حسن البصري
تضررت أسرتك من انخراطك الكلي في المجال الفني وطول غيابك، فأنت تسعد الأطفال وتنسى أبناءك..
حين التفتُّ إلى أسرتي اكتشفت أن لي أربعة أبناء، لم أعايش نموهم بل كانت والدتهم هي من دبرت مراحل حياتهم، لها مني كل الشكر والتقدير. شعرت بنوع من التقصير تجاه أقرب الناس إلي، لكن من أجل كسرة خبز يمكن أن يشفعوا لي وأيضا لأنهم يعرفون معاركي مع التلفزيون والحصار الذي تعرضت له. كنت أدخر كل ما لدي وأستثمر وقتي ومدخراتي لإنتاج تلفزيوني جاد، الشيء الذي جعلني مفلسا، واكتشفت بشكل متأخر أنني لم أستأذن أبنائي حين دفعتهم، وهم صغار، إلى الانخراط معي في المسرح لتأطير الأطفال. وسأعلم، بعد حين من الدهر، أنني جعلت ابني الصغير يعيش رعب الخشبة، حيث كان عليه أن يكون أول من يظهر على خشبة المسرح، وأن يشعر بمغص في البطن وترتفع نبضات قلبه خوفا من الجمهور. اليوم أحاول أن أعوض ما فات من خلال لمة العائلة وفرحتي وسعادتي بفلذات كبدي وهم يشقون طريقهم في درب المعرفة ويؤسسون أسرهم ويتطلعون للحياة بحب وتفاؤل.
هل شعرت بالذنب وأنت تحرم أبناءك من طفولتهم، في وقت كنت تحمل السعادة لأطفال آخرين؟
انتابني هذا الشعور حين أصبح أبنائي جزءا من فرقتي ومن تحركاتي ومن انشغالاتي اليومية، بينما تفرغت لأطفال المغرب وقضيت عمري في البحث، عبر المسرح والتلفزيون، عن كل ما يرسم في وجوههم السعادة. أحمد الله وأشكره لأن والدتهم اعتنت بهم ونابت عني في غيابي. أبنائي صلاح وهند، وفاتن وأمال كانوا جزءا من فريق عملي، يمثلون معي، يكتبون ويقدمون رقصات تعبيرية، وحين كبروا قالوا لي: «سلمات عليك الغالية ما بايعة ما شارية»، أي مع السلامة. الحمد لله هند حاصلة على الدكتوراه وفاتن كانت بمثابة «دي دجي» معي وتقنية في الإنارة وآمال مبدعة، أما صلاح فكان ممثلا بارعا إلى درجة أنه ينتزع مني الضحك فأدير ظهري لأضحك فوق الخشبة. صلاح كان يعيش مأساة في صمت.
مأساة؟
نعم كان يعيش مأساة صامتة، لقد كنت مضطرا، في فترات معينة من حياتي، أن أشغل معي، في برامجي الموجهة للأطفال، أبنائي وبناتي رغما عن بعضهم أحيانا، خصوصا عندما كانوا صغارا. وعبر ابني صلاح عن جانب من معاناته النفسية ومعاناتي الإبداعية ومضاعفات ذلك على باقي أفراد الأسرة أثناء الممارسة اليومية لفنون الفرجة في ظروف صعبة. هذه الحكاية سأجسدها في كتاب اخترت له اسم «بهلوان رغما عنه»، وهو كتاب باللغة الفرنسية بمثابة نوع من السيرة الذاتية، صدر سنة 1995.
لماذا باللغة الفرنسية وليس العربية؟
“بهلوان بالرغم عنه” يجسد معاناة ابني الذي أصبح بهلوانا رغما عنه، حين كتبتها عرضتها على صديقي محمد شكري، الكاتب المعروف، وحين أنهى قراءتها وهي مادة خام، قال لي هذا كتاب مليء بالشجون والمشاعر، وتدخل لدى مدير المعهد الفرنسي بطنجة، الذي كان صديقا له، فساعدني على طبعه ونشره. هذا الكتاب يحكي معاناة ابني في صمت هو وإخوته، لقد أجبرته على أن يكون بهلوانا وهو طفل يافع، دون أن آخذ رأيه أو أناقشه في هذا الاختيار. كان عاشقا لرياضتي الكاراطي والسباحة ولكني أقحمته في عوالمي. لكني، بالمقابل، وفرت لجميع أبنائي ظروف العيش والحد الأدنى من شروط التعلم، وأحمد الله أنهم درسوا وشقوا طريقهم في درب الحياة. صلاح تقاسم معي «تراك» المسرح وسافر معي إلى مدن عديدة مع الدمى.
كيف عشت تجربة عمي ادريس الكاتب، هل كان لصديقك شكري دور في ذلك؟
شكري كان صديقي، تقاسمت معه أشياء كثيرة، سافرنا سويا إلى أوربا حين كنا شبابا، بمعنى أن علاقتي به قديمة، لكني كنت مهووسا بالقراءة، وحين دخلت غمار مسرح الطفل أدمنت على كتب السيكولوجيا والسوسيولوجيا والبيداغوجيا المرتبطة بالأطفال، الشيء الذي مكنني، ابتداء من سنة 1976، من ممارسة التأليف والإخراج وإنجاز أعمال مشرفة شكلا ومضمونا رفقة فريق من الأطفال، تناولت من خلالها قضايا الطفولة والمشاكل اليومية للأسرة المغربية، رغم الإمكانيات المحدودة جدا آنذاك.
هل غادرت الدار البيضاء مجبرا أم قلقا وحزينا؟
غادرت الدار البيضاء حزينا وغاضبا، لقد اكتشفت، من خلال تنقلي بين الدار البيضاء مسقط رأسي وطنجة مسقط قلبي، أن صبيب «المعقول» نزل في العاصمة الاقتصادية. هناك عبارة: «كن هاني واش حنا دراري» هي الرائجة في المعاملات، هناك استثناءات طبعا أنا لا أعمم. أحببت طنجة قبل أن أحب زوجتي، والحياة في عاصمة البوغاز هادئة عكس «كازا» حيث إيقاع الحياة سريع جدا، لهذا غادرت سيدي بليوط و«قرق» علي سيدي بوعراقية.