كتاب المستقبل.. نحو جمهورية إلكترونية
بقلم: خالص جلبي
استفاد العلماء من درس التاريخ أن يكونوا أكثر تواضعا، فطلقوا الخيال العلمي، لكنهم استبدلوا ذلك بما هو أفضل من الناحية العملية؛ فهناك أفكار مثيرة على شكل سيناريو مختلف لمشاريع مستقبلية للجنس البشري، وهناك مصطلحات يتداولها المستقبليون، مثل أوتوبيا الكمبيوتر (كومبيوتوبيا COMPUTOPIA)، أو أوتوبيا المناخ (أوكيوتوبيا OCEOTOPIA)، أو كلمة (جايا GAIA) وتعني الأرض الأم، أو مستعمرات فضائية (سبيس كولوجي SPACECOLONY). ويعقب المستقبلي «روديغر لوتس RUEDIGER LUTZ» الذي يقوم بتجميع مشاريع المستقبل، من خلال الميول العريضة والتوجهات العامة، فيطرح ثلاثة أسئلة مصيرية ومحورية:
1ـ هل سيتحول العالم من خلال شبكة الإنترنت الى ناد للنقاش الديمقراطي؟ هل ستنطلق الديمقراطية العالمية من رحم الشبكة الإلكترونية؟
2 ـ هل سنشحن المعامل العملاقة والمخابر الملوثة التي تفسد البيئة، بعيدا إلى الفضاء الخارجي، خارج الغلاف الجوي، لاستعادة صحة الأرض؟
3ـ فكرة «جايا GAIA» تقوم على استعادة الأرض كمركز للحياة. فهل سنعامل الأرض بحنان الأم، أم نظل نعتبرها ماكينة عملاقة «MEGAMASHINE»؟
هذه الطروحات هي أقرب لصناعة المستقبل، فانقلب الخيال العلمي اليوم إلى صناعة المستقبل.
رعب المستقبل
منذ عدة عقود تشكلت (معضلة النمو) كقضية غير قابلة للحل؛ فكل المخططات (الجرافيك) البيانية التي تقذفها الكمبيوترات تعطي ذرى حادة على صورة انفجارات:
الانفجار السكاني ـ إنتاج السيارات ـ قذف الغازات السامة للغلاف الجوي، وزيادة سخونة الكرة الأرضية… وعلى العكس مخططات بالمقابل تنبطح وتتسطح وتتدرج إلى الأسفل، في مؤشرات خطيرة من قلة المحاصيل، وندرة الموارد، وتبخر الغابات، وثقب الأوزون، وموت الأنواع، وشح المياه، ونضوب مصادر الطاقة.
لقد حقق الجنس البشري الرقم الملياري الأول في رحلة إيلاف ليست شتاء وصيفا، بل خلال خمسة ملايين سنة!
ولكنه يحقق هذا الرقم اليوم كل دورة في أقل من 13 سنة، والمتوقع أن يصبح عدد السكان عام 2050 ميلادية في حدود 20 مليارا، ونقترب مع كتابة هذه الأسطر من حافة الثمانية مليارات.
ولسوف يصبح عدد سكان نيجيريا الحاليين البالغين 140 مليون نسمة، والذين يتضاعف عددهم كل 10 إلى 20 سنة، مع نهاية القرن الحادي والعشرين قريبا من عدد سكان الكرة الأرضية الحالية! وأنا شخصيا عالجت شابا عمره 17 سنة لعائلة سعودية، وكان الرقم 17، بالكاد يحفظ والده اسمه مع ثلاث زوجات.
والكرة الأرضية سخنت نصف درجة حتى الآن، ومن المتوقع لها مع جنون رفاهية السيارات، أن ترتفع مع نهاية القرن الحالي 6.4 درجات خلاف المتوقع. بحيث يرتفع منسوب مياه المحيطات، مع ذوبان ثلوج القطبين، من نصف متر إلى أكثر من مترين، تهدد ما لا يقل عن سبع مدن ساحلية يعيش فيها ملايين من الناس، كما رأينا نهاية نيويورك في فيلم «يوم ما بعد الغد The Day after Tomorrow». وفي إثيوبيا تم خلال الأربعين سنة الماضية قضم الغابات، بحيث اختفى ما كان يغطي 30 في المائة من مساحتها، لتصبح 1 في المائة فقط.
وفي الهند لتنخفض الغابات وخلال قرن واحد من 50 في المائة إلى 14 في المائة فقط!
أما في دمشق وتحت مظلة الرفاق الثوريين، فلم يبق من غوطة دمشق التي تغنى بها الشعراء، إلا غابات من الإسمنت يتاجر بها الرفاق المجرمون.
وفي عام 1989م تم القضاء في الأرض على مساحات من الغابات، ما يعادل مساحة هولندا وبلجيكا معا، في جنون مطبق غير مفسر وغير مفهوم عن حماقة للإنسان يقف المرء تجاهها عاجزا مكتوف اليدين، كما في قصة الغوريلات وانقراضها في الزايير؛ فعندما حاولت العالمة الأنثروبولوجية الأمريكية «دايانا فوسي DAIANA FOSSY» حمايتهم والمحافظة على نسلهم ككائنات لها حق الحياة، قتلوها وقطعوا أيديها كما كانوا يفعلون بتقطيع أيادي الغوريلات.
جمهورية بمواصفات جديدة
في ضوء هذه المخاطر الجديدة، ومن أجل لجم نزوات الرفاهية بألم، تقدم معهد خاص في مدينة «فوبرتال WUPPERTAL» الألمانية، مختص بالمناخ والطبيعة والطاقة، بدراسة عن تصوره لجمهورية ألمانيا الجديدة، وهي نموذج من تصور المستقبل:
يجب أن تمضي الحياة بتواضع وتبصر وهدوء، مرتبطة بالطبيعة بشكل عقلاني متزن، في جمهورية مصححة المناخ والطبيعة، وعلاقة الإنسان بهما.
تمضي الدراسة في تقديم الاقتراحات التالية:
ـ إيقاف مشاريع مد الطرق البعيدة…
ـ بناء السكك الحديدية وتوسيع شبكتها (باعتبارها أداة للنقل الجماعي).
ـ التوقف عن بناء المساكن والتهام الطبيعة.
ـ تحويل نظام الزراعة وقلبها بطريقة الاستفادة من الطبيعة مباشرة.
ـ إلغاء الأجهزة الإلكترونية واختفاؤها من الحياة الألمانية، إلا الضروري.
ـ تبادل الجيران بينهم المنافع المشتركة (نظام الماعون) من الثلاجات والكناسات والغسالات؛ فلا يشترط أن تكون لكل عائلة سيارة وكافة الأجهزة الكهربية.
ـ إيقاف رحلات الرفاهية لجزر الكارايبي والكاناري.
ـ تناول الغذاء من الطبيعة مباشرة، والابتعاد عن الهورموني المصنع كما هي في صرعات الساينس فيكشن الخيال العلمي المصيبة.
ويطلب هذا التقرير من الألمان أن يمتلكوا القوة للارتفاع، والحكمة لفهم هذا التحول، ولكنه يعقب فيقول:
إن إغراء الرفاهية أكبر من أن تفسح المجال لمثل هذه الأفكار الطوباوية.
في تقديري أن شوارع عاصمة عربية، مثل الرياض ستختنق بالكامل في مدى العشرين سنة القادمة، ولو كانت الطرقات السريعة ستة خطوط.
أما التلوث فغمامة منذرة، أما التوسع فأذرع أخطبوط سيموت.
إنني حقيقة أصاب بالرعب أمام التوسع المخيف، وكيف ستلحقه البنية التحتية، في وسط نصفه من الأميين.. الذين لا يصنعون السيارات ولا يعرفون صيانتها فضلا عن تطويرها.. وهي أدوات الحضارة الثلاث..
لقد قلت في أبو ظبي في تعليقي على مدينة مصدر، إنها تذكرني بعاد ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، ثم تحولت إلى بئر معطلة وقصر مشيد في أعقاب ريح صرصر عاتية، ما تذر من شي أتت عليه إلا جعلت كالرميم.
إن التمدد والتوسع ضار بالعضوية، فيقلبها إلى حالة الصدمة. وكذلك المجتمعات، كما تدمرت سبأ فهي الآن في أيدي الحوثيين المنتسبين إلى عالم الديناصورات البائدة..
العامل الرابع (FACTOR 4) والثورة الفعالة
أمام النفق المسدود للنمو ومشاكله، تقدم فريق بحث أمريكي ـ ألماني بفكرة جديدة أطلقوا عليها العامل الرابع؛ يتم بموجبها مضاعفة الرفاهية مرتين، وإنقاص استهلاك المواد الى النصف. فتكون المحصلة رباعية مضاعفة من كلا الحافتين.
تم تصميم البحث من الألماني «إرنست فون فايتسكر ERNST ULRICH VON WEIZSAECKER» والزوجين الأمريكيين المختصين في علم المناخ الإيكيولوجيا «هنتر وأموري لوفينز HUNTER AMORY LOVINS)»، فيمكن بمقدار برميل من البترول أو طن من الأرض مضاعفة الإنتاج أربع مرات.
تم استحداث نماذج كاملة لهذا التصور، من القفل الكهربي إلى لمبة الإنارة. في بناء نموذج كامل لشكل الحياة المستقبلية، مثل السيارة الفائقة، والبيت المعزول، والتدفئة بالنظام الشمسي، والبريد الإلكتروني، وبيوت من طين وهكذا.
ولكن أين ستذهب مصالح الذين يملكون الحديد والإسمنت؟
المشكلة في هذا النظام أن التاريخ علمنا أن هناك علاقة جدلية بين التقتير والتبذير، فعندما يكون الأب بخيلا يخرج الأولاد مبذرين كحركة تعويض، وحين أحكمت الكنيسة قبضتها على أوروبا بالعنوسة والرهبانية، انفجرت الإباحية والبورنو، فهي تصدر بالكابلات لأطفال العالم.
إن كل ادخار يقود دوما ومن جديد في حلقة تصاعدية إلى مزيد من الإسراف، فضلا أن بناء نظام من هذا النوع مكلف خيالي يضيع مزايا هذا النظام.
شبكة المعلومات وتقنية الجينات
ومما يلوح به دعاة التقنية الجديدة أمام معاناة البشر من الإيدز والسرطان، الجوع والأمراض الوراثية، المحاصيل السيئة وانقراض العديد من الأنواع ومعها لغات العالم الست آلاف كل يوم، يرون أن التلاعب بالمورثات سيحل المشكلة البيولوجية، في حين يبشر الآخرون برؤية (مجتمع المعلومات)، بحيث يستطيع كل مواطن (أرضي) الدخول ووضع يده على ما يبغي من معلومات.
مجتمع المعلومات وديكتاتورية الخبراء
ترى مجلة «الأثر المتبادل WECHSELWIRKUNG» أن ما يسمى مجتمع المعلومات لا يعدو أن يكون كذبة؛ فمن يعتقد بهذا يتبع سرابا خادعا وخيالا مختفيا وظلا زائلا، وما يسمى بالشبكة الإلكترونية ستتحكم بها النخب (ELITE) مرة أخرى، حيث تسيطر فئة قليلة على شبكة ضخمة تستغلها لصالحها. أما في المستوى السياسي، فإن الموجة الإلكترونية ستقود سفينتنا للوقوع في النهاية في قبضة ديكتاتورية الخبراء.
سينتهي عهد السياسيين الأميين ويتم ختم عصر كامل، ويبدأ الاختصاصيون الجدد في جمهورية الكابلات الإلكترونية الجديدة في التعامل الجيد مع الواقع، يضعون أيديهم على التكنولوجيا والمال والسلطان
«POWER»، كما هو الحال في ميشكو الذي تعرفت عليه في كندا، وقد أصبح مليونيرا بالثلاثينات من اللعب بالأسهم.
قد لا ينجح تقنيو الجينات في الاندفاع بنفس سرعة تقنيي الإلكترونيات، ولكنهم سيصلون بدورهم إلى مأزق، فإن تمكنت الدول المتقدمة من القضاء على السرطان وأمراض الشيخوخة وإطالة أمد الحياة إلى عقود أكثر، كان معناه انهيارا كاملا في نظام ضمانات التقاعد.
هذا الكلام يصلح للدول التي وفرت الضمانات للأفراد الذين يعيشون ضمنها، ولا ينطبق على المجتمعات التي ما زالت تسبح خارج تيار التاريخ، حيث يعيش الفرد بدون أية ضمانة، في أي زمان، في أي مكان، لأي شيء، بما فيها اعتقاله ومصير أولاده ورزق عياله، بل هو لا يعرف على وجه التحديد فكرة الضمانات، وهو حزام الفقر الذي تعيش قدره اليوم كتلة بشرية تزيد على أربعة مليارات، يقع معظم العالم الإسلامي في قبضته، تنجو فيها بعض جزر زيتية طافية من دول الخليج، يعود نجاتها ـ ومؤقتا ـ إلى صدفة جيولوجية بحته أكثر من عرق الجبين، وما ينتظر الجيل القادم الهول الأحمر.. فذوقوا العذاب. .. إن أمام جيل دول الخليج عقدان أو ثلاثة عقود، فإما ضربوا ضربتهم التاريخية وهو أمر مشكوك فيه، وإما رجعوا إلى أسوأ مما بدؤوا، فأن تنتقل من الفقر إلى الغنى عسل الشهد هو، وأما التحول من الغنى إلى الفاقة فحنظل وعلقم.
الخاسرون والرابحون في الجمهورية الإلكترونية
مع إحكام شبكة الإنترنت وزحف «الدشوش» فوق السطوح، مثل أوكار الطيور وتنافس المحطات الفضائية، سوف يختفي شكل القوة القديم للذين يملكون صناعة القرار في المجتمع، وسوف ينضمون إلى جيش العاطلين عن العمل في المجتمعات القديمة. لن ينتسبوا إلى العالم الجديد، سيكونون من الخاسرين في المجتمع الحر الإلكتروني الجديد.
ما سيفاجئ شعوب المعمورة بروز مراكز جديدة لصناعة القرار، لن يكون في مراكز الحكومات القطرية، بل بالأحرى في مكاتب الشركات العملاقة متعددة الجنسيات، على صورة ثورة تعلن عن تحول كامل في مجرى العصر.
ومع كارثة الرهن العقاري الأمريكي تبدل مصير العالم، وأصبح اليوم ليس برأسين من رأسمالي وشيوعي، بل تنين بعشرين رأسا، مثل قصة الميدوسا الغرغونية!
فقد جاء في الأساطير أن «الميدوسا» كانت مثال القباحة وعين الشناعة، شعرها جدائل من أفاعي تنفث اللهب، وفمها مغارة رعب، وأسنانها مناشير، ولسانها مدلى أشد من ذراع أخطبوط، ما رآها أحد إلا مات رعبا، واحتار الناس في التخلص، حتى كان ذلك اليوم الذي فكر فيه شاب جريء بالتخلص من «الميدوسا» هو البطل «بيرسيوس»؛ فهداه تفكيره إلى حل عجيب بخدعة مزدوجة.
ذهب «برسيوس» فأخذ درعه البرونزي وبدأ في تلميعه إلى الحد الأقصى، حتى استحال الدرع إلى مرآة لامعة تسلب الألباب ببريقها. اختبأ «برسيوس» خلف درعه الأثيني الكبير وتقدم ببطء تجاه الميدوسا. لم تر الشريرة فيه سوى مرآة جميلة لوجهها الفاتن ولم يكن فاتنا بحال، بل حفر ونقر ورعب.
انشغلت الميدوسا بالمرآة اللامعة، فبدأت في تأمل وجهها، ونسيت أن هناك من يتحرك خلفه. حتى إذا وصل بيرسيوس إلى مقتلها ضربها الضربة التي أطارت رأسها، وتخلص الناس من شرها، وذهبت مثلا في الأساطير.
والعالم الذي نعيش فيه اليوم هو عالم الميدوسا الغرغونية، لحين قدوم بيرسيوس.
نافذة:
ترى مجلة «الأثر المتبادل WECHSELWIRKUNG» أن ما يسمى مجتمع المعلومات لا يعدو أن يكون كذبة فمن يعتقد بهذا يتبع سرابا خادعا وخيالا مختفيا وظلا زائلا وما يسمى بالشبكة الإلكترونية ستتحكم فيها النخب