شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

كتّاب في وجه قسوة الحياة

إعداد وتقديم: سعيد الباز

قد تختلط الأمور أحيانا عند النظر في العلاقة بين الكتابة الأدبية والألم الإنساني، وتصل إلى حالة من الالتباس القصوى. ذلك أن المنظور العام والشائع أنّ الكتابة رديفة للشقاء، وسليلها الذي لا فكاك لروابطه بها. النماذج التي سنسلط عليها الضوء تبرز حالات من الألم الإنساني الذي وجد ملاذه في الكتابة الأدبية، ومجالا ليفجر من خلالها كل المشاعر الدفينة والتفاصيل الأخرى لألم يعاش ليس بالصمت وحده، بل بالاحتجاج والإدانة أحيانا، أو التأمل الهادئ الذي يفضي أحيانا إلى الكشف عن جوانب من قسوة الحياة ومفارقاتها.
محمد رجائي عليش.. الذمامة موضوعا وقدرا إنسانيا
محمد رجائي عليش، كاتب قصة مصري مغمور، ينفرد دون غيره من الكتاب بالكتابة عن القبح الجسدي بكل تفاصيله وتداعياته الاجتماعية. هذا القبح الجسدي ليس غيريا، بل هو تحديدا قبحه وذمامته الذي أصبح موضوعه الأوحد خلال مسيرته القصيرة في عالم الكتابة. محمد رجائي عليش لا يكتفي برفع صوته احتجاجا على وضعه، بل يذهب إلى أقصى ما يمكن للإعلان عن عداوته الصريحة تجاه مجتمعه، متناولا كل تفاصيل معاناته وألمه الإنساني الذي سيقوده في النهاية إلى الانتحار. لم يترك محمد رجائي عليش وراءه سوى كتابين صادمين خارج أي سياق أدبي ودون أي علاقة بما هو مألوف في الكتابة الأدبية في العالم العربي، الكتاب الأول «لا تولد قبيحا» والثاني «كلهم أعدائي».
لا تولد قبيحا
قال: أصف لكم نفسي
أنا رجل بلا امرأة… بلا حقل للقمح… بلا زجاجة نبيذ… بلا كره للعب… بلا ذكريات مضيئة… بلا طريق للمستقبل.
على قبري ستكتب العبارة الآتية: هنا يعيش إنسان مات أثناء حياته.
أنا رجل تتبعه الضحكات والكلاب… ضحكات الناس ودعوات الكلاب.
أنا رجل تلعنه المرأة في الشارع وتحبه في السرير.
أنا ملك يرتدي ثياب صعلوك… مفكر يلعب بدمية طفل صغير… مهرج يحاول أن يخلع قناع الضحك من فوق وجهه دون جدوى فالطبيعة قد وضعته هناك وألصقته جيدا ليبقى إلى الأبد.
أنا أفكر كأنني أحلم وأحلم كأنني أفكر.
أنت لطيف ككرسي حمام… ظريف كسيجارة بعد الغذاء… لذيذ ككوز ذرة مشوي… مسلي كببغاء أربيه في المنزل ويقول لي نكات لطيفة طول الوقت… طيب كقط حنون يتمسح في ساقي ويقفز فوق حجري… أنت مثل أخي تماما… هذا ما تقوله لي النساء.
خضير ميري.. سارق حدائق الجنون
الفيلسوف والشاعر والروائي والناقد العراقي خضيّر ميري (2015-1962)، ظاهرة فريدة في الأدب العربي والعراقي، كانت حياته القصيرة معاناة قاسية ودائمة جسديا ونفسيا. بدأت بإصابته مبكرا بمرض نادر من أهم أعراضه الأرق واضطراب سلوكه ونفسيته، حاول مواجهته بالقراءة المتعمقة في مجالات عدة من الفلسفة والنقد الأدبي جلبا للاسترخاء والنوم. لكن استفحال حالته دفعت بالأطباء إلى الزج به في مصحة خاصة بالأمراض العقلية لم يغادرها حتى تعمقت أكثر اضطراباته النفسية. التجربة الثانية والأكثر قسوة حين تعرض للاعتقال وحتى لا يواجه حكم الإعدام ظل يمثل دور المجنون أمام الدوائر الأمنية حتّى اقتنعوا بجنونه فرحّلوه إلى مستشفى المجانين، حيث عكف على القراءة والكتابة. عقب الغزو الأمريكي والفوضى العارمة في العراق فر من مستشفى المجانين، ليظهر في الوسط الثقافي كأحد ألمع الكتاب وأكثرهم تنوعا وغزارة في الفلسفة، أصدر (الإشكالية والمعنى في السؤال الفلسفي) و(الفكر المشتت تعقيب على فوكو) و(الجنون في نيتشه)، إضافة إلى أعماله الروائية (صحراء بوذا) و(أيام الجنون والعسل) و(حكايات من الشماعية) و(الذبابة على الوردة)، فضلا عن كتب شعرية (تعديل ذيل الكلب)… وسردية (كتاب الجيب للمحكومين بالإعدام) و(دفاعا عن الجنون) و(دفاتر المصحة). غادر خضيّر ميري العراق للإقامة في مصر حيث أصدر بعض كتبه، غير أن حادثة سير تعرض لها في القاهرة عجلت بعودته إلى العراق بعد إجرائه لعملية جراحية غير ناجحة ظل يعاني خلالها من آلام مبرحة حتى فارق الحياة.
مشغول بالدمار
1
التاريخ كابوس مظلم نفتتحه بالقنابل والخسارات، مثلا، هذا البلد الآمن الذي أنا فيه، هذا البلد الذي أشار إليه «أبي» العائد من «الجنوب» والهارب من «السخرة» قائلا: سيكون ضياعك هنا، ولكن لا بديل لك عنه ولا خيار. ولم يكن أمامي أي خيار آخر، فلقد بعت الحمار الوحيد الذي بقي في ذمتي وانطلقت سعيا في أرض الوطن… وكان الجنوب ورائي.
2
مدمن على الحروب وغاوي شهادات، هذا هو طيفي واسمي ونفعي. وما أن كبر العمر فيّ، حتى أخذت عروقي تعبأ بأنهار من البارود وتحول رأسي إلى واقية معدنية وأذناي إلى مرسلتين مركزيتين، ولساني إلى جهاز لا سلكي من الحجم الصغير، حتى النخيل ارتدى الخوذ الفولاذية وكذلك الزهور والأسماك والأنهار والحجارة.
… هذه الحروب أدمناها كما الدورة الشهرية. وكان عليّ أن أخرج من رحمها آلاف المرات وأمسح التراب عن وجهها وأمنحها حق المواطنة وشرعية الكلام والحضور والبقاء، هذه الحروب التي مدّت لسانها في كل شأن ثم إنها لم تعد تشعر بالغربة، بعد أن دست أنفها بكل الصغائر والكبائر وامتطت كل المشاعر وأحكمت ربط الضمائر.
سيكموند كريجانوفسكي.. من البؤس إلى النسيان

سيكموند كريجانوفسكي (1950-1887)، كاتب روسي من أصول بولونية، عاش دون أن ينشر ولو كتابا واحدا بعد حياة بائسة أمضاها في البحث عمّا يسدّ عنه باب الحاجة. كان معروفا بتعدد مجالات اشتغاله من فلسفة وتاريخ وفي التنظير المسرحي وكتابة السيناريو، يحظى بتقدير مشاهير الكتّاب والفنانين، مقالاته في المجلات المتخصصة ومحاضراته ودروسه في المعهد العالي تلقى الإعجاب والتنويه. لكن بعد وفاته طمره النسيان، والصدفة وحدها ستكشف بعد خمسين سنة من وفاته عن كاتب متفرد سبق غيره إلى الكتابة الغرائبية والكتابة متداخلة الأجناس والبراعة في رواية الخيال العلمي، فهو يجمع بين إدغار ألن بو وكافكا وبورخيس، مع سعة الثقافة وعمق التفكير. كان أحد الشعراء الروس المهتمين بالأرشيف قد وقع على فقرة قصيرة ضمن أوراق الشاعر المتوفى Gueorgui Chengueli تقول: «اليوم 28 شتنبر 1950 توفي سيكموند كريجانوفسكي، مؤلف الأدب العجائبي، عبقري أهمله عصره، لم ينشر ولو سطرا واحدا طيلة حياته»، فبدأت رحلة البحث عن مخطوطاته عند معارفه وحتى في أرشيفات الأمن… ليتم إزاحة الستار عن روايات وقصص استثنائية جعلت منه واحدا من أعظم الكتاب الروس في القرن العشرين.
الشارع اللاإرادي (مقتطفات)
ابتعدت عن البشر واقتربت من القنينة. أشرب. الآن، حتّى أطفال الحي يصرخون عندما يرونني: «هو ذا الجدّ ذو الأنف الأحمر الذي يمشي مترنّحا!» حسنا، من الأفضل أن يكون للمرء أنف أحمر وأن يمشي ملتويا من أن يكون لديه أنف أجوف ويمشي باتجاه الريح».
(…)
أشرب لأنّ السكر نموذج مختصر للحياة (ماء الحياة): أوّلا انتظار الحياة، ثمّ الإثارة المراهقة، ثمّ الانفعال الطفولي هو في آن واحد سكر وتبصّر، وظهور صور إيروتيكية، ثمّ الشعور بالفتور، كأسا بعد كأس التشوّش العقلي والرغبة في النوم، لا مبالاة الشيخوخة، وأخيرا الانهيار التام وانحلال الأفكار، التعرّض للإشباع والكأس لم تنته منه بعد، ولإنهاء كل شيء النوم دون أحلام، الموت… كل ذلك في عشرين دقيقة.
(…)
إلى ساعي البريد
الرفيق ساعي البريد، هذه الرسالة لن تضيف أي علاقة بعملك التجوالي ولن تثقل حقيبتك ولو بغرام واحد. أخشى فقط أن عادة حمل الرسائل ستقودك إلى أن تأخذ هذه السطور حتى شقتك. لكني أود أن أنصحك أن تفتحها بالأحرى على الفور، وأن تقرأها وترميها في أقرب صندوق للنفايات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى