرية، أي خلال الثلاثينيات، كموظف في تمثيلية سياحية فرنسية كانت الغاية منها تلميع صورة فرنسا والدفاع عن وجودها في المستعمرات، ومنها المغرب بطبيعة الحال رغم أنها كانت «دولة حامية فقط»، من خلال التصوير. كيف ذلك؟
كانت مهمة «بول سيرفانت»، وقتها تتمثل في إنجاز أعمال مصورة لجمال العمران في كل من الدار البيضاء وطنجة بالإضافة إلى وهران وتلمسان بالجزائر.
«البروباغندا» كانت أيضا من الأهداف التي سُطرت للمكتب الذي عمل به المصور «بول». إذ كان واضحا من خلال الأعمال التي قام بها أثناء تصوير الدار البيضاء، خلال الثلاثينيات دائما، أنه ركز فقط على الجانب المعماري والاقتصادي الذي كانت فرنسا تريد إشهاره للرأي العام سواء في فرنسا أو في بقية دول العالم. كانت الخارجية الفرنسية تريد تقديم صورة ملمعة لوجودها في المغرب، وشمال إفريقيا عموما. لذلك، كانت الصور التي قدمها للدار البيضاء تحتوي على صور لسيارات في شوارع نظيفة وواجهات محلات تجمع بين الطراز الفرنسي والهوية المغربية الممثلة في الأقواس، بالإضافة إلى صور الفنادق المصنفة وواجهات المحلات التجارية الشهيرة في باريس، والتي فتحت فروعا لها في المغرب. بعكس مدينة طنجة التي نقل الحياة فيها كما هي. والتقط صور المغاربة البسطاء الذين كانوا يعيشون وقتها انفتاحا كبيرا على الجنسيات الأجنبية وليس فقط الفرنسيين، وكيف كانوا يحافظون على هويتهم الأصلية بارتداء اللباس التقليدي.
بدون مبالغة، التقط «بول» مئات الصور، صنفت من أبرز الأعمال المصورة التي قامت بها فرنسا في المغرب. ولديه أرشيف كامل لحياة المغاربة خصوصا في طنجة التي قضى بها آخر سنوات حياته.
صور لبوابات تاريخية وإعدامات وطنيين مغاربة اختفت من الأرشيف
نجت صورة وحيدة من صور تم إتلافها من الأرشيف. تتعلق الصورة بباب الخميس في مدينة وجدة. وحسب المعلومات المرتبطة بالصورة، فإن المصور يبقى مجهولا، والأرجح أنه موظف عسكري أوكلت له مهمة تصوير الباب قبل تدميره سنة 1920. جرت عمليات ترميم بطبيعة الحال لجل معالم مدينة وجدة بعد ذلك التاريخ. لكن العملية التي ألحقت الضرر ببعض المعالم القديمة في المدينة، كانت تطمح إلى إقبار تاريخ شرقي بأكمله، والتأسيس لتاريخ آخر لا يحتوي على المعالم التي ارتبطت لدى المغاربة بالمقاومة ضد الاستعمار.
نفس الأمر ينطبق على الصور العسكرية التي تتعلق بتنفيذ الإعدامات في حق الوطنيين المغاربة. خصوصا خلال السنوات الأولى للحماية الفرنسية. فقد كان المغاربة الأوائل الذين قرروا حمل السلاح ضد فرنسا، خصوصا في المناطق التي لم تعرف عمليات مقاومة «قبائلية» جماعية للاستعمار، شهودا على عمليات اعتقال واقتياد إلى محاكم فرنسية لم يكونوا يعترفون بها، مثلما وقع للمقاوم الحنصالي الذي ارتبط اسمه بالمقاومة المغربية وكيف تحولت من المبادرات الأولى الفردية إلى أعمال سرية منظمة. ارتأت فرنسا أن يعدم جيل «الحنصالي»، من خلال محاكمات عسكرية متحاملة على المغاربة، وكان تنفيذ الإعدام يتم بشكل معلن أحيانا، لكن داخل مناطق تستطيع فرنسا التحكم فيها أمنيا. فيما بقية الإعدامات تتم داخل مقر السجون الفرنسية، وبحضور ممثلين عن المؤسسة العسكرية الفرنسية وعن المحكمة أيضا.
خلال هذه الطقوس، كان مصور عسكري يحضر تفاصيل عملية الإعدام ويلتقط صورا لما قبل وبعد تنفيذ العملية، وتودع الصور داخل الملفات. لكن المثير أن أغلب الصور اختفت خلال مرحلة من المراحل، خصوصا خلال الخمسينات.
السبب أن بعض الطلبة المغاربة الذين كانوا يدرسون بفرنسا خلال بداية الخمسينات، كانوا يقومون بأنشطة حقوقية، برعاية من اليسار الفرنسي، وتمكنوا من مراسلة الأمم المتحدة. بعض تلك المراسلات التي صاغها طلبة في كلية الحقوق وقتها، ذكرت فظاعات تنفيذ أحكام متسرعة للإعدام في حق مواطنين مغاربة وغالبا مع حرمانهم من لقاء أسرهم اللقاء الأخير. كما أن تلك الرسائل تضمنت اتهامات صريحة لفرنسا بخرق معاهدات حقوق الإنسان أثناء تنفيذ أحكام الإعدام في حق الوطنيين المغاربة، والذين اعترف أغلبهم للإشارة بأنهم وطنيين نفذوا عمليات ضد الجيش الفرنسي.
وهكذا تم إتلاف صور كثيرة لعمليات تنفيذ أحكام إعدام مخافة فتح الأمم المتحدة لمُساءلة في الموضوع. وهو ما لم يحدث بطبيعة الحال. إلا أن تلك الرسائل كان لها دور كبير في التعريف بالقضية المغربية. وممارسة بعض الضغط على الإقامة العامة الفرنسية، رغم اختفاء الصور.
بالإضافة إلى عمليات الإعدام، كانت الإدارة الفرنسية أيضا توثق لعمليات اعتقالات وتلتقط صورا لمعتقلين مغاربة أمام طاولات تعج بالأسلحة التي صودرت أثناء اعتقال أولئك الشبان، وتقدمها كدلائل للإدانة. لكن ارتفاع أصوات معارضين فرنسيين استنكروا ظهور علامات التعذيب على أجساد المعتقلين، جعل الإقامة العامة الفرنسية تراجع سياستها في الأرشيف.
المفاجأة أن مؤسسة الأرشيف البريطاني كانت أيضا تحضر الأحداث الكبرى بالمغرب ما بين الأربعينيات والخمسينيات. لكنها احتفظت بأرشيف بالصوت والصورة، وليس فقط الصور الفوتوغرافية. واليوم، تملك مؤسسة الأرشيف البريطاني مقاطع فيديو تثبت تعرض شبان وطنيين للتعذيب في مخافر الشرطة الفرنسية خصوصا في الدار البيضاء. وأحد تلك المقاطع كان يظهر فيها بوضوح المحجوب بن الصديق وشبان آخرون كانوا ينتمون للحركة الوطنية في قبضة البوليس الفرنسي وأمامهم الأسلحة البيضاء التي صودرت معهم.
أما بخصوص إتلاف المعالم التي كانت تعتبر رمزية للمقاومة، فقد كان طبيعيا أن تطال الصورَ أيضا عمليات مصادرة بحكم تعرض المعالم نفسها للهدم أو القصف، وترميمها على يد معماريين فرنسيين كانوا يضفون اللمسة الفرنسية على كل ما يرونه أمامهم.
الدعارة.. النقطة السوداء في حياة المصورين الاستعماريين
كان معروفا أن المؤسسة العسكرية الفرنسية فتحت أحياء خاصة بالدعارة في جل المدن المغربية، حتى يتمكن جنودها من «الترويح عن أنفسهم». كانت الإقامة العامة الفرنسية لا تجد حرجا في رعاية وجود هذه التجمعات البشرية، خصوصا في المناطق النائية التي اتخذت فيها فرنسا لجيشها ثكنات كبيرة وقواعد ضخمة للسلاح والعتاد. بالإضافة إلى أحياء وسط المدن، خصوصا الدار البيضاء، تحولت هي الأخرى إلى قبلة لعناصر الجيش الفرنسي، بتأمين من الجيش بطبيعة الحال، وفتحت فيها دورا خاصة لهذا الغرض.
كانت هذه السياسة مادة دسمة للصحف الأجنبية، خصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية التي تطرقت لهذه الأحياء. حتى أن صحيفة أمريكية كتبت مقالا مطولا عن «السياحة الجنسية» التي كانت ترعاها فرنسا في المغرب وتوجه مقالات بخصوصها.
التقط مصورون، عبروا من المغرب، صورا لهذه الأحياء، وصوروا البؤس الاجتماعي الذي كانت تغرق فيه هذه الأحياء. حتى أن مقالا عُنون كالآتي: «العبودية الجديدة في المغرب». في إشارة إلى دور الدعارة التي كانت فرنسا قد أقامتها لجنودها في البداية وأهملتها لتتسع رقعتها، برعاية خاصة من محسوبين على الاستعمار. وفي 2012 فقط، قدم الباحثان «ج. آلبرت» والسيد «م. سابات» مقالا بحثيا معمقا، عنوانه: «Re-making a landscape of prostitution : the Amsterdam Red Light District» حول حي «بوسبير» في الدار البيضاء، وقدما خرائط لتوسعة الحي والحالة الاجتماعية لسكانه الأوائل الذين كانوا يغرقون في فقر، زادته مراقبة الجيش الفرنسي للمكان، حدة ووطأة.
في مناطق أخرى من المغرب، أسست دور خاصة بالدعارة، وأطلق عليها وقتها الدعارة الكولونيالية. لكن معالم تلك الدور أتلفت بمجرد مغادرة الجيش الفرنسي لتلك المناطق. وكان مصورون فرنسيون قد التقطوا صورا كثيرة لبعضها، لكن جزء منها بقي مخفيا عن الأرشيف الرسمي، رغم أن صورا مهمة تسربت خلال ثمانينيات القرن الماضي، وأصبحت الآن في ملكية مكتبات جامعات أجنبية، في أوربا وأمريكا، خصوصا في المسالك البحثية لمواضيع الاستعمار في شمال افريقيا خلال القرن الماضي. فقد كان انتشار الدعارة بتلك الطريقة في الحقيقة وجها من الأوجه المسكوت عنها للاستعمار.
بعض المصورين، تم إخفاء هويتهم الحقيقية، رغم أنهم التقطوا صور رسمية وليس فقط صورا للحياة العامة في المغرب. جدير بالذكر أن المصور الذي التقط أول صورة للملك محمد الخامس بعد تنصيبه سلطانا للمغرب سنة 1927، ليس معروفا إلى الآن رغم أن الصورة الرسمية التي التقطها توجد في أكثر مؤسسة أرشيفية رسمية. لماذا يبقى الرجل الذي التقط صورا تاريخية مهمة مجهولا؟
هنا سنورد مقطعا من مقالة عن واحد من أقوى رجال منطقة الشمال. المقال يتناول تجربة الريسولي مع أول صورة فوتوغرافية التقطت له رسميا لكي تُنشر في الصحافة، وهذه الصورة تزامنت مع مطالب أوربية باعتقاله لأنه كان وراء أخذ رهائن أوربيين في شمال المغرب وطالب دولا مثل فرنسا وبريطانيا وإيطاليا، بدفع غرامات مقابل الإفراج عن مواطنيهم. وهكذا شنت الصحافة ضده حملة هوجاء وطالبت بعملية عسكرية لإعدامه. لكن مصادر صحفية قليلة تمكنت من الوصول إليه ونشر الوجه الآخر للقضية. جاء في المقال: «وجدنا الريسولي ممددا على كرسي خشبي، ويفترش بقية جلسائه الأرض. أمروا لنا بفراش إضافي، ووضع المصور عُدة التصوير ليشرع في التقاط صورة للريسولي ورجاله. بمجرد ما رأوا الكاميرا حتى بدأوا في الانصراف ليبقى الريسولي جالسا وحده لم يغادر مكانه. أخبرناه أننا ننوي التقاط صور للجريدة، وبدت على ملامحه ابتسامة سرعان ما أخفاها وتصنع الجدية ليخبر المترجم أنه يريد أولا أن يعرف ما سنكتبه في المقال، وبعد ذلك سيقرر إن كان أمر التقاط الصور مسموحا، وأمر المترجم أن يجمع الكاميرا لأنها تتسبب له في التوتر.
كانت الغرفة لا تسمح بإضاءة كافية لالتقاط الصور، وطلبنا منه أن يتمشى في الحديقة لكي نأخذ له صورة مناسبة، لكنه لم يعبر عن أي اعتراض هذه المرة، والتفت في اتجاه المترجم حيث طلب منه أن نشرع في طرح الأسئلة عليه، لكي يجيب عنها ونحن نتجول في حديقة إقامته الفخمة، التي تعج بالخدم والمساعدين».
للأسف بقي المصور الذي التقط الصورة مجهولا، ولم تعرف هويته رغم أن هذا المقال نشر في نفس الوقت في أكثر من صحيفة بريطانية تناولت حدث التقاط أول صورة في التاريخ للرجل الذي أرعب الجالية الأوربية في منطقة شمال المغرب، قبل الحماية الفرنسية بسنوات.
ربما عمليات النقل التي تعرض لها الأرشيف الرسمي في أكثر من مناسبة كانت وراء اختفاء بعض الأسماء. وربما تكون تحاملات أخرى، أو معارك حول الملكية الفكرية هي السبب.