كتاب ليس ككل الكتب.. العبودية المختارة
بقلم: خالص جلبي
كنت في الطائرة إلى كندا، حين وقع تحت يدي كتاب صغير حرفه سيئ، تجليده نحيف، قده بعنوان تقليدي غير مثير، ولكنه كان درة من درر محيط المعرفة! كان كتاب «العبودية المختارة»، أما المؤلف فغامض غير معروف. قلبت الكتاب قلت ربما يشبه كتاب «العبودية» لابن تيمية، ولكنه كان كتابا ضئيل الحجم جليل الفائدة، وهكذا شأن ذخائر الفكر. قلبت الكتاب بسرعة لمعرفة تاريخ التأليف ومن هو هذا الكاتب الفرنسي ذو الاسم الغريب جان دي لا بواسييه؟ فدهشت حين علمت أنه ألف كتابه عام 1562م، وكان شابا صغيرا في عمر 28 عاما! وكذلك ملامح العبقريات حين تتدفق. الخلاصة قلبت الكتاب في الطائرة، والطريق إلى كندا الباردة بعيدة موحشة تحتاج يوما كاملا حتى يصل المرء إلى شواطئ نهر سان لوران، ويطالع المدينة القديمة الحديثة من طراز فرنسي أمريكي الجبل الملكي (مون ريال = مونتريال كما يسميها الإنجليز)، فهذا هو القدر الذي رسمته لنفسي وأحفادي من بعدي أن يصبحوا كنديين، بعد أن ودعنا بلادا عزيزة علينا بعد أن ضاع الأمن وغابت الطمأنينة ورفع الإنسان على الفلق، وقل أعوذ برب الفلق.. فغادرنا بلاد البعث إلى يوم البعث! حين قلبت النظر في الكتاب قلت لا يجب أن يقرأ بهدوء. وهكذا عطفت على الكتاب طيلة الرحلة، ثم أياما في كندا في مونتريال، حيث بناتي. كان كتابا رائعا يدخل فيه الإنسان بنفس، ويخرج بغير النفس التي دخل بها الكتاب، فقد غيَّر عقله الكتاب. أذكر الشعور نفسه حين قرأت كتاب «آفاق المستقبل» لجاك أتالييه، وكتاب «مسألة الآخر واكتشاف أمريكا» لقد كانت صدمة لي لمدة ثلاثة أيام! أما «قصة آخر الرحلين» فقد غرقت في دموعي من آثاره لمدة أسبوعين، أسبح في بحر متلاطم من زوابع العواصف، وقلت لزوجتي الشركسية رحمها الله غفر الله لك يا ليلى: «لماذا لم تحدثيني عن مأساة أجدادك؟»، قالت: «نكبة البعث تكفينا!». وفي يوم صدمة نفسية عندي، من ظروف عمل في جبال عسير، عكفت أداوي نفسي لمدة أربعة أيام بكتاب «الإنسان وعلم النفس» لعبد الستار إبراهيم، وخبرتي في الكتاب العرب أنه رديء، ولكن هذه المرة خاب ظني فقرأت الكتاب حتى شربته مثل العصير، وعلى طريقتي في وضع أهم الأفكار بكلمات قليلة في مطلع الكتاب، حيث الصفحات الفارغة، وهذه طريقة جيدة للانسحاب من ضغط وتوتر الأحداث إلى هدوء الفكر وترنيمات العقل العميق.
وفي صيف في الجولان وعلى الحدود البعثية عند درعا، وأنا لا أعرف مصير جواز سفري هل يعود أو لا، كنت غارقا في كتاب «اليابان تقول لا!»، وهو كتاب عجيب عن أسرار التسلح النووي، وأن كلا من أمريكا وروسيا أوقفتا سباق التسلح النووي، لأن الميكروشيبس الذي يمكن الصواريخ النووية من ضرب فوهات الصواريخ النووية في السيلو المحصن بغلاف إسمنتي مسلح بجدار من مائة متر في قاعدة فاندنبرغ، تصنع في اليابان فأصبح قرار الحرب في طوكيو التي لا تتسلح!
وهكذا ليس كل كتاب جيدا، وهناك من الكتب من تقرأ مرة واحدة وأحيانا يندم المرء من تضييع الوقت فيخلصه دون إنهاء، وهناك من الكتب من يخضع لقانون تكرار وإعادة قراءة الكتاب الجيد عشرات المرات، وهو ما حصل معي في قراءة كتاب «تجديد التفكير الديني» لمحمد إقبال؛ فقد قرأته اثني عشر مرة، أو كتاب «العلم في منظوره الجديد» أكثر من عشر مرات، أو «مختصر دراسة التاريخ» لتوينبي عدة مرات، أو «عندما تغير العالم» أربع مرات (تأليف جاك بيرج)، أو (بنو الإنسان) لبيتر فارب خمس مرات، ولقد درسته لمجموعة أكاديمية العلم والسلم، وهو شعوري مع العديد من ذخائر الفكر الإنساني وأنصح بهذه القاعدة قرائي.
لقد وطنت نفسي مع هذه المقالة أن أضع (قوانين البناء المعرفي) مثل رقعة الشطرنج بثمان وأربعين خانة، بحيث أتناول مع كل خانة فكرة مهمة عن البناء المعرفي؛ فالكتاب الجيد يقرأ عشرات المرات، حتى يهضم ويصبح في تركيبة المنظومة المعرفية (وهو كتاب في طريقه للولادة، وهو كتابي رقم 44 في ما طبع لي).
وكتاب «العبودية المختارة» ليس الكتاب الوحيد، ذلك الذي يجب أن يقرأ عشرات المرات مثل عملية هضم الطعام، حتى يتم تمثله على الطريقة التالية، بحيث يصبح في النهاية من ضمن تركيب المنظومة المعرفية عند القارئ. ولشرح ذلك أقول نحن نأكل الطعام من أصناف شتى، ولكن لا يخطر في بالنا ماذا يحدث للطعام سوى أننا نستمتع به. إلا أنني باعتباري طبيبا درسنا في علم الفسيولوجيا مصير الطعام الذي نتناوله، وعرفت أن لقمة الخبز مثلا تتكسر بعد التقطيع بالأسنان والذوبان بحمض المعدة إلى الوحدات الأولية، وهي السكاكر السداسية التي تساهم في مدنا بالطاقة.
كذلك الحال مع البروتينات، فقطعة اللحم تتحول في النهاية إلى وحداتها الأولية من الأحماض الأمينية. تماما مثل حروف علامات السيارات، فيمكن من الحروف الأولى كتابة كلمات ذات معنى!
المثل على ذلك لو وقفت أمامنا سيارة وعليها رقم بثلاثة حروف (ع ـ ر ـ ب 881). لندع الرقم ونذهب للحروف، فيمكن استخراج ستة معان إذا لم يكن أكثر. تأمل معي عمليات تحول الكلمة، عرب ـ عبر (وهي بثلاثة معان على الأقل، حسب حركة الحرف والشدة، فيخرج منها التعبير والتجاوز وبكسر العين عبر الأيام والتاريخ!) ـ ثم رعب ـ ربع ـ برع ـ بعر.
الشيء نفسه يحدث للأحماض الأمينية التي تتكسر إلى الأحرف الأولى، ثم يبني الجسم منها تراكيب خاصة به من الهورمونات والمواد البروتينية في بناء العضلات والجسم. وهذا نفسه يحدث في تناول وجبة فكرية دسمة وعمل العقل عليها كي تصبح من تركيب الدماغ في النهاية، في منظومة الفكر، فتتخمر مع غيرها وتتفاعل مع من سواها، لتصبح شبكة معقدة من حكم الزمان وضفيرة رائعة من العبقرية المتدفقة.