كلما حلت موجة البرد القارس، تعود قضية البنيات التحتية في المناطق الجبلية المغربية إلى الواجهة. ورغم أن الموضوع يُناقش تحت قبة البرلمان منذ قرابة عقدين من الزمن، إلا أنه لا شيء تحقق لصالح سكان المناطق المعزولة، باستثناء الإعانات وحملات الإحسان التي تكسر العزلة التي تفرضها عليهم الطبيعة كما فرضتها على أجدادهم قبل قرون.
في نواحي بني ملال، على سبيل المثال فقط، هناك سلسلة من الدواوير التي تطوقها الجبال، ولا يُسعفها موقعها الجغرافي في الاحتماء من التيارات الباردة، وهو ما يجعل الحرارة تنزل ليلا درجات تحت الصفر، داخل منازل لا تتوفر لا على نظام صرف صحي ولا على شبكة تطهير. بيوت مبنية بالحجارة والطين، مسقفة بطرق تقليدية، وفناؤها مفتوح مباشرة على السماء.
وهو ما يعني أن حياة هؤلاء الناس تصبح ضربا حقيقيا من العذاب. ليس لديهم صنابير داخل المنازل لتوفير المياه الساخنة صباحا، بل يضطرون أحيانا إلى انتظار انصهار المياه المثلجة في البراميل، حتى يُمكنهم استعمالها للنظافة والمطبخ.
ورغم أن شبكة الطرق عرفت ثورة حقيقية في المغرب، بشهادة تقارير منظمات أجنبية أيضا، إلا أن المناطق الجبلية ما زالت معزولة، وفك العزلة عنها يتطلب إنشاء أنفاق وقناطر لربطها بشبكة الطرق.
هناك أزيد من 44 جماعة قروية، بنواحي بني ملال، تعيش على وطأة العزلة خلال موسم التساقطات الثلجية. وإذا أضفنا بقية الأقاليم التي تؤثر الثلوج على مناخها، فإننا نتحدث عن مئات القرى والجماعات المغربية التي تعيش سنويا ظروفا طبيعية عصيبة.
لا أحد يعلم ماذا وقع حتى لم يعد هناك اهتمام إعلامي رسمي بالحياة اليومية لسكان الجبال، فقد كانت هناك «موضة» عكفت عليها بعض المنابر الإعلامية سنويا، تتمثل في إعداد تقارير واستطلاعات ميدانية عن المصاعب التي يعيشها سكان المناطق الجبلية، مثل «أنفكو»، الدوار الذي بلغ شهرة كبيرة دون أن يتغير من واقع سكانه أي شيء. اختفت هذه «العادة» الإعلامية، وأصبحت المواضيع التي تهتم بمعاناة سكان الجبال مع البرد قليلة، إن لم نقل نادرة جدا. ففي الوقت الذي كانت هناك تغطية إعلامية مكثفة للموضوع، نجح الإعلام على الأقل في لفت انتباه المغاربة إلى أن هناك إخوانا لهم يعيشون ظروفا إنسانية صعبة، وجُمعت التبرعات والمساعدات وقوافل فك العزلة عن الجماعات الترابية المتضررة.
وفي السنة الماضية سُجلت حالات كثيرة لمحاولات استغلال الوضع الإنساني لسكان المناطق الجبلية والمتاجرة بصورهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما جعل سكان جماعة قروية يتمردون ضد بعض الناشطين الذين جلبوا لهم مساعدات عينية عبارة عن ملابس، مزقوها أمامهم وتركوا أكياس الأثواب الممزقة متناثرة فوق أرضية ساحة بالدوار.
هذه الحركة الاحتجاجية كانت استنكارا من هؤلاء السكان لبعض المبادرات التي جعلت من قضيتهم الإنسانية أصلا تجاريا إما لحصد المساعدات، أو الترويج لصفحاتهم وقنواتهم الرقمية على الإنترنت.
السلطات المحلية تباشر سنويا إجراءات من قبيل مراقبة الطرق، أثناء فترات التساقطات الثلجية، ومنع حركة السير عبرها تجنبا لوقوع الكوارث. وأخيرا رأينا كيف تجندت السلطات للبحث عن شاب تائه وسط منطقة معزولة، وعثرت عليه، لتنقذ حياته قبل أن يُنهيها البرد القارس ليلا. وبما أن الحادث وقع في منطقة معزولة تماما، فقد أعفي الشاب من سخافة استغلال «المؤثرين» وأصحاب الصفحات و«القنوات» لقصته والمتاجرة بها إنسانيا.
أما معاناة النساء الحوامل، في هذه المناطق، فتبقى واقعا مستمرا رغم تحذيرات جمعيات المجتمع المدني، إذ إن رجال الدواوير يضطرون إلى نقل النساء على ظهور البغال أو فوق «حامل الموتى»، لكي يعبروا بهن الثلوج والوديان المتجمدة، بغية الوصول إلى أقرب مستشفى.
الحل لمعاناة إنسانية من هذا النوع، لا يمكن الوصول إليه أبدا بعصا سحرية تغير الواقع في دقائق. كل «برد قارس» وأنتم بخير..
يونس جنوحي