يونس جنوحي
مُدن الإسمنت تنبُت في كل مكان تقريبا، فوق الأرض وقُرب البحر، وحتى في الغابات. ودائما ما تراسل الجمعيات مسؤولي المدن لإثارة انتباههم إلى خروقات التعمير.
«مافيا العقار» أصبحت أكثر خطورة من مافيا المخدرات. إذ إن فترة الحجر الصحي التي مر بها العالم، تم استغلالها للإجهاز على بعض البنايات القديمة والرمزية التي كان حريا تحويلها إلى متاحف ومزارات ودور للثقافة، لكن بدل ذلك تحولت إلى «بوتيكات» للملابس أو عمارات سكنية، أو مقاه تحتل الرصيف.
ابن خلدون، أحد أبرز عمالقة المفكرين المسلمين والعرب، ومؤسس علم الاجتماع الذي عاش قبل ستة قرون واستقر لفترة في المغرب، ذكر في كتاباته أن المدينة لا يُمكن أن تُسمى كذلك، إلا إذا كان فيها نظام للتشجير. والحمد لله أنه مات سنة 1406 ميلادية، قبل أن يرى المدن المغربية في 2022 وهي تتمدد نحو الغابات، وكيف أن المسؤولين المغاربة يوقعون على تراخيص البناء ويقتلعون الأشجار ليزرعوا مكانها النخيل في الشوارع الكبرى والرئيسية، كما لو أننا نعيش في «هاواي».
فكر ابن خلدون كان ظاهرا على فلسفة تأسيس المدينة في الحضارة الإسلامية، فقد كانت مدن الأندلس تعج بالحدائق، وكل المدن المغربية العتيقة تتوفر على حدائق خلف الأسوار وخارجها، وهو ما يؤكد أن العمارة القديمة أفضل بكثير من واقع المدن المغربية حاليا. عندما يبلغ ثمن المتر المربع من الأرض ما تعجز بالتأكيد أسرة مغربية عادية عن توفيره، فآخر ما يمكن توقعه، أن يسمح المهندس أو المنعش العقاري بتحويل أمتار العقار إلى مساحة خضراء.
بلغ اهتمام أجدادنا بتأسيس المدن حد استشارة المنجمين والفلكيين، قبل اختيار مواقع تشييد الأحياء التي تحولت لاحقا إلى مدن لها تاريخ. والقصة تعود إلى تأثر المغاربة بالرومانيين الذين كانوا يُحضرون المنجمين، لكي يستشيروا معهم في اختيار مواقع البناء.
وكان المرينيون عندما حكموا المغرب، قد استشاروا مع المنجمين قبل بناء مدينتهم. كما أن بناء مدينة فاس الجديد سبقه استشارة مع المنجمين.
والقصد بالمنجمين هنا ليس قراءة الكف أو الفنجان، وإنما دراسة التقاء الأبراج واختيار مواقع تتيح لمسؤولي المدينة المستقبلية رؤية الظواهر الفلكية، مثل الخسوف والكسوف ومراقبة الهلال. وهذه الجزئية قد أكدها المؤرخ المغربي الراحل عبد الهادي التازي، في مقالاته عن تاريخ المدينة والمعمار المغربي. وهو الذي أشار إلى دور الدولة المرينية في ازدهار المعمار المغربي.
دار الزمن دورته، وأصبحت المدن مرادفا لتكتل الإسمنت، حيث يستحيل رؤية أي شيء خارج تجمع المنازل. بل إن الأحياء الجديدة التي توسعت عن المدن الكبرى، خصوصا الدار البيضاء والرباط، لا مكان فيها لأي استشراف للمستقبل، ولا تتيح رؤية حتى اللوحات الإشهارية للشركة العقارية التي باعت إليهم الشقق، فما بالك برؤية أي شيء آخر.
والمثير أن طريقة توسع الأحياء العشوائية في المدن التي تكون عادة في طور التكوين بسبب الهجرة القروية، غالبا ما تكون فوضى عارمة. ويكفي القيام بإطلالة على أشهر مواقع المسح بالأقمار الاصطناعية، للوقوف على مدى عشوائية التجمعات السكنية اليوم.
أما رصاصة الرحمة، فهي تشييد المشاريع العمرانية التي يرهن المغاربة سنوات من أعمارهم لتسديد قروض اقتنائها، فتقع مباشرة خلف مجرى «الواد الحار» أو أمامه. ومع هذه الأجواء الحامية، لكم أن تتخيلوا كيف سيقضي هؤلاء الناس ليال الصيف في الأحياء المنسوبة، يا حسرة، على المدن.
لقد مررنا من عصر استشارة الفلكيين قبل بناء المدينة، إلى عصر استشارة «مافيا العقار». استغرق منا الأمر أزيد من ستة قرون، لكي يتأكد لنا فعلا أننا نعود إلى الوراء.