كل قلب ذائق الحب
يحل بنا يوم يترقبه كل العشاق بشغف وشوق، يوم يسمونه «عيد الحب»، يتغزل فيه الرجال بمعشوقاتهم وتتجمل فيه الفتيات لفرسانهن، وتُقدم الهدايا وتُؤكل الشوكولاته وتُحلِّق البالونات فوق رؤوس المحبين، ويجلس العاشق على مرأى عدسات الهواتف الذكية على ركبتيه في تعبير منه على مدى حبه للمعشوقة، وترتدي هي فستانا أحمر لتذكره بأنه ظفر بأجملهن، تفر المراهقات من أقسامهن للقاء خلانهن على جنبات سور الثانوية، يقفن بخوف من أن يتم كشف أمرهن، يتصايح رواد المواقع الاجتماعية ما بين مرحب بالعيد ولاعن له. يصرخ هؤلاء مدافعين عن يوم يتوجون فيه حبهم ويصرخ الآخرون مستنكرين تقليد الغرب في عيد لا صلة لنا به.. وتقف جحافل المرتبطات يترقبن حبيب الغفلة هل هو نسي الهدية أم لم ينسها.. أما وإن نسيها فليشهد عذابه رهط من الناس.
والحب صامت أخرس، يراقب الجميع واجما بائسا حزينا، يتساءل عما أجرمه حتى يحوله البعض ماركة مسجلة يستغلونها لتغليف بضاعتهم بورق أحمر لامع ووضع كلمة «حب» أعلاها لتباع بكثرة، أو يضعونه في قلب دبدوب مسكين ويقدمونه للمراهقين ليدفعوا مصروفهم الشهري مقابلا له في محاولة لنيل رضى الحبيبة .
ما الذي صنعه هذا الشعور البهي الآسر ليتم استهلاكه بطريقة مشمئزة كتلك التي يتم تقديمه بها من خلال الفيديوات الغنائية والأفلام المدبلجة، ليختزل على عظمته في حبيب يلهث وراء محبوبة لجمال وجنتيها وصدرها اللذين نحتتهما يدا جراح تجميلي بارع، وفتاة تفقد وعيها حينما يهديها حبيبها سيارة حمراء فارهة، فتحوم القصة حولهما هو يتصيد الحب من خلال هداياه وهي تتخطفه من خلال عمليات نفخ وشد وجذب وتكبير ..
يأتي فبراير ليتسابق الناس باحثين عن الحب، رافعين راية «أريد حبيبا للعيد» وكأنه كان في أجازة باقي السنة.. وكأن الحب لم يخلق سوى بين رجل وامرأة يحاول كل منهما إيقاع الآخر، منعدم بين سواهم. العشاق لاهون في عيدهم والعزاب يلعنون حظهم وقيامة من لم يتصل عند الثانية عشرة ليلا بالضبط متمنيا عيدا مجيدا وسؤددا رفيعا.. قائمة وصحيفته تسجل ووسائل تعذيبه جاهزة. حب يجعلهم متشنجين منفعلين متصادمين متحاربين، كل يتحين زلة الآخر ليوبخه على عدم اهتمامه.
يقلب الحب ثناياه متثاقلا فاقدا سحره ولمعانه، فيشيخ على ضفاف الاستهلاك التجاري له، ويذبل بعد أن تذيبه عروض المهرجين ممن جعلوه عرضة لأكاذيبهم «الهوليوودية».
الحب لم يخلق لفبراير ولا لغيره من الشهور، ولا للمرتبطين فقط.. فكل قلب ذائق الحب، أن تلقي السلام على جارك فذلك حب، أن تفتح باب السيارة لزوجتك فذلك حب، أن تفاجئ أختك بفيلم سينمائي جديد فذلك حب، أن تصلي رفقة أبويك فذلك حب، أن تطبخي لأبنائك وزوجك فذلك حب، أن تدعو أصحابك لسفرة بيتك فذلك حب، أن تعلم ابنك الحروف.. أن ترقص مع ابنتك على أنغام أغنيتها المفضلة.. أن تفاجئ أمك بقبلة على يديها.. أن تصاحب والدك للمقهى.. أن تخصصي وقتا لمرافقة أمك.. أن تسهري لمرض زوجك.. أن تعدي له إفطاره.. أن تمسحي على عينيه بعد العمل.. فهذا كله حب، بسيط، عميق، سهل، متين، متوفر، دائم، متصل.. يجعل الحياة أهدأ، أسعد وأطيب، لا تنافس فيه ولا ترصد ولا تتبع زلات.. يأتي من ذواتنا دون مجاهدة.. ينبثق منا دون تكلف ولا تصنع ولا بهرجة ولا إشهار.. لا يعلمه أحد، منحصر بيننا والمحبوب.
أما حجم التباعد بين هذا الذي يروجون له وذلك الذي يمنحك الحياة الأسعد.. فهو بحجم المعاناة التي تنتظر من نسي هدية «السان فالنتان».. عافانا الله وإياكم .