شوف تشوف

الرأيالرئيسيةثقافة وفن

كلام في «الملحون».. وعنه

 

 

يونس جنوحي

 

أخيرا سجلت اليونيسكو «الملحون المغربي» تُراثا عالميا، بعد قرون من النظم والمقامات والقصص التي وثقت الحياة العامة للمغاربة قبل قرون خلت.

لكن هل المغاربة يعرفون فعلا القصة الحقيقية وراء فن «الملحون» المغربي؟ الذين يسعون وراء السخافات الحالية التي لا تختلف في شيء عن محلات الوجبات السريعة، حيث «الزيت» القديم والأواني الملوثة، قد يفرحون عند مطالعة خبر تسجيل «الملحون» تراثا عالميا، لكنهم يقفزون فوق الخبر، كعادتهم مع كل ما يتطلب مجهودا فكريا.

والحمد لله أن الملحون لم يلق مصير أمور مغربية أخرى اندثرت، والاعتراف الرسمي بهذا التراث يستدعي أن يتم إحياؤه حتى لا يبقى حبيس الوصلات الرتيبة التي لا تُبث إلا في المناسبات الدينية والناس جالسون إلى الموائد المغربية.

هناك محاولات في التوثيق، قادها أساتذة وباحثون مهتمون بتاريخ الملحون المغربي، بدون أي تمويل أو دعم، معتمدين على إمكانيات محدودة جدا، لجمع كل ما يتعلق بفن الملحون والوثائق التي لا يزال أغلبها متفرقا بين العائلات التي ينتمي أبناؤها إلى الشجرة العائلية لرواد هذا الفن ومؤلفي قصائده.

لم يكن «عباقرة» الملحون مجرد مُغنين يقصدون «الديور الكبيرة»، كما كان متداولا، لإحياء حفلات دينية بين الفينة والأخرى، بل كان بعضهم من معارضي الوزراء والقياد عندما كانت فاس عاصمة إدارية للمغرب. هذا الملحون كان بمثابة «جريدة المعارضة» التي ينتظر الناس أن «يسمعوا» جديدها للتشفي في من يختارهم الشعراء لجلدهم أمام «الرأي العام».

وفي أحيان أخرى كان فن الملحون مؤرخا لأحداث العقود التي غاب فيها الكُتاب والمؤرخون أو خفت نشاطهم. فإلى جانب الكتب التي جمعت أحداث القرنين الماضيين وما قبلها، مثل «الاستقصا» للناصري، و«تاريخ الضعيف الرباطي» الذي جمع أغلب أحداث القرن التاسع عشر، ومؤلفات عبد الرحمن بن زيدان والمختار السوسي، فإن كُتاب قصائد فن الملحون كانوا مؤرخين أيضا، ولم تكن بعض أشعارهم في متناول العوام والأميين، بل كان فهمها يحتاج من المستمع يقظة وفهما لما وراء الكلمات.

لولا قصائد الملحون لما عرفت الأجيال المتأخرة من الباحثين بعض التفاصيل المتعلقة بطرد المغاربة من الأندلس، فقد جمع أحفاد المطرودين قصص أجدادهم وتغنوا بها وتنافسوا في ذكر تفاصيلها.

رحل عدد من رواد فن الملحون دون أن يُكتب لهم أن يعيشوا اللحظة التاريخية لتسجيل هذا الفن تراثا عالميا. والأخطر أن عدد الذين يرحلون أكثر من أعداد الذين ينشغلون بهذا الفن من الأجيال الجديدة. ولحسن الحظ تتوفر الآن تسجيلات لبعض المؤلفات القديمة التي كانت لتضيع برحيل الذين حافظوا على أدائها بنفس الطريقة التي أديت بها قبل مئات السنين، والواجب أن تنتقل إلى الأجيال الجديدة من المنتمين إلى الأسرة الكبيرة للملحون المغربي.

دائما ما ارتبط «الملحون» بنخبة أهل فاس، الذين يُتهمون بأنهم وراء احتكار المناصب والامتيازات. لكن الحقيقة أن هذا الفن إرث لسكان مدينة بأكملها.

حتى أن الذين حاربوا بث تسجيلات «الملحون» في التلفزة والإذاعة، أيام الأبيض والأسود، والقناة الوحيدة، قبل موجة الصحون اللاقطة والألياف البصرية، كانوا يرددون أن هناك حربا بين كبار المسؤولين باختلاف انتماءاتهم، لإقبار بث الملحون المغربي في الأعياد الدينية وتعويضه بألوان فنية أخرى تعكس ثقافة وأصول مسؤولين آخرين. مات أغلب هؤلاء المسؤولين بمختلف انتماءاتهم القبَلية، وبقيت الفنون فوق الاعتبارات السياسية الضيقة. سواء تعلق الأمر بـ «أحواش» أو «الملحون»، المغرب رابح دائما. وبعض الذين يصفقون الآن لتسجيل «اليونيسكو» للملحون واعترافها به تراثا للعالم، كانوا دائما ينتقصون من كل ما هو تراثي، ولعلهم الآن يفهمون لماذا يجب أن يكون لكل وطن جذور في الأرض، حتى يراه العالم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى