كسر حاجز اللغات (3 ـ 3)
بقلم: خالص جلبي
الأمريكيون لهم باع طويل في هذا الموضوع، نظرا لتدفق كل الملل والنحل واللغات إلى الشمال الأمريكي، بما يحيل نيويورك ومونتريال إلى بابل جديدة. ولكن المسألة الأمنية حركت عندهم الرغبة الملحة لكسر حاجز اللغات بأي ثمن، كي يفهموا ويراقبوا من يجب مراقبته، سواء كانت ألبانية أو بنغالية أو قفقاسية. وفي الخمسينات بدؤوا المشروع لكسر حاجز اللغة الروسية، ولكن بعد إنفاق المال الوفير والجهد الكبير لم يصلوا إلى طائل؛ فوصلوا إلى القناعة القائلة إن اللغة معقدة إلى الدرجة التي لا يمكن للآلة أن تحل هذا اللغز.
ولكن هذه الخلاصة تم إعادة النظر فيها من جديد، وبدأ خبراء التجسس في وكالة الأمن القومي (ناسا) في تجنيد خبراء الكمبيوتر لهذا الغرض، ونشرت مجلة «دير شبيغل» الألمانية (38/2003) أن الشاب (فرانتس يوزف أوخ Frantz Joseph Och) تم إغراؤه والتقاطه إلى مدينة لوس أنجلوس إلى جامعة جنوب كاليفورنيا، ليقفز فوق هذا الحاجز الخرافي. وكانت بداية التعامل معه، حينما تم تقديم عرض اختبار على أربعة فرق من خبراء الكمبيوتر في الأول من يونيو 2003م أن تنطلق إلى فك اللغة الهندية، واستطاع هذا الشاب البالغ من العمر 31 سنة من مدينة آخن الألمانية، ولم يأخذ بعد الثانوية العامة، أن يكسر حاجز اللغة الهندية في أربعة أسابيع.
ويعترف الرجل بأن ترجمة الهندية تحتاج إلى شيء من الجهد البسيط، ولكنها تعين بما يستطيع الإنسان أن يقرأ الأشياء الرئيسية في جريدة عامة باللغة الإنجليزية، وهو يقلب صفحة هندية. وتجربة الرجل جاءت من اهتمامه بتسخير الكمبيوتر لقهر اللغات على نحو غريب غير الطرق التقليدية.
وعندما يتحدث إلى خبراء الإرهاب والجاسوسية الأمريكيين، يأخذ الإنجيل بيده ويقول في البدء كانت الكلمة، وهي الفقرة الأولى من إنجيل يوحنا. ثم يقول إننا لا نعتمد قواعد النحو والصرف التقليدية، بل نعتمد ببساطة القوة البدائية الإحصائية للكمبيوتر وطاقة الحساب. إننا بكلمة ثانية لا نعلم الكمبيوتر اللغة، بل ندعه يتعلمها بنفسه.
ولشرح هذا فإنه يعتمد اللغات الموازية، وهو ما يذكر بالعمل الذي قام به العالم الفرنسي فرانسوا شامبليون، عام 1822 م على حجر رشيد، الذي كتب عام 200 قبل الميلاد وبثلاث لغات هي اليونانية، الديموطيقية والهيروغليفية، وعثر على الحجر مع بعثة نابوليون في مصر عام 1799م، ولكن شامبليون سهر على الحجر 13 سنة حتى كانت تلك الليلة التي انفكت فيها أسرار اللغة الهيروغليفية؛ فعادت إلى الحياة وخرج الفراعنة من قبورهم يتكلمون، وفاح المكان ببخور كهنة آمون، فخر شامبليون صعقا مغشيا عليه، فلما أفاق قال سبحانك.
يقول الألماني (أوخ Och) إنه فك معظم لغات الاتحاد الأوروبي الخمس عشرة، بما فيها اللغة الفنلندية المزعجة. وكذلك الصينية واليابانية، بل وحتى لغة (السيبوانو Cebuano) في إحدى جزر الفلبين، ولا ينطقها سوى 19 مليون نسمة، وفعل ذلك كله في عشرة أيام، ويقول إن فك بعض اللغات لا يحتاج أكثر من ساعات. كل ما تحتاجه هو تلقيم الكمبيوترات سريعة الكلمات؛ لتتفاعل في أحشاء الجهاز؛ فيهضمها فيتمكن منها؛ فيحولها مثل وشيعة الكهرباء من لغة إلى لغة؛ فلا تحتاج كل لغة كي تنقل على ورقة من حجم A4 إلى اللغة الإنجليزية أكثر من دقيقة واحدة.
وطريقة عمل الكمبيوتر تعتمد على أسلوب مستحدث كما ذكرنا عن حجر رشيد، عن طريق اللغات الموازية، وبشيفرة مكونة من عشرة آلاف سطر، اخترعها الكمبيوتر لنفسه، كي يفهم في بحر نصوص اللغات متوازية الجمل مترجمة من لغة إلى أخرى.
ولكسر جدار اللغة العربية مثلا فقد تم تلقيم الكمبيوتر بحوالي 150 مليون كلمة من مصادر شتى باللغتين العربية والإنجليزية، من الإنجيل والقرآن وكل النصوص الموجودة على ظهر الأرض، بما فيها المصطلحات من نشرات الإذاعة والقواميس ووثائق الأمم المتحدة وباللغتين، ثم يقوم الكمبيوتر بفهم الكلمات المتوازية وتوليد النصوص الجديدة المترجمة؛ فمثلا كلمة الرجل الكبير والرجل السمين ـ كما يقول (أوخ) باللغة الألمانية ـ يعزل فيها الكمبيوتر الرجل، لأنه مشترك، ليقرر بعدها السمين والكبير. وحجم 150 مليون كلمة للغة العربية يعني ما نشر على مدى ثلاثين سنة لمجلة تصدر أسبوعيا وعلى مدار ثلاثين سنة، وتضم في المتوسط 300 صفحة، ولكنها بالنسبة إلى اللغة الهندية لم تتطلب أكثر من ثلاثة ملايين كلمة.
ومن الملفت للنظر أن الكمبيوتر بدأ بالتقاط أشياء جديدة في الترجمة، فلم يعد ذلك الصندوق الحديدي الغبي، بل بدأ يفهم جملة «من أين تؤكل الكتف» أنها لا تعني الأكل من الكتف، بل المهارة في التعامل. أو في اللغة الهولندية لشعب يعشق الجبنة وصناعتها أن جملة «لم يأكل بعد من جبنة الدكان»، أنها تفيد بأنه لا يفهم في المصلحة. أو جملة «يضرب على أذنه» باللغة الألمانية، أنها لا تعني الضرب الحقيقي على الأذن، بل الغش والاحتيال.
ويعترف (أوخ) بأن عمله غير كامل، والكمال لله، وكثير من النصوص تهذي وتعرج وتنطق باطلا ولغوا. والمهم فالمشروع يحبو مثل الطفل في أول مشيته من عامه الأول، وأما نقل الشعر إلى الشعر فهو أمر بعيد المنال حاليا.
ومصلحة الجيش والاستخبارات في البنتاغون لم تصرف 22 مليون دولار هذا العام لعمل أكاديمي، بل يهمها (الميمي الثلاثي): من؟ متى؟ ماذا؟ ثم.. أين؟ وأكثر همها ومبلغ حرصها فك أسرار اللغة العربية حاليا، وهي اللغة الأكثر اختراقا وتطويعا في الكمبيوتر.
ولكن رب ضارة نافعة، فترجمة القرآن إلى كل لغات العالم لا تفيد في العمل الجاسوسي؛ بل نقل مفاهيم هذا الكتاب إلى كل الجنس البشري، محولا بأموال أمريكا وجهد رجال البنتاغون. وكما يقول المثل اليهودي: «إذا رضي الله عنك ساق لك من يخدم هدفك».
طريقة عمل الكمبيوتر تعتمد على أسلوب مستحدث كما ذكرنا عن حجر رشيد، عن طريق اللغات الموازية، وبشيفرة مكونة من عشرة آلاف سطر، اخترعها الكمبيوتر لنفسه، كي يفهم في بحر نصوص اللغات متوازية الجمل مترجمة من لغة إلى أخرى