كسر حاجز اللغات (1 ـ 3)
بقلم: خالص جلبي
في عام 1975 م اجتمعت برجل من طائفة (شهود يهوه) في ألمانيا، فقال لي إن الله عاقب البشر حينما بلبل ألسنتهم في بابل، فبعد أن كان الناس ينطقون بلسان واحد حل عليهم الغضب الإلهي فتنوعت اللغات. وهو كلام غير صحيح علميا، فلم ينطق البشر منذ أن خلقهم الله يوما واحدا بلغة مشتركة. وكان جوابي على الرجل أن القرآن يعتبر هذا من آياته للبشر «ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم»، وتوجد على ظهر الأرض اليوم أكثر من ستة آلاف لغة تنقرض منها كل عام العشرات. وكلام الرجل جاء من العهد القديم، هلم فلنبلبل ألسنتهم. فعندما انهار برج بابل، نظر الناس إلى بعض فلم يفهم أحد على الآخر. وهذا الكلام قد ينفع في بناء الأساطير، ولكن ليس له نسب من العلم. وفي يوم اجتمعت بمحمد عنبر، وهو رجل فكر فاضل بعد أن اطلعت على كتاب له بعنوان «جدلية الحرف العربي» زعم فيه أن حل المشكلة الوجودية في كل اللغات، أن كل كلمة تحمل معناها ونقيضها في الوقت نفسه (مثل جر ورج، وبر ورب، وحب وبح). ولكن علماء الأنثروبولوجيا والألسنيات لم يستطيعوا حتى اللحظة أن يجيبوا إلا عن سؤال واحد، بأن لغات البشر أجمعين تشترك في سمات واحدة، ولكن لا يستطيع أحد الادعاء أن أصلها لغة واحدة مفقودة، مثل الحلقة المفقودة في نظرية داروين.
وهذه الفكرة أغرت أكثر من شخص منهم الفرعون (بسماتيك الثاني)، الذي حبس أطفالا معزولين عن العالم ليعرف أي لغة ينطقون. وهو ما فعله أيضا الملك (فريدريك الثاني) المستنير، حاكم صقلية من القرن الثاني عشر للميلاد، تحت ضغط الفكرة نفسها؛ ففي زعمه أن اللغة أمر وراثي وأن أصل اللغات العبرية! ولكن الأطفال في كلا التجربتين لم ينطقوا شيئا.
ونحن نعرف اليوم أن اللغة والكتابة أمر كسبي، وأن الطفل إذا حرم من تعلم هذه المهارة في سنوات عمره الأولى فقدها إلى الأبد، كما في قصة (صبي أفيرون الوحشي)، التي جاءت في كتاب «بنو البشر» في سلسلة «عالم المعرفة» للكاتب (بيتر فارب).
والمهم فاللغات تمثل حواجز ثقافية بين شعوب الأرض، والترجمة حلت هذه الإشكالية. وحاليا في (غوغل) قسم خاص لترجمة عشرات اللغة، ولكنها معيبة ومضحكة في الوقت نفسه، شاهدا على أن ترجمة كلمة بكلمة ليست صحيحة تماما. وترجم الإنجيل والقرآن إلى معظم لغات الأرض. ولكن المشكلة الملحة كانت رغبة البنتاغون الأمريكي في كسر حاجز اللغات من أجل مراقبة العالم، بعد أحداث شتنبر، وفي معهد الأبحاث «داربا Darpa» التابع له يوجد مشروع باسم «تايدس Tides» مجند لهذا الهدف، ولكن علينا أولا أن نأخذ فكرة عن وكالة «داربا» السرية.
في 4 أكتوبر من عام 1957م أصيبت أمريكا بصدمة (السبوتنيك Sputnik)، حين تفوق السوفيات في علوم الفضاء؛ فأرسلوا أول قمر صناعي بقطر 58 سنتيمترا، ووزن 83,6 كيلوغراما، يسابق القمر بسرعة 28,8 ألف كلم/ ساعة، يطوف المدار الأرضي على شكل قطع ناقص كل 96,2 دقيقة؛ فعرجوا إلى السماء وأمريكا تتفرج.
كان يومها (دوايت أيزنهاور)، الرئيس 34 الأمريكي، قائد حملة النورماندي في أوروبا (عملية الرب الأعلى Overlord) لسحق النازية، فاستدعى نخبة القوم للتصرف، كان الجواب ولادة مشروع سري هو (داربا DARBA)، وهي كلمة رمزية من مقدمة خمس كلمات تعني (وكالة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة).
الجواب الأمريكي الأول كان كيف وصل الروس إلى عروج السماء؟ وما هي التقنية والمعلومات التي بين أيديهم؟ فقالوا إنه نظام التعليم فقاموا بثورة في التعليم. وهو البند الأول في النهضة، من مثلث مكون من ثلاثة أضلاع: التعليم ـ الأفراد ـ المؤسسات.
كان الجواب الثاني بناء مؤسسة الفضاء المعروفة باسم «ناسا»، ويومها قال كينيدي: «لن يحل علينا يوم الاستقلال الأمريكي، وإلا ومواطن أمريكي على ظهر القمر». وهو الذي كان!
لم تكن «ناسا» الوحيدة التي ولدت من وكالة «داربا»، فاجتماع العقول والمال والطموح ليس له حدود، وهو ما نعرفه عن أمريكا حين انطلقت بمشروع القنبلة الذرية في (ألامو غوردو) و(أواك ريج) في بناء مختبرين أوليين بين عامي 1942 ـ 1945م بطريقتين مختلفتين، تخصيب اليورانيوم 235 واختراع قنبلة البلوتونيوم 239.
تم إصلاح نظام التعليم وبنيت مؤسسة «ناسا» لاختراق قبة السماء؛ فأن يسبح الروس فوق رؤوسهم؛ فهذا يحمل تهديدا أن تمطر السماء عليهم بشواظ من نار ونحاس فلا تنتصران.
قال القوم نحن مقدمون على حرب عالمية ثالثة لاريب فيها؛ فكيف سيتواصل الدماغ الحكومي في ساعة الصفر؟ قاموا ببناء نظام اتصال لاسكي يبث المعلومات ويوصل الخبراء والمسؤولين بعضهم ببعض، هذا النظام هو (الآربانيت Arpanet).
ثم مط الزمن مع الحرب الباردة، إلى حين تفكك النظام السوفياتي الشمولي؛ فلم يعد ثمة مبرر للسرية؛ فتحول النظام إلى العلنية واستخدمها القوم، كما أتذكر من صديقي الدكتور (شابسغ) حين أطلعني على ما عرف بشارع المعلومات، وهو اليوم نظام الإنترنت الذي أكتب على ثبجه الأخضر أسطري هذه؛ فأرسلها بطرفة عين من كندا إلى الشرق. وهي فلسفة عميقة كما نرى في جدلية الشر والخير.
علماء الأنثروبولوجيا والألسنيات لم يستطيعوا حتى اللحظة أن يجيبوا إلا عن سؤال واحد، بأن لغات البشر أجمعين تشترك في سمات واحدة، ولكن لا يستطيع أحد الادعاء أن أصلها لغة واحدة مفقودة، مثل الحلقة المفقودة في نظرية داروين