شوف تشوف

الرأي

كتابي

أحيانا قد لا يفهمك أي شخص ممن حولك، ويستوعبك كتاب.. تجد فيه ما غاب عنك وغبت عنه، تصادف فيه ما يؤرق خاطرك ويسكن مخيلتك، فتجد حلا لمشكلتك في رواية، ومواساة لما يعتريك من هم في قصة.. تُسائِل نفسك «هل كان الكاتب على علم بما يشغلني وأصابعه تشكل جمل هذا الكتاب؟!».
قد تكون في أسوأ ظروفك تحاول إخراج نفسك من مأزقك النفسي ذاك، فتختار من مكتبتك الإلكترونية أو الورقية، كتابا كدَّسْته هناك ونسيت أنك يوما ما قد قمت بتحميله أو شرائه.. تقرأ الإهداء، تتخيل شكل الكاتب وهو يجلس فوق طاولة خشبية وبيده قلم أسود، يضع بالقرب منه فنجانا من قهوة مرة، يعتصر أفكاره ملامسا خصلات شعر شابت بين الحبر والورق، ويُهدي لك هذه الوريقات مختزلا لك بين طياتها تجربة حياة. فيفارقك الهم وصاحب الهم، وتعيش قصة من نوع آخر.
تنشأ بيننا والكتاب علاقة أشبه ببنوة خلت من المسؤوليات.. يرافقك في أماكن تنقلك، تضعه في حقيبتك كل صباح حتى وإن كنت تدري أن يومك مزدحم ولن تجد وقتا لفتحه، لكنه تحمله بعناد، فلربما منحك الوقت فاصلا لتصل رحم كتابك.. وقد تنشأ عداوة أحيانا، فيعتريك غضب إذا استفزك الكاتب بفكرة لا تروقك أو نهاية لم تكن لتتوقعها أو كسر عنصر التشويق بجملة بليدة لم يكن ليدرجها في نص سلبك خيالك.. تجول به جميع المقاهي وترتاد به أغلب المجالس، تحمله وأنت مسافر.. وأنت جالس.. وأنت متسكع.. يصبح جزءا منك وفيك.. ابنك الذي لم تنجبه.
قد تزورك شخصيات كتابك في المنام وقد تحلم بنهاية مختلفة عن تلك التي انتهى إليها الكاتب، وقد تتخيل نفسك تقف في وجهه تلومه أن ترك بطلك يموت بلا رحمة.. تعيش حياتك وحياة أخرى أهداها لك كاتب ربما يكون قد مات أو ربما يعيش في أقصى بلدان العالم، لا تعرف شكله ولا يعرف شكلك.. تربطكما الحروف. تعيش داخل سرده وكأنك الشخصية الحقيقية الوحيدة في تلك الرواية، تؤلمك أحزان ومشاعر مكتوبة على ورق.. وتفرحك ضحكات ونظرات حب فرشها الكاتب بقلمه على رمل الخيال.. لا يهمك إن كان ما تقرؤه حقيقيا أو سرابا.. لا يهم إن كان الكاتب يتخيل أو يروي ما يرى.. المهم أن تلك السطور تفعل داخلك ما لا يفعله شيء آخر.. ذلك الحماس الممزوج بلمسة تعاطف مع شخصيات معينة، تلك المفاجأة عندما تنهي الرواية لتجد أن ما اعتقدته في البدء كان مجرد وهم، وأن الكاتب استغفلك على مدى أربعمائة صفحة، تلك الفرحة عندما ينتصر الحق وتلك الخيبة عندما يعم الفساد!
الكتاب الذي تختاره بعناية فائقة وتقرؤه بشغف كبير لا يمكنك نسيانه أو نسيان ما فيه، يصبح منك كأنك أنت من كتبت تفاصيله، يصبح جزءا منك ولو اعتلاه الغبار في رف من رفوف مكتبتك.. لا تنسيك الحياة وأهوالها تلك اللذة التي منحها لك يوما ما، وتلك الدهشة التي اعترتك وأنت تبحر داخله كصياد ألقى شباكه داخل بحر هائج، يقاوم الموج وينتظر الصيد. لا تنس أنك بفضله غيرت شيئا فيك، وصححت فكرة لديك، وتنازلت عن أخرى.. لا تنس أنك تحسرت على ثمنه عندما اكتشفت أنه موجود على مواقع التحميل، لكنك عندما أنهيته شعرت بأنك مستعد لإعادة شرائه مرة أخرى.. فبعض الجواهر الأدبية لا تكتمل متعتها إلا عندما تلامس أصابعك صفحاتها وتستشعر نعومة أوراقها.
تبدأ مطالعة رواية ما محافظا على شكلها، واضعا علامة ورقية أنيقة داخلها، تحاول أن يبقى غلافها مرتبا كما هو.. تطول مدة التحامكما معا، تنامان معا، تأكلان معا، ترتشفان من فنجان القهوة نفسه، تجدها تحت رأسك صباحا وبين أغراضك مساء، لتكتشف يوما أنها اكتسبت حسك الفوضوي والتوت صفحاتها واهترأ غلافها وربما تمزق.. تتغاضى عن الأمر فلابد لها من أن تذبل.. كيف لها أن لا تفعل وهي تمنحك رحيقها كل يوم.
قد يصاحبك كتاب أياما قليلة وقد تطول المدة لتكون شهورا طويلة وقد تتجاوز السنة وأكثر، ليحين موعد الوداع، وخوفا من ألم الفَقد تحاول أن لا تسرع إذا ما الخاتمة اقتربت، تقرأ ببطء علك تطيل هذه العشرة الممتعة.. ثم تصل لآخر صفحة تتأملها وقد كُتب فيها «النهاية».. تطالع كلمات الشكر التي يهديها الكاتب لمن رافقوه.. تغلق الكتاب وتحمله كجنينك الذي وصل موعد مغادرته الرحم، تختار له أبهى مكان على رفك العالي، تضعه برفق.. وترحل عنه كأنكما توأم ملتصق فصلتهما يدا جراح ماهر، تستلقي على ظهرك معيدا استحضار كل حدث وكل مشهد أمامك تفصله كما تشاء وتجسده كما تشتهي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى