شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

كرة القدم في ضيافة الفكر والأدب

إعداد وتقديم: سعيد الباز

 لا تحظى الرياضات المختلفة وحدها باهتمام الكتابة الأدبية والإبداعية فقط، بل تتجاوز ذلك إلى الوقوف عند أهمّ مظاهرها ودلالاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفكرية، إضافة إلى أشكالها وكيفية تفاعل ممارسيها وجمهورها الواسع بطقوسه الاحتفالية وأنماط تعابيره المختلفة. ومن بينها كرة القدم، الرياضة الأكثر شعبية في العالم، التي تحمل من خلال أطوارها في مضمونها وشكلها عدة أبعاد درامية وتراجيدية تبلغ حدّ الأسطورة أحيانا، فتذكرنا بالملاحم القديمة. هذه الأبعاد كلها جعلت منها موضوعا أثيرا في الفكر والأدب، مع اختلاف مقاربته وتناوله فكريا وأدبيا. فهناك من جعل فقط من رياضة كرة القدم خلفية لعمله الأدبي كما هو الشأن لدى الروائي النمساوي بيتر هاندكه Peter Handke في روايته «خوف حارس المرمى عند ضربة الجزاء» والروائي الجزائري رشيد بوجدرة في روايته «ضربة جزاء». فيما كتب الشاعر محمود درويش عن كرة القدم بتعاطف كبير مسجلا مشاهداته لأطوار المونديال إبّان حصار بيروت الشهير، كما اختار الشاعر الاردني استعادة ذكريات المراهقة من خلال لعبته المفضلة. لكن الروائي الأوروغوياني إدواردو غاليانو في كتابه «كرة القدم بين الشمس والظل» كتب تاريخا مفصلا لهذه اللعبة متوقفا عند رمزيتها لدى الكثير من الشعوب، والكاتب والرسام الأرجنتيني روبرتو فونتانا روسا Roberto Fontanarrossa فيمكن اعتباره أشهر كاتب لأدب كرة القدم. في المقابل حمل الروائي جورج أورويل في مقاله الشهير «الروح الرياضية» والروائي والعالم السيميائي أمبرطو إيكو Umberto Eco في كتابه «كيفية السفر مع سلمون» رؤية انتقادية لهذه اللعبة لا تخلو من السخرية اللاذعة والكشف عن أهم مظاهرها السلبية.

 

بيتر هاندكه.. خوف حارس المرمى عند ضربة الجزاء

… عندما سألتاه عن مهنته، قال إنّه كان حارس مرمى. وأوضح أنّ حارس المرمى يستطيع أن يمارس اللعبة مدّة أطول من لاعب الميدان. قال بلوخ: «لقد كان تسامورا كبيرا في السنّ إلى حدّ ما». وردا على ذلك، تحدثتا عن لاعبي كرة عرفاهما شخصيا. عندما تكون هناك مباراة في منطقتهما. يقفان خلف مرمى الفريق الضيف ويستهزئان بحارس المرمى، حتّى يفقد أعصابه. كانت سيقان معظم حرّاس المرمى مقوسة.

لاحظ بلوخ أنّه كلّما ذكر شيئا وتحدث عنه، تجيب الاثنتان بحكاية حدثت لهما مع الشيء المذكور أو شيء مشابه له، أو حتّى، تحكيان ما تعرفانه عن الشيء من قبيل السمع. فإذا تحدث بلوخ مثلا عن كسر ضلوع حدث له حينما كان حارس مرمى، أجابتا أنّه منذ بضعة أيّام، حدث أن سقط عامل بورشة تقطيع الأخشاب تحت رصّة من ألواح الخشب وأصيب كذلك بكسر في الضلوع، وعلى إثر ذلك قال بلوخ إنّ شفتيه خيطتا عدّة مرّات، فحكتا ردّا على ذلك عن مباراة ملاكمة في التلفزيون، فتح فيها حاجب الملاكم أيضا. ثم حكى بلوخ أنّه كان قد اصطدم بعارضة المرمى أثناء إحدى القفزات وانشق لسانه، فأجابتا في الحال أنّ لسان الطفل الأبكم مشقوق… وعندما حكى عن ضربة حرّة غير مباشرة، لم يشرح فقط، ما هي الضربة الحرة غير المباشرة، لكنّه أوضح لهما، أثناء انتظارهما لسماع بقية الحكاية، قواعد الضربة الحرة، بل وحتّى عندما ذكر ضربة ركنية أقرّها أحد الحكام. اعتقد أنّه من الواجب عليه أن يوضح لهما أنّ الأمر لا يتعلّق بأحد أركان الحجرة. وكلّما أطال في الحديث، بدا له ما يقوله أقلّ طبيعية. وشعر تدريجيا باحتياج كلّ كلمة إلى إيضاح. عليه أن يملك زمام نفسه، حتّى لا يتلعثم في وسط الجملة. حدث عدة مرّات أن زلّ لسانه عندما كان يفكّر مسبقا في الجملة التي يقولها…

ذهب بلوخ بعد الغداء إلى الساحة الرياضية، وسمع من على بعد صياح المتفرجين. عندما وصل، كانت الفرق الاحتياطية تقوم بالإحماء. جلس على دكّة بالناحية الطولية للملعب وأخذ يقرأ الجريدة حتّى وصل لملحقات نهاية الأسبوع. سمع صوتا يشبه سقوط قطعة من اللحم على أرض حجرية، رفع رأسه ورأى أنّ الكرة الثقيلة المبللة ارتطمت برأس أحد اللاعبين.

نهض وانصرف. وعندما عاد كانت المباراة الأساسية قد بدأت. وكانت الدكك محجوزة. مشى بطول الملعب خلف المرمى. لم يرد أن يقف ملتصقا بالمرمى. وصعد منحدرا إلى الشارع. مشى بطول الشارع حتى وصل إلى راية الركنية. وتصور أنّ زرا قد قُطِع من معطفه وجرى على أرض الشارع. التقط الزرّ ووضعه في جيبه.

تحدّث مع شخص ما جلس بجانبه. استعلم منه عن الفرق التي تلعب وسأله عن مركزها في جدول الدوري. وقال بلوخ إنّ عليهم ألّا يلعبوا كرات عالية في ظلّ هذه الريح المضادة… أجاب الرجل: «لا أعرف شيئا عن الفرق التي تلعب، إنني مندوب مبيعات وأقيم بالمنطقة لعدة أيام». قال بلوخ: «يصرخ اللاعبون كثيرا جدّا، اللعب الجيّد يسير بهدوء».

… واحتسبت ضربة جزاء. جرى كلّ المشاهدين خلف المرمى… رأى بلوخ أنّ كلّ اللاعبين خرجوا من منطقة الجزاء. وضع راكل ضربة الجزاء الكرة في موضعها الصحيح ثمّ رجع بظهره للوراء خارج منطقة الجزاء.

قال بلوخ: «عندما يبدأ الراكل في التحرّك، يشير الحارس بجسده رغما عنه إلى الاتّجاه الذي سيرمي بنفسه ناحيته، ويستطيع الراكل بهدوء أن يسدد الكرة في الاتجاه الآخر. كذلك قد يمكن لحارس المرمى أن يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه».

تحرّك الراكل فجأة. ظلّ حارس المرمى الذي ارتدى سترة صفراء زاهية ساكنا تماما وسدد له راكل ضربة الجزاء في يديه.

روبرتو فونتانا روسا.. مذكرات جناح أيمن         

وها أنا هنا. كما كان الحال دائما، أتمركز جيّدا بجوار خطّ التماس لأفتح اللعب. لم يعلمني أحد المسألة. إنّها أمور يعرفها المرء وحده، بجانب إرسال العرضيات أو إسكان الكرة في المرمى بأيّ شكل. هذه مهمّة الأجنحة. لا تأتوا لي بهذه الترّهات عن الجناح «المتأخّر» أو الجناح «الوهمي» أو أيّ شيء ملعون. فالأمر يتعلّق فحسب بالتمركز في الأمام على امتداد خطّ التماس.

أفتح اللعب كي لا يتراكم المهاجمون في قلبه. لا يوجد شيء مثل التراجع لمساعدة الظهير. إذا كان الظهير لا يقدر على مراقبة جناح الخصم، فلأيّ سبب داعر بلعب كظهير؟ ما يحدث الآن هو أنّ أيّ طفل يتساقط مخاطه يخرج بنظريات وأشكال جديدة عن اللعب ويحدّثك عن «الطريقة الهولندية» أو «الطريقة البرازيلية» أو أيّ حماقات أخرى.

من فضلكم ! الكرة هي شيء واحد، وبالنسبة إليّ لا أقتنع سوى بالتشكيل الكلاسيكي: يقف الحارس متمركزا ومتنبها في مكانه أمام المرمى. أسمع أحدهم هناك يقول إنّ الحارس «جاتي» يلعب في كلّ منطقته بل يخرج لمنتصف الملعب… حسنا. هذا الأمر يسري معه، ولكن أنا أرغب في أن يبقى الحارس أسفل مرماه ولا شيء آخر لأنّه في الأساس يدعى حارس مرمى. بعده يأتي خطّ مكون من ثلاثة لاعبين ثمّ آخر من خمسة، وفي المقدمة يتركوننا نحن الثلاثة. منذ أكثر من عشرين عاما ونحن نلعب بهذه الطريقة وتعفنّا من كثرة تسجيل الأهداف.

نسجل أهدافا كثيرة. أعتقد أنني سجلت بالفعل لوحدي 6800 هدف وبعدها يحدّثوني عن «بيلي» ! أو يديرون نقاشات فارغة لأنّ مارادونا سجل مائة هدف. هذه المائة أنا أسجلها في موسم واحد. صيفا حينما يمكث الفتية في النادي حتّى الثانية صباحا، أتجرّأ على تسجيل أربعين أو ربما خمسين هدفا في الأسبوع الواحد. أربعين وخمسين لوحدي… مارادونا؟ كفى هراء من فضلكم ! كلّ هذا وأنا لم أحدثكم عن مهاجمنا الصريح. ربّما يكون سجل أكثر من اثني عشر ألف هدف بساقيه، و… ها هو الرجل هناك ! حيث يجب أن تكون رؤوس الحربة. في فم المرمى… تلك المنطقة الصغيرة. يتلقّى الكرة، و… هدف صحيح مئة في المئة. واعلموا أنّ صاحب رقم 9 عند «بوكا» ليس سيئا هو الآخر، هو يعتمد أسلوبنا نفسه. دائما يتمركز هناك: في ملحمة طروادة. لقد أفسد لنا أكثر من مباراة ! لم أشاهد الأهداف التي سجّلها في مرمانا، لكن سمعت الهتافات وصوت الكرة وهي تدخل المرمى.

يضعها بقوة رعاة البقر القدامى، ولكن حسنا… هو يلعب مع جناحين بائسين، لكنّه إذا لعب هنا بجواري، كان ليسجّل اثني عشر ألف هدف. نعم… لصنعت له مزيدا من الأهداف ! نعم كنت لأفعل هذا ! أتذكّر يوم مباراتي الأولى. أحدثك عن شيء حدث منذ خمسة وعشرين عاما، أي ربع قرن. أزالوا قطعة الخيش التي غطّت الملعب وأقسم لك أنّ الإضاءة كادت أن تعمينا. شمس كبيرة متوحشة. تمكنت من الرؤية بالكاد عبر لمعان القمصان، بالأخصّ قمصاننا نحن، لأنّها بكلّ تأكيد كانت اللون الأبيض. الخطوط الحمراء كانت تبدو كأنّها من نار. الأمر ليس مثل الآن بعدما سقط أغلب الدهان وظهر لون الحديد والأمر نفسه يسري على الأرضية التي لم يعد يتبقى شيء من خضرتها.

كيف أصبح هذا الملعب هكذا ! يا للأسف ! يا لقلّة الاهتمام ! ولكن حسنا… ذلك اليوم كان شيئا لا ينسى.

جورج أورويل.. الروح الرياضية

… تكاد التنافسية أن تكون سمة جميع الألعاب الرياضية التي نمارسها اليوم. أنت تلعب كي تفوز، وليس للعبة معنى يذكر إن لم تبذل كل ما في وسعك للفوز. أما على البساط الأخضر في القرية، حيث تختار الفريق الذي تشاء، ولا مكان للوطنية المحلية، يمكنك اللعب ببساطة من أجل المتعة والتريض. لكن ما إن تظهر نقطة «الوجاهة»، وما إن تشعر أنك ومعك كيان أكبر عرضة لـ«الخزي» حال الخسارة، حتى تستيقظ داخلك أكثر الغرائز القتالية وحشية. يعرف ذلك كل من شارك في مباراة، حتى لو كانت كرة القدم المدرسية. والرياضة على المستوى الدولي محاكاة صريحة للحرب. لكن سلوك اللاعبين ليس الأهم، بل موقف المشجعين، ومن ورائهم الأمم التي تجهد أعصابها حتى تتأجج غضباً بسبب هذه المنافسات العبثية، وتؤمن بصدق – ولو لفترة قصيرة – أن في الركض والقفز وركل الكرة امتحانا لوطنيتهم.

… متى تثور روح تنافسية قوية يختفي مبدأ اللعب النظيف. يرغب الناس في رؤية أحد الجانبين متوجاً والآخر ذليلاً، وينسون أن الفوز المكتسب عبر الغش أو تدخل الجمهور لا معنى له. حتى لو لم يتدخل الجمهور فيزيائياً فإنه يحاول التأثير على مجرى المباراة عبر تشجيع فريقه، وكسر اللاعبين المنافسين بصيحات الاستهجان والإهانة.

لا علاقة بين الرياضة الجادة واللعب النظيف. بل إنها مرتبطة بالكراهية، والحسد، والتبجح، وتجاهل جميع القوانين، والمتعة السادية المكتسبة من مشاهدة العنف: بعبارة أخرى، إنها حرب بغير طلقات. بدلاً من الثرثرة عن المنافسة الشريفة والصحية في ملاعب كرة القدم، وعن الدور الكبير الذي لعبته الأولمبياد في التأليف بين الأمم، يجدر التساؤل عن سبب وطريقة ظهور هذه الديانة الرياضية الحديثة، ذلك أكثر نفعاً.

… كانت أكثر الرياضات التنافسية انتشاراً هي أكثرها عنفاً، أي كرة القدم والملاكمة. لا شك أن الأمر كله مرتبط بصعود القومية ومعها التقليد الجنوني الحديث الذي يدفع المرء إلى استمداد هويته من الانتماء إلى مجموعات أكبر وأقوى، وتقييم كل شيء على أساس الوجاهة التنافسية. إضافة إلى أن الألعاب المنظمة أكثر عرضة للازدهار في المجتمعات المدنية التي يحيا فيها الإنسان العادي حياة يغلب عليها الثبات والاستقرار، أو هي حياة مقيدة على أقل تقدير، كما لا يتمتع بفرصة كبيرة في ممارسة عمل إبداعي.

يتخلص الولد أو الشاب في المجتمع الزراعي من قدر كبير من فائض طاقته عبر المشي، أو السباحة، أو قذف كرات الثلج، أو تسلق الأشجار، أو ركوب الخيل، أو ممارسة رياضات أخرى تتضمن إيذاء الحيوانات مثل صيد الأسماك وصراع الديكة ومطاردة الفئران. بينما يحتاج المرء في المدن الكبيرة إلى الانخراط في أنشطة جماعية إذا أراد متنفساً لقوته البدنية أو نزعاته السادية.

تُعامل الألعاب الرياضية في لندن ونيويورك بجدية، وهكذا كان الحال في روما وبيزنطة: كان اللعب في العصور الوسطى يتضمن قسوة فيزيائية كبيرة، إلا أنه لم يكن يُخلط بالسياسة ولا يتسبب في كراهية لجماعات معينة. إذا أردت زيادة مخزون الكراهية الحالي في العالم، فلن تجد لذلك وسيلة أفضل من سلسلة مباريات كرة قدم بين اليهود والعرب، والألمان والتشيكيين، والهنود والبريطانيين، والروس والبولنديين، والإيطاليين واليوغوسلافيين، بحضور جمهور مختلط قدره 100 ألف متفرج في كل مباراة. لا أقصد بذلك إطلاقاً أن الرياضة من أسباب الصراع العالمي الرئيسية، فالرياضة الجماهيرية نفسها، في ظني، مجرد أثر آخر للأسباب التي أنتجت القومية. لكن يظل إرسالك فريقاً من أحد عشر رجلاً، مصنفين كأبطال قوميين، لمواجهة فريق منافس، مع السماح بذيوع فكرة خسارة الأمة المهزومة لشيء من كرامتها بين الجانبين، تصرفا لن تزيد به الأمور إلا سوءاً…

أمجد ناصر: كلُّ شاعر لاعب كرة قدم سابق

… العلاقة بين الشعر وكرة القدم أوثق مما تظنون، مع أنَّ لا علاقة فعلية بينهما!… واسمحوا لي بالبرهنة عليها.

كرة القدم والشعر نشاطان متلازمان في عمر البشر المعاصرين (دعوني أقول الذكور). ولكن، في سنٍّ معينة بعد ذلك، يفترقان، ربما، إلى الأبد. كلّ مراهق لَعِبَ كرة قدم. ليست هناك مدرسة، على الأغلب، ليس فيها فريق كرة قدم. وليست هناك حارة لا تتحول شوارعها، ساحاتها، مناطقها الخلاء، إلى ملاعب كرة قدم. قد لا تكون كرةً بالمعنى الدقيق للكلمة، بل لفافات قماش. الآن، وفَّر البلاستيك أشكالاً عديدة من الكرات، وبأسعار مقدور عليها.

كنا أبناء حارات شعبية، والتحقنا بالمدارس الحكومية. لا أذكر أحداً من أبناء الحارة لم يلعب «كرة» قدم. لا أتحدث عن المهووسين بهذه اللعبة (وهم كثر)، ولكن، حتى عمّن لم يهتموا بالرياضة والأنشطة البدنية، فإن لم تلعب كرة قدم في حي شعبي، ماذا عساك تفعل بفوران جسدك؟ ففي تلك الحارات التي لم تكن فيها شوارع معبَّدة، لا وجود لـ «مرفق» لتصريف النشاط البدني، هناك «الزعرنة» والعصابات وسكاكين الكبّاس. وهناك كرة القدم، أقصد الكرات القماشية التي كانت مناسبة جداً لأقدامنا الحافية.
كانت هناك نوادٍ رياضية في مركز المدينة، لها فرق «محترفة»، ولكن هذا الطور من العلاقة بكرة القدم يحدث بعد افتراق الكرة عن الشعر، ولنخبة محدودة جداً من الشبان، أولئك الذين كنا نحسدهم على انتمائهم إلى نادٍ له شعاره وقميصه الخاصّان، أولئك الذين سيرتدون شورتات وأحذية رياضية حقيقية، و«يشوطون» كرة قدم حقيقية أيضاً.

وبما أن «كرة» قدم الأحياء الشعبية ليست حقيقية، وقلة هم الذين توصلهم أقدامهم الحافية إلى النوادي الرياضية، فإن «الشعر» الملازم لها ليس حقيقيا كذلك، أعني ذلك التعبير المنثال، الذي يجهد لتقليد شعر المنهاج المدرسي، أو تلك «العبرات» المتفجّعة التي تضمها رسالة تحمل قلباً مطعوناً بسهم. فمَنْ، في فترة المراهقة، ذات الانقلابات الجسدية والنفسية، لم «يحب»؟ لا أظن أن هناك مَنْ لم يخفق قلبه، تضطرب نفسه، تتسارع دورته الدموية، تتعرّق يداه، عندما يطلُّ طيف «الحبيبة» المعبود. وبما أن هذه الحالة تحتاج إلى تعبير غير جسدي (على الأقل في بلادنا، على الأقل في زمني)، فإن التعبير المتاح عن فوران الروح والجسد هو الكلمات، سواء انتظمت في شكل «قصيدة»، تقلّد ما تعرفه من شعر، أو رسالة تنهل من مجازات الشعر ووطأة عاطفة المراهقة ومبالغاتها. فمثلما كلُّ مراهق «لاعب كرة قدم» (على النحو الذي بسطناه)، فإن كل مراهق «شاعر» وليس رساماً، شاعر وليس قصّاصاً، شاعر وليس موسيقياً، لأنَّ «الشعر» هو، على ما يبدو، الشكل الأقدر على التعبير عن «الحب». هناك خانة شعرية خاصة، تسمى «قصائد حب». فهل هناك لوحة اسمها «لوحة حب»؟ من يعرف لوحة (حتى لأعظم الرسامين) يمكن وصفها كذلك؟ هناك رسامون عديدون رسموا حبيباتهم (بيكاسو أشهرهم)، غير أنَّ تلك الأعمال التي عبَّرت عن تصورات نفسية واجتماعية وجسدية وفنية لا تستطيع، حسب ظني، أن تحدث عند المتلقي الهزَّة الجمالية التي بمقدور قصيدة الحب (الناجحة فنياً وشعوريا) أن تحدثها. ليست كلّ الأقدام الغضَّة قادرةً على الوصول إلى فرق النوادي، قلة تتمكن من ذلك. وهذا حال الشعر، فـ «الشعر صعبٌ وطويلٌ سلَّمه»، على حد تعبير الحطيئة، ومن بين كلِّ «شعراء» المراهقة لا يواصل درب الشعر، إلى أن تنضب مياهه، إلاَّ الراسخون في أحلام اليقظة.

محمود درويش: ونحن أيضا نحبّ كرة القدم

… ولأنّي أحب كرة القدم، لم أغضب كما غضب غيري من المفارقة. لا مظاهرة يثيرها حصار بيروت، بينما تثير كرة القدم هذه المظاهرات أثناء حصار بيروت، لم لا؟ إنّ كرة القدم هي ساحة التعبير التي يوفرها تواطؤ الحاكم والمحكوم… هي فسحة نفس تتيح للوطن المفتت أن يلتئم حول مشترك ما، حول إجماع ما، حول شيء ما، تضبط فيه حدود الأطراف وشروط العلاقة، مهما تسربت منها إيماءات ذكية، ومهما أسقط فيها المشاهد على اللعبة ما فيه من المعاني المضغوطة. وطن، أو شكل من تجليات روح الوطن يدافع عن كرامته، أو تفوقه أمام الآخر، فلا يخسر وتزيغ القوى الداخلية شيئا من تماسكه الظاهري. المتفرجون يستولون على أدوارهم الغائبة في السياسة، يستحضرونها بإحالتها على ذكاء العضلات ومناورات اللاعبين واندفاعهم نحو هدف واحد هو تصويب الهدف.

… ونحن أيضا نحب كرة القدم، ونحن أيضا يحقّ لنا أن نحبّ كرة القدم. ويحقّ لنا أن نرى المباراة، لم لا؟… لم لا نخرج قليلا من روتين الموت؟ في أحد الملاجئ استطعنا استيراد الطاقة الكهربائية من بطارية سيارة. وسرعان ما نقلنا «باولو روسي» إلى ما ليس فينا من فرح. رجل لا يرى في الملعب إلّا حيث ينبغي أن يُرى. شيطان نحيل لا تراه إلّا بعد تسجيل الهدف، تماما كالطائرة القاذفة لا ترى إلّا بعد انفجار أهدافها. وحيث يكون باولو روسي يكون «الغوول»، يكون الهتاف، ثمّ يختفي أو يتلاشى ليفتح مسارب الهواء من أجل قدميه المشغولتين بطهو الفرص وإنضاجها وإيصالها إلى أوج الرغبة المحققة. لا تعرف إن كان يلعب الكرة أم يلعب الحب مع الشبكة. الشبكة تتمنع، فيغويها ويغاويها بفروسية إيطالية أنيقة على ملعب إسباني حار. ويغريها بانزلاق القطط الهائجة المائجة على صراخ الشهوة، وعلى مرآى من حراس العرض المصون الذين يعيدون إغلاق بكارة الشبكة بغشاء من عشرة رجال. يتقدم باولو روسي بكامل الشبق، يتقدم لاختراق شبكة قابلة للنيل من عضلة هواء مرتخية عجزت عن المقاومة، فاستسلمت لاغتصاب جميل. كرة القدم، ما هذا الجنون الساحر، القادر على إعلان هدنة من أجل المتعة البريئة؟ ما هذا الجنون القادر على تخفيف بطش الحرب وتحويل الصواريخ إلى ذباب مزعج ! وما هذا الجنون الذي يعطل الخوف ساعة ونصف الساعة، ويسري في الجسد والنفس كما لا تسري حماسة الشعر والنبيذ واللقاء الأوّل مع امرأة مجهولة… وكرة القدم هي التي حققت المعجزة، خلف الحصار، حين حركت الحركة في شارع حسبناه مات من الخوف، ومن الضجر.

ذاكرة للنسيان ص 131

ص 138

إدواردو غاليانو.. كرة القدم بين الشمس والظلّ

اعتراف المؤلّف

لقد رغبت مثل جميع الأروغوايين في أن أصبح لاعب كرة قدم. وقد كنت ألعب جيّدا، كنت رائعا، ولكن في الليل فقط، في أثناء نومي: أمّا في النهار فأنا أسوأ قدم متخشبة شهدتها ملاعب الأحياء في بلادي. لقد مرّت سنوات، ومع مرور الوقت انتهيت إلى القناعة بهويتي: فأنا مجرّد متسوّل أطلب كرة قدم جيّدة. أمضي عبر العالم حاملا قبعتي، وأتسوّل في الملاعب: «لعبة جميلة حبّا في الربّ». وعندما أرى كرة قدم جيّدة، أحمد هذه المعجزة دون أن يهمّني، قدر فجلة، من هو النادي أو البلد الذي قدّم ذلك اللعب الجيّد.

إدواردو غاليانو

 

حارس المرمى

يسمّونه كذلك البواب، والغولار، وحارس الحاجز، وحارس القوس، ولكنّنا نستطيع أن نسمّيه الشهيد، الوثن، النّادم، أو المهرّج الذي يتلقّى الصفعات. ويقولون إنّ المكان الذي يطأه لا ينبت فيه العشب أبدا.

إنّه وحيد. محكوم عليه بمشاهدة المباراة من بعيد. ينتظر وحيدا إعدامه رميا بالرصاص بين العوارض الثلاث. كان في السابق يرتدي الأسود، مثل الحكم. أمّا الآن، فلم يعد الحكم يتنكّر بزيّ الغراب، وصار حارس المرمى يسلو وحدته بتخيّلات ملوّنة.

إنّه لا يسجّل أهدافا. بل يقف ليمنع تسجيلها. ولأنّ الهدف هو عيد كرة القدم: فإنّ مسجّل الأهداف يصنع الأفراح، أمّا حارس المرمى، غراب البين، فيحبطها.

يحمل على ظهره الرقم واحد. أهو الأوّل في قبض المال؟ إنّه الأوّل في دفع الثمن. فحارس المرمى هو المذنب دائما. وهو الذي يدفع الثمن حتّى لو لم يكن مذنبا. فعندما يقترف أيّ لاعب خطأ يستوجب ضربة جزاء، يتحمّل هو العقوبة: يتركونه هناك، وحيدا أمام جلّاده، في اتّساع المرمى الخاوي. وعندما يتعرّض الفريق لسوء الحظّ، يكون عليه أن يدفع الثمن تحت وابل من الكرات، ليكفّر عن ذنوب الآخرين.

يمكن للاعبين الآخرين أن يرتكبوا أخطاء فاحشة مرّة ومرّات، ولكنّهم يستردّون مكانتهم بعد القيام بمراوغة استعراضية، أو تمريرة بارعة، أو تسديدة صائبة: أمّا هو فلا يمكنه ذلك. الحشود لا تغفر لحارس المرمى. أقفز في الفراغ؟ أكان مثل الضفدع؟ هل أفلتت منه الكرة؟ أأصبحت اليدان الفولاذيتان حريرا؟ بخطأ واحد فقط يدمّر حارس المرمى مباراة كاملة أو يخسر بطولة، وعندئذ ينسى الجمهور فجأة كلّ مآثره ويحكم عليه بالتعاسة الأبدية. وتلاحقه اللعنة حتّى نهاية حياته.

 

ألبير كامو

في 1930 كان ألبير كامو هو القديس بطرس الذي يحرس بوابة مرمى فريق كرة القدم بجامعة الجزائر. كان قد اعتاد اللعب كحارس مرمى منذ طفولته، لأنّه المكان الذي يكون فيه استهلاك الحذاء أقلّ. فألبير كامو، ابن الأسرة الفقيرة لم يكن قادرا على ممارسة ترف الركض في الملعب: وكلّ ليلة كانت الجدّة تتفحّص نعل حذائه وتضربه إذا ما وجدته متآكلا. وخلال سنوات ممارسته لحراسة المرمى تعلّم ألبير كامو أشياء كثيرة: «تعلّمت أنّ الكرة لا تأتي مطلقا نحو أحدنا من الجهة التي ينتظرها منها. وقد ساعدني ذلك كثيرا في الحياة، وخصوصا في المدن الكبيرة، حيث الناس لا يكونون مستقيمين عادة».

وتعلّم كذلك أن يكسب دون أن يشعر بأنّه إله، وأن يخسر دون أن يشعر بأنّه قمامة، وهذه حكمة شاقة. كما تعلّم بعض أسرار الروح البشرية، وعرف كيف يدخل في متاهاتها، في رحلات خطرة، على امتداد كتبه.

 

الأصول

… في عام 1349 ضم الملك إدوارد الثالث كرة القدم إلى ألعاب «الحماقة التي ليست لها فائدة»، وهناك مراسيم ضد كرة القدم ممهورة بتوقيع هنري الرابع في عام 1410، وهنري السادس في عام 1547. ولكنهم كلما كانوا يمنعونها كان اللعب يزداد، مما يؤكد القدرة التحريضية لكل ما هو محظور. وفي عام 1592 لجأ شكسبير في مسرحيته «كوميديا الأخطاء» إلى كرة القدم ليصوغ شكوى إحدى شخصياته: «إنني أتدحرج في ما بينكم بطريقة… أتراكم اتخذتموني طابة كرة قدم؟ أنتم تركلونني إلى هناك، وهو يركلني إلى هنا. فإذا ما بقيت في العمل فلابد لكم من أن تغلفوني بالجلود». وبعد سنة من ذلك، في مسرحية «الملك لير»، كان الكونت كينيت يشتم أحدهم بهذه الكلمات: «أنت، يا لاعب كرة القدم الحقير !»

وفي فلورنسا كانت كرة القدم تسمّى كالشو calcio مثلما تسمّى حتى الآن في إيطاليا كلها. وكان ليوناردو دافنشي مشجعا متحمسا، وميكيافيلي لاعبا ممارسا. وكان يشارك في اللعب فرق من 27 رجلا، موزعين على ثلاثة خطوط، يمكنهم استخدام الأيدي والأقدام لضرب الكرة ولبقر بطون خصومهم. وكانت الحشود تتوافد إلى المباريات التي تجري في أوسع الميادين وفوق مياه نهر أرنو المتجمدة. وبعيدا عن فلورنسا، في حدائق الفاتيكان، اعتاد البابوات كليمنت السابع، وليون التاسع، وأربانو الثامن أن يشمروا ثيابهم لكي يلعبوا الكالشو.

رشيد بوجدرة.. ضربة جزاء

… قُضِيَ على فريق «أنجي»، ليست هذه نهاية مقابلة كروية بل هي ضربة قاضية، وصيحة الأمر المحتوم والموت النهائي. الجمهور واقف. يبدو وأنّه يشعر بالحرج بعد أن نفس عن فرحته. يكاد يكون محزونا ! حتّى الأنصار المتعصبون لفريق «أنجي» يشعرون بالأسى. إبراهيمي وحده هناك، رائع، شرس، يسير بهدوء ليتخذ مكانه. ساعتي تشير إلى الدقيقة التسعين. استئناف اللعب. على سبيل الاحترام ليس إلّا. لاعبو فريق «أنجي» يفقدون الشجاعة. لا يريدون حتّى التظاهر باللعب. «تيزون» يقذف الكرة نحو منطقة التماس علنا. تماس لصالح «تولوز» يؤديه… الحكم يصفّر نهاية المقابلة. لن تكون الكأس من حظ «أنجي» على الرغم من صلوات قسيس «كولومب» بل الكأس تولوزية وتولوزية حقّا ! يا للمقابلة: سلسلة من الأهداف… تسعة أهداف مسجلة، من بينها أربعة خلال الدقائق الستّ الأخيرة. يا للنهاية الرائعة ! لم نشهد منذ مدّة طويلة مثل هذا النهائي لنيل كأس فرنسا. المقابلة تنتهي إذن بالهدف السادس الذي سجّله إبراهيمي بتحرّكٍ فرديّ رائع… والنتيجة هي ستة أهداف مقابل ثلاثة لصالح فريق «تولوز» بطبيعة الحال.

لكنّه هو من توثب للمعجزة التي حققها ابن بلده بل انتهز فرصة الضوضاء لينزلق إلى جانب المنصة الرسمية. ولم يجد كبير صعوبة في ذلك لأنّ جميع الناس وقفوا وبدأ عدد كبير من المتفرجين يغادرون المدرجات. الرقم 91 يقرع رأسه. إنّها النهاية وبداية العدّ العكسي وتصفية الحسابات، غليان في الداخل. سكينة مطلقة في الخارج. ويشعر وهو في طريقه نحو الجدار الصغير الذي يفصل المنصة الشرفية عن المدرجات بوشوشة لا تدرك ولا تسمع وإن كانت ملحّة كلّ الإلحاح تعقد نحو دماغه مثل النشيش الأزيز أو الاحتكاك، بل ومثل الكشط، ومن المؤكد أنّها خليط من جميع تلك الأصوات المختلة في ما بينها الصادرة في العادة عن تلك المواد الكيميائية المبهمة أو عن الاحتكاك بين عدد من الأجساد أو المحاليل القادرة على التخمّر والتعفن والذوبان وعلى إفساد المادة. لكنّها ليست إلّا وشوشة داخلية أو انطباعا ملصقا بأمعائه وأحشائه ومن ثم فهي مختفية تحت طبقات بشرته وعضلاته وشحمه ومواده المتضاربة السائلة منها أو المعدنية. وفي اللحظة التي يصل فيها إلى الجدار الصغير يدرك أنّ المنصة قد أخليت إلى حدّ ما وأنّ لا أثر لـ«الباشاغا» بها. ويحسّ فجأة بالإرهاق الذي تراكم طوال سنتين كاملتين يثقل على كاهليه. لقد أخفق إذن ! ويغادر المدرجات صوب باب الخروج ويلاحظ هناك أنّ مصالح الأمن تحول دون خروج المتفرجين. الشبابيك مغلقة. ويفهم من ذلك أنّ رئيس الجمهورية يغادر الملعب هناك على متن سيارته السوداء الفارهة التي يشاهد مؤخرتها وهي تنزلق بكلّ عظمة عبر الباب الرئيسي للملعب. لقد أخفق إذن ! ولا يكاد يثور لذلك لشدّة ما هو متمسك بتنفيذ حكم الإعدام الذي أصدرته المنظمة في حقّ الخائن. قال لنفسه إنّ الفرصة سوف تسنح له وأنّ العملية مؤجّلة ليس إلّا، وفي هذه اللحظة بالذات، تقع عيناه على الباشاغا وهو قادم نحوه مثل قدر مفكك تافه يغرقه ويأخذ بخناقه. ولا يكاد يصدّق ما يراه. إنّها هلوسة. لكنّها هلوسة حقيقية. تتحرك. تسير. وتتبختر في برنوسها من الصوف الخالص. هلوسة مشفوعة بعدد من الحرّاس. ويتعرّف هو على عامل الشرطة الذي تنتشر صورته في جميع الصحف… لا يتوصّل إلى استذكار اسمه… يكتفي بالقول بأنّ له اسما يذكّر بصوت صفّارة السيارة. ما هو؟ الأمر لا يهمّه. الباشاغا يجيء إليه. يتقدّم. إنّها مسيرة محتومة. تتواتر الأشياء مثل فيلم من أفلام الرعب. تباطؤ مفاجئ. عندما يقع الباشاغا في بركة من الدم لا يشعر بأنّه هو الذي أطلق النار بل شخص آخر، كامن في داخله…

ص (177-178)

أمبرطو إيكو.. كيفية عدم الحديث عن كرة القدم

ليس لديّ أيّ شيء معادٍ لكرة القدم، ولا أذهب إلى الملعب لنفس الأسباب التي تجعلني ألا أنام أبدا، ليلا في أنفاق المحطة المركزية في ميلانو (أو أتنزّه في سنترال بارك في نيويورك بعد الساعة السادسة مساء)، ولكن يحدث أن أشاهد مباراة جميلة على التلفاز، باهتمام وحبور، لأنني أقرّ بفضائل هذه اللعبة النبيلة وأقدّرها. لا أكره كرة القدم. أكره المولعين بها.

افهموني جيدا. يتملكني، تجاه التيفوسي Tifosi (المشجعون المتعصبون لفريق رياضي) شعور مماثل لذلك الذي أحسّ به تجاه أنصار العُصبة اللومباردية حيال المهاجرين غير المندمجين: «لستُ عنصريا، شريطة أن يلزموا بيوتهم». وعبر بيوتهم أدرك مكان اجتماعهم الأسبوعي (الحانة، العائلة، النادي) والملاعب يوم الأحد حيث أسخر ممّا قد يحدث، وحيث لن يكون الأمر أكثر سوءا فيما لو أسرع الهوليغان في النزول إلى الملعب، لأنّ قراءة هذه الوقائع تُلهيني، ولكونها من ألعاب السيرك، بقدر ما يسيل من الدماء.

لا أحب التيفوس (المشجع المتعصب لفريق رياضي)، لخاصية غريبة فيه: لست تيفوسيا مثله، ويصرّ على أن يحدّثك كما لو أنك تيفوسي مثله…

الأسوأ، هم سائقو سيارات الأجرة:

«هل شاهدت اللاعب فياللي؟

-لا، ربما سيكون قد عبر الشارع أثناء غيابي !

«هل ستشاهد المباراة هذا المساء؟»

-كلّا، يتعيّن عليّ أن أعمل على دراسة… حول الميتافيزيقا، أنت تعلم من الضروري إنجازها.

-حسن، شاهدها وستخبرني أخبارا عنها.

«بالنسبة لي، قد يكون بمقدور اللاعب فان باستن أن يكون مارادونا التسعينات. ألا تصدق؟

ولكن في النهاية، ينبغي عدم نسيان اللاعب هاجي».

وعبثا تحاول مقاطعته، وكأنك تكلم جدارا. ليس ذلك لأنه يسخر تماما من حقيقة أني لا أبالي تماما، وإنما لا يدرك بأنه يمكن لشخص ما ألا يكترث أبدا. وقد لا يدرك حتى لو كنت أملك ثلاثة عيون وساريتين منصوبتين على الحراشف الخضراء لقذالي. وليس لديه أية فكرة عن الاختلاف والتنوع واللاتماثل للعوالم الممكنة. لقد أعطيت مثال سائق التاكسي، ولكن الأمر سيان مع محاور ينتمي إلى الطبقات السائدة، على غرار القرحة المعدية، فهي تصيب الغني تماما مثلما تصيب الفقير.

كيفية السفر مع سلمون ص 123 ص 125

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى