لقد أعاد صلاح الدين الاعتبار للأماكن المقدسة المسيحية وأعادها للروم الأرثوذكس، وجدد سور القدس كما عزز الوجود العربي بالقدس من خلال استقطاب بعض القبائل العربية لإعمارها، بعدما انخفض سكانها جراء خروج الصليبيين منها.
بعد صلاح الدين توالى أبناؤه وأحفاده على حكمها، لكن الصليبيين لم ييأسوا من العودة إليها، فكان لهم ذلك بقيادة ملكهم فريدريك الثاني الألماني وبقوا فيها مدة عشر سنين ونصف السنة، ثم استردها منهم أمير الكرك ناصر الدين داود، وبعد ذلك استولى عليها الخوارزميون الذين ما لبثوا أن أخرجوا منها سنة 1247م، فدخلها الملك الصالح فأمر بإعادة بناء أسوارها وبذلك استظلت القدس مرة أخرى بالحكم العربي، فعاد إليها سكانها من المسلمين والمسيحيين العرب والروم فاسترجعوا كل أملاكهم، لكن الخطر الصليبين ما لبث أن أطل مرة أخرى بقرنيه، فاستطاع الصليبيون فتح القدس مجددا في عهد هنري الثالث، ملك إنجلترا، ومكثوا في فلسطين إلى أن جاء الغزو المغولي الذي فتك بأهل القدس وأشاع فيها الخراب، ثم قيض للمصريين مجددا أن يفتحوا القدس وذلك بعد أن ألحق القائد المملوكي الظاهر بيبرس الهزيمة بالمغول، وبالرغم من كل هذا لم يستطع الصليبيون أن ينفكوا عن حلم العودة إليها، لكن الفشل كان حليفهم، بل أكثر من هذا أن السلطان قلاوون نجح في إجلائهم عن الشام سنة 1291م، وبذلك تكون صفحة الحروب الصليبية قد طويت بعد أن عمرت 177 سنة كاملة، وكلفت العرب حوالي مليون شهيد.
تساهلات المماليك
إبان عهد المماليك زاد عدد اليهود في القدس بسبب تساهلهم معهم، كما أنهم عملوا على تقريب المسيحيين الأرثوذكس، وخاصة الروم منهم لرغبتهم في توطيد علاقتهم مع ملوك القسطنطينية كي يسمحوا لهم بعبور مضيق البوسفور إلى القوقاز، بهدف تجنيد الجيوش المملوكية. ومن أبرز الأمراء المملوكيين الذين دانت لهم القدس نذكر عز الدين أيبك، زوج شجرة الدر، وسيف الدين قطز (1259م) والظاهر بيبرس (1260م) الذي خلصها من نير المغول، فزارها مرتين وأنشأ بها مدرستين وأعاد ترميم مسجد الصخرة، كما قام بحماية المقدسات المسيحية بها.
وفي أواخر أيام دولة المماليك الثانية، اضطربت أحوال المدينة على جميع الأصعدة، فحدثت قلاقل بين العرب واليهود، ثم اشتد أوار الصراع بين المماليك والأتراك، فاستطاع هؤلاء الاستيلاء على الشام ومصر بقيادة السلطان سليم الذي دق آخر مسمار في نعش المماليك، فأصبحت بذلك القدس تابعة للدولة العثمانية.
استولى العثمانيون على مدينة القدس عقب انتصارهم في معركة مرج دابق في شمال سوريا، وذلك سنة 1517م في عهد السلطان سليم الأول الذي امتاز حكمه بالعدل والتسامح والمساواة بين الأديان، يدل على ذلك إشراكه لجميع الطوائف في الحكم من خلال إنشاء مجلس إداري وآخر بلدي، يضمان في عضويتهما المسلمين والمسيحيين واليهود.
أما ابنه سليمان القانوني (1520م 1566م) فيرجع إليه الفضل في تعزيز مكانة القدس، فرمم أسوارها الموجودة حتى الآن، كما قام بإصلاح شامل لقبة الصخرة وأولى عناية كبيرة للمنشآت المائية وصيانتها، وإضافة إلى حرصه على رعاية المسيحيين، أقدمت زوجته «خاصكي سلطان» الروسية الأصل على إنشاء مؤسسة خيرية (تكية) سنة 1551م تعنى بشؤون الصوفية والفقراء والطلبة، وهذا كان تعزيزا للوقف الإسلامي الموروث عن الأيوبيين والمماليك.
أما إداريا فكانت القدس تابعة- خلال عهد العثمانيين- لولاية دمشق، ويتبع لها الخليل والقرى المجاورة، ويحكمها أمير يسمى «حاكم اللواء»، وهذا المنصب كان مقصورا على الأتراك العثمانيين، وحاكم اللواء هذا كانت له مهام عسكرية بالأساس وكان له نائب يسمى «الكيخيا» وكاتب يسمى «يازجي»، أما تركيبة الجنود فكانت تتكون من الفرسان الإقطاعيين «السباهية»، يرأسهم الميرالاي، وقوات الشرطة ويرأسها «السوباشي» والإنكشارية ويرأسهم «الأغا».
في حين كانت السلطات المدنية منوطة بالقاضي الذي تعينه إسطنبول، ويشترط فيه أن يكون تركيا وحنفيا، على اعتبار أن المذهب الحنفي كان مذهب الدولة الرسمي. وتنضاف إلى القاضي ثلاث شخصيات دينية نافذة في القدس وهي: المفتي ونقيب الأشراف وشيخ الحرم، وهم ثلاثتهم مقدسيون ويعينون من طرف السلطان.
هزائم العثمانيين
اللافت في الأمر أن الحياة الاقتصادية انتعشت في المدينة خلال عهد العثمانيين، خاصة ما تعلق بالصناعات الغذائية والمعدنية، أما النظام الضريبي فشمل الأراضي الزراعية وأنشطة البيع والمواشي والصناعة، علاوة على الجبايات الخاصة بالجزية التي كانت مفروضة على أهل الذمة من المسيحيين واليهود، إضافة إلى رسوم السياحة الدينية كالحج وزيارة الأماكن المقدسة. غير أن بوادر الضعف بدأت تدب في جسد «الرجل المريض» (الدولة العثمانية)، منذ الثلث الأخير من القرن 16م، بسبب ترهل النظام الإقطاعي الذي كانت تقوم عليه الدولة، والذي تأثر بتراجع وتيرة الحروب التوسعية وقلة المداخيل والغنائم، ناهيك عن التحولات التي مست أسواق التجارة العالمية آنذاك على إثر اكتشاف أمريكا والطريق البحرية الموصلة إلى الهند وتراجع أهمية آسيا على خريطة الطرق التجارية.
كل هذه الأسباب متضافرة أسهمت في إشعال فتيل الثورات ضد النظام العثماني، خاصة من لدن الفلاحين في تركيا وباقي إيالاتها، فكان ذلك بداية لاهتزاز صورة النظام ككل، وقد مثلث هزيمة الأتراك أمام أعضاء الحلف المقدس في معركة «ليبانتو» سنة 1571م، أول إنذار هذا الاهتزاز، وتوالت بعد ذلك هزائم العثمانيين العسكرية أمام النمسا وحليفتها روسيا. فأذعنوا لعقد صلح كارلوفيتش سنة 1699م وخسروا بموجب ذلك أجزاء كبيرة من الأراضي التي كانت تابعة لهم. وقد زاد هذا التضعضع من أطماع الدول الأوربية التي هرعت إلى فرض تنازلات على الأتراك، كما هو الشأن بالنسبة إلى فرنسا التي حصلت على حق تمثيل المصالح المسيحية وقدمت نفسها كحامية للكاثوليك، أو روسيا التي نصبت نفسها مدافعة عن حقوق الأرثوذكس، وفي الوقت الذي استعرت فيه الجبهة الخارجية من خلال توالي الحروب مع الأوربيين عادت الجبهة الداخلية لتصطلي بنار الثورات المسلحة.
كان قدر القدس أن تعيش مآسي هذه التحولات، فاكتوى سكانها بظلم الحكام الأتراك من قبيل أحمد باشا الجزار – حاكم عكا- الذي أذاقهم بكل أطيافهم الدينية (مسلمون، يهود، مسيحيون) ألوانا من العذاب حتى اضطر الناس إلى بيع أبنائهم كعبيد في الأسواق، والأمر نفسه بالنسبة إلى مصطفى باشا الذي أثقل كاهل المقدسيين بالضرائب والعسف الذي لا يطاق، فكان أن اندلعت الثورة سنة 1824م بزعامة كل من أحمد أغا ويوسف عرب، واللذين عززا لحمة التعاون بين المسلمين والمسيحيين فتمت إزاحة الحاكم التركي وجنوده، وقابل السلطان محمود انتفاضة القدس بتوجيه أعداد كبيرة من عسكره لاستعادة المدينة، فتم له ذلك بعد استسلام الثوار، لكن هؤلاء نجحوا في تحقيق بعض المكاسب المهمة نظير إعلان العفو العام، وإلغاء الضرائب، والحد من تدخل الجنود في تسيير شؤون المدينة.