إعداد وتقديم: سعيد الباز
كانت الكتابة الإبداعية في عمومها، نابعة من الألم الإنساني. لكنها في بعض الحالات الأكثر مأساوية يتحول هذا الألم الإنساني إلى موضوع للكتابة، ويبلغ ذروته القصوى حين تصبح الكتابة ذاتها نوعا من المواجهة المستميتة للألم وأحيانا أخرى شكلا من أشكال الخلاص. فالشاعر والروائي المغربي محمد خير الدين (1941-1995) الملقب بالطائر الازرق كانت حياته عبارة عن رحلة أسطورية من أعماق سوس إلى الدار البيضاء أواسط الستينات، حيث كان جيل جديد من الكتاب والفنانين يعيدون تشكيل الثقافة والإبداع المغربيين بنفس حداثيّ ينشد التغيير، فكانت لمحمد خير الدين بصمته الواضحة في مجلة أنفاس، قبل أن يرحل إلى فرنسا ويعيش أحداث ثورة ماي الباريسية. روايته ،»أكادير،» لم تجعل منه كاتبا معروفا فحسب، بل شاعرا وكاتبا كبيرا باعتراف قمم الفكر والأدب في فرنسا وعلى رأسهم جان بول سارتر وأندري مالرو. لكن محمد خير الدين لم تفتنه باريس بمباهجها فعاد إلى المغرب ليواصل حياة التيه بين مدن المغرب لا يملك لنفسه مستقرا سوى الفنادق وبيوت الأصدقاء. في أواخر حياته داهمه مرض السرطان بشكل مجاني، لكنه رغم المرض أبدى مقاومة شرسة وعكف على الكتابة باستمرار ليخرج إلى النور آخر أعماله من بينها ،»يوميات سرير الموت،». محمد زفزاف (1945-2001) أيضا كابد مرضه أواخر حياته بشجاعة وظل يواصل علاجه بصبر ولقاءاته الخاصة والعامة مداريا ألمه، كما تكشف عن ذلك الروائية العراقية في زياراتها له في المستشفى الباريسي. صاحب القولة الشهيرة ،»نحن محكومون بالأمل،» الكاتب المسرحي السوري سعد الله ونّوس (1941-1997) الذي قدم لنا مسرحا جديدا بهوية مختلفة يمزج بين الرؤية السياسية والرؤية الوجودية الفلسفية من أشهرها مسرحية ،»الفيل يا ملك الزمان،»، لما أصيب بمرضه الأخير لم يستسلم أبدا، وظل يواصل إنهاء أعماله المسرحية، وجعل من مرضه موضوعا لكتابه الأخير ،»عن الذاكرة والموت،». حالة الكاتبة المغربية مليكة مستظرف (1969-2006) قاسية جدا فهذه الفتاة أصيبت بمرض الفشل الكلوي وهي في سن الرابعة عشرة من عمرها، ورغم الفقر وضيق اليد استطاعت أن تخرج إلى النور روايتها ،»جراح الروح والجسد،» ومجموعتها ،»ترانت سيس،» رافعة صوتها بالاحتجاج على أوضاع المهمشين والمحتاجين بنبرة حادة وأسلوب غير قابل للمهادنة والمداراة. ظلت مليكة مستظرف تناضل من أجل ،»كلية،» تنقذ حياتها وتمكنها من مواصلة مسارها الإبداعي دون جدوى لتغادر عالم الأحياء في سن مبكرة وهي مازالت في بداية حياتها الأدبية.
محمد خير الدين.. يوميات سرير الموت
يوميات (1995) (الاثنين 7 غشت)
لن ألزم نفسي ههنا تسلسلا زمنيا. فلست استمرئ التسلسل الزمني كثيرا. غير أنّي لن أضنّ على القارئ من الإشارات بما يسمح له الاهتداء إلى زمن هذه اليوميات.
إنّه مقامي الثاني في هذه المؤسسة الاستشفائية الرباطية. كنت قد نزلت بها من قبل، في سنة 1993، في سرطان غددي أصاب فمي. تطلب تفتيه إخضاعي لحصص متواصلة من العلاج الكيميائي، ومواظبتي على تناول أدوية أخرى، لم أكن آلم كثيرا آنذاك، قاومت الداء بعزيمة صلبة لم يفتّ فيها شيء. وأمّا هذه المرة فقد وجدت من الألم ككلبٍ، كلبٍ عجوز يئن من الداء وحيدا أعزل من صاحب، في زاوية من الزوايا.
كانت مبتدأ هذه المحنة كلّها عملية قلع ضرس، باءت بالفشل. فبدل أن يقلع الطبيب الضرس المريض، إذا هو يكسر، من جهالته، عظم الفك، حتى كدت يغمى علي برغم ما كنت فيه من تخدير. عاجلتني الممرضات بقارورة مصل نبهتني من عيائي الشديد، وأعانتني على بلوغ فندق باليما بسلام.
… صرت عاجزا عن تناول شيء من الطعام إلا أن يكون سائلا أو حساء خفيفا. نقص وزني، وهزلت في لمح البصر. أقضي سواد يومي رهين السرير، مضطجعا على جنبي الأيسر (المريض) لم يعد في مقدوري أن أتخذ لي وضعة سواها. انقطعت عن الخروج، واشتدّ توتري حتى صرت أغضب وأحنق لأتفه الأسباب. بححت (ولا أزال فاقد الصوت حتى كتابة هذه السطور).
ها أنذا طريح الفراش. يتنازعني عالمان غامضان مشوشان، هزيل، أمنيتي الوحيدة أن أنعم، بعد لأي، بالهدوء ولا آلم من شيء. أخرج من هذا الجسد المؤلم، وأتنفس الصعداء، ولو هنيهة. لم يتسنّ لي الخروج غير مرات ثلاث. وفي ثلاث مرّات متوالية أغمي عليّ، وغبت عن الوعي. صرت في حالة من الإعياء أنني لا أحس في كياني كله بغير ألم واخز ممض.
… أخضعت، حينئذ، لكحت العظم (في عمليتين اثنتين)… وحقنت حقنا متواصلا مرات كثيرة، ناهيك عما لا يحصى من الحقون العضلية. يزاد إليها ما كنت أتناول من أقراص… وما شعرت بشيء من التحسن إلا بعملية الكحت الثانية. فقد غمرني شعور أني، بعون الله، في سبيلي إلى الشفاء. لكن يلزم الانتظار والصبر الكثير. أدعو الله الواحد الأحد، آناء الليل وأطراف النهار، أن يخفف عني آلامي وأوجاعي. كنت أقاوم الألم، جاهدا للإفلات من حبائله، والانفلات من هذا الجسد وسمومه… يصور لي الخيال شخصيات أسطورية. تستخفّني الرغبة في الكتابة عن إحداها. يعتمل رأسي جملا مكتملة البناء، في ذلك الخدر الشبيه بالحلم (النوم اللامعقول). في ذهني كتاب، جاءني من حيث لا أحتسب. قصة تحكي عن زوج عجوز يعيش من غير ذرية في قرية بوادي أمّلْنْ. القرية يغزوها التحول بتوالي السنين… أفلحت في إتمام هذا المؤلف الجديد في مدة لا تزيد عن الشهر إلّا قليلا. ولولا العون الدائم من الله، لما كتبت شيئا، ولما راودتني فكرة الكتابة مجرد مراودة… لكن كان الله لي معينا، ويسر لي سبيل الكتابة. سوف ترون مدى روعة هذه التحفة الأدبية. وأما أنا فأشكر الله أولا أن قيّض لي أن أعيش هذا النص وأتشبّع به قبل أن أشرع في كتابته. فقد عشت كل مشهد من مشاهده، وكل دقيقة من دقائقه، وألممت بتفاصيله…
(خاطرة) من البشر سخيفون، يبعثون على الرثاء. ها كم هذا الأستاذ الجامعي. فقد زارني في المستشفى، يرافقه شخص لا أعرفه. وبعد أن اطلع على حالي، قال لي: ،»نودّ أن نقترح عليك أمرا، سيهمك،». فلم أدعه يكمل كلامه، وقلت له: ،»ما يهمني هو الشفاء! فتحاش أن تكلمني خاصة في الأدب!،» أسقط في أيديهما، فغادرا الغرفة خائبين، لا يلويان على شيء… أتمنى أن لا أرى، بعد اليوم، هذا الصنف من البشر الذي إذا رآك في أسوأ حال، لا يفكر إلّا في استغلالك، وما سيجني من ورائك. متحذلقون مدّعون. لا شأن لهم ولا قيمة! جاهلون بالأدب جهالة عمياء. أساتذة من الدرك الأسفل! يخوضون في متاجرتهم السخيفة عند حافة سرير مريض! هل انحطاط أكبر من هذا الانحطاط!
سعد الله ونّوس: عن الذاكرة والموت
كان الموعد بعد الظهر… كان اليوم السادس والعشرون من تموز حارا جدا في باريس. دخلت ومعي زوجتي، والصديق النبيل عمر أميرالاي، إلى عيادة الدكتور إكسترا في مستشفى ،»سان لوي،» والدكتور إكسترا أخصائي بتشخيص وعلاج الأورام. ذلك اليوم كان متجهم الأسارير، وتقريبا لم ينظر إلينا. بعد تحية مقتضبة، دعانا للجلوس، وفتح الملف الذي تجمعت فيه التقارير المخبرية، وتحاليل الدم والصور الشعاعية. قال بسرعة وكأنّه يريد أن يفرغ من مهمة مضجرة: خلافا لتوقعاتنا، كشف تحليل الخزعة الكبدية عن وجود خلايا سرطانية. سألت… (بعد شهرين من الدوران في حلقة مفرغة من عيادات الأطباء في دمشق وباريس، ومن إثبات الورم ونفيه كنت قد استهلكت كل الانفعالات القوية): وما نوعه؟ أجاب الدكتور، وهو ما زال يتحاشى النظر إليّ: إنه من النوع الذي أصابك منذ سنتين. قلت: وماذا تقترح؟ أجاب: ليس هناك ما يعمل إلّا علاج كيميائي مكثف ومديد. قلت: أخشى ألّا أتحمّل هذا العلاج. قال ببرود: ربما… ولكن ليس أمامك إلّا العلاج الكيميائي. سألت: كم هي فرصتي؟ انتفض ونظر في عينيّ. كانت تلك أوّل مرّة ينظر في عينيّ مباشرة، قال: ولكن حالتك غير قابلة للشفاء. إذن ما فائدة أن أطحن فضلة قواي بالجرعات الكيميائية؟ غمغم، وهو يحاول أن يكتم نبرة غضبه. كان غاضبا منذ البداية، وقد فكرت طويلا فيما بعد، لماذا كان غاضبا؟ هل كان غاضبا من تسرّعه في استبعاد الورم. أم كان غاضبا من تقرير المخبر؟ أم من أسئلتي؟ أم من حرّ هذا النهار الفظيع؟ لا أدري… المهم بعد ظهر ذلك اليوم غمغم الدكتور إكسترا قائلا: لا أدري… لكي نخفف آلامك ونمدّ في أيامك. وكان ما تلا ذلك حديثا أجوف عن الإجراءات، وتحضير بروتوكول العلاج، وإرسال تقرير إلى طبيبي الأصلي في المستشفى الأمريكي.
خرجنا من العيادة، وكان الصمت عكازتنا كي نتماسك، ونمشى بخطى متزنة. حتى زوجتي التي لا تعرف الفرنسية، والتي كانت تنهكني بعد لقاء أي طبيب بالأسئلة، وطلب التفاصيل، اكتفت هذه المرة بجواب مقتضب (سرطان غير قابل للشفاء) ثمّ التف كلّ واحد منّا بصمته، ومشينا في أروقة المستشفى الشبيهة بممرات في مقبرة جميلة وجيدة التنظيم. في البهو كان ينتظرنا الأخ محمد مخلوف الذي حملنا إلى المستشفى بسيارته، ومن الغريب أنّه اكتفى بالنظر إلينا ولم يطرح أي سؤال. كان الصمت ثمينا في ذلك الوقت، وكنت أندس فيه كأنه شرنقة أو ملاذ.
… في السيارة ونحن نجتاز شوارع باريس، التي تتدفق فيها الحياة، ألحّ علي السؤال… والآن ما العمل؟ ووجدت نفسي أجيب: أن أغوص أعمق فأعمق في الصمت والعزلة، وأن أفكّ روابطي مع الحياة والأهل والأصدقاء وهذا العالم بكثير من الأناة، وأقلّ قدر من الضوضاء والعويل. لم بخطر ببالي أن أقاوم، ولكن في الوقت نفسه لم أكن متأكدا أنّي يائس. كنت أطفو على مصيري دون فجيعة… في البيت كان الحرّ شديدا، حافظنا وبتواطؤ عفوي على ميثاق الصمت. كان محمد قد تركنا على باب البناية متمنيا لي الشجاعة، وبدت لي كلمة الشجاعة مضحكة، وظللت أكررها في سري… ما معنى الشجاعة؟ وماذا تفيد الشجاعة رجلا تقرر رحيله؟ ولماذا ينبغي أن أكون شجاعا؟ لماذا لا يحقّ لي أن أنهار، وأن أعْول، وأن أبكي كلّ سوائلي. باغتتني رغبة حارة بالبكاء، وبالفعل ذرفت دمعتين يتيمتين، لم أجد بعدهما ما أذرفه. أليس العجز عن البكاء هو جزء من هذا الخواء الداخلي الذي كان يهيء موتي، ويعلنه؟.
مليكة مستظرف.. نساء الثامن مارس
يوم الثامن من مارس صادف حصّة غسيل كلى لديّ… كان ذلك يوم الأربعاء المنصرم. كل شيء كان من الممكن أن يمرّ هادئا وعاديا لولا دخول بعض ،»النسوة،» إلى غرفة –الديلزة- متمنيات لنا عيدا سعيدا… كانت الدهشة تعلو ملامح المرضى متسائلين عن المناسبة؟ امرأة عجوز قالت وهي ممدة على فراشها: عاشورة فاتت… واش عيد الميلود قرب؟ همست لها محاولة كتم ضحكتي: لا أميمتي هذا اليوم العالمي للمرأة… حكّت رأسها كأنّها تفكر في أمر مهم، شعيرات حمراء متفرقة تحاول إخفاءها بمنديل ذي ألوان فاقعة، رأسها يبدو كبصلة صغيرة: آش كيديرو فيه؟ قديدة؟ ضحكت هذه المرّة بصوت مرتفع: لا، هم يتكلمون فقط في هذا اليوم. لوت شفتيها وقالت: الله يستر. كنّ حوالي عشرين امرأة يلبسن ملابس أنيقة من الفرو ويضعن عطورا فاخرة… ومساحيق كثيرة يوزعن ابتسامات مزيفة بسخاء… يطرحن أسئلة بليدة، أخذن صورا مع المريضات وهن مبتسمات… نساء فارغات مفلسات عاطفيان يحاولن تزجية الوقت بشيء ما، فلم يجدن سوى المستشفى. وعندما انتهين غادرن وهن مبتسمات أيضا. حاولت أن أفهم لماذا يبتسمن بغباء واضح فلم أفهم. بالتأكيد سيذهبن بعد ذلك إلى مطعم فخم احتفاء ،»بإنجازهن العظيم،» كنت أتمنى لو هؤلاء ،»النسوة،» سألن الأطفال ليعرفن أنهم بلا طفولة فعلا. أطفال لديهم لغة خاصة بهم، لا يدخل ضمنها لعب وكرة وسفر ومدرسة ومحفظة ورياضة… أطفال بقامات قصيرة وأجساد نحيلة صفراء لا يكبرون أبدا، أطفال أقصى أمانيهم لعب الكرة والجري مثل أقرانهم. أطفال يعانون هشاشة العظام وفقر الدم وارتفاع في الضغط وهلّم أمراض… لا يخرجون من مشكل صحيّ حتى يدخلوا آخر. أطفال لا يذهبون إلى المدرسة لأنّهم ساعات الدرس يكونون في المستشفى ثلاث مرات أسبوعيا لتصفية الدم. كنت أتمنى لو هؤلاء ،»النسوة الثامن مارسيات،» لو سألن شابات ليعرفن أنهن لم يعدن يحلمن ببيت وزوج وأولاد، ويحلمن فقط بكلية لا يتعدى حجمها ثماني سنتمترات. كنت أتمنى لو هؤلاء ،»النسوة،» المترفات ذهبن إلى مراكز غسيل الكلى الخاصة ليعرفن الوجه الحقيقي للمعاناة: أناس باعوا ممتلكاتهم ومنازلهم وأثاث بيوتهم، وغادروا عملهم كرها بعد الطرد من مسؤولين لا يتفهمون هذه الأوضاع الخاصة وأصبحوا بين عشية وضحاها ،»على الضس،»، ومنهم من يستجدي في الشارع، أجل ،»ي…س…ت…ج…د…ي،» لتوفير ثمن حصة غسيل الكلى التي تكلف في المتوسط 800 درهم للحصة الواحدة، فالمريض رغم حالته الصحية المزرية عليه أن يجرجر جسده ليطرق كل الأبواب المتاحة وغير المتاحة. هناك من يساعد ببعض الدراهم وهناك من يقفل الابواب امتعاضا كأنه ينظر إلى طعام حامض. يحدث هذا في غياب تام للدولة تتركنا نواجه مصيرنا لوحدنا والمسؤولون ينظرون إلينا بأفواه مفتوحة ببلاهة وبلادة يقولون كلاما ضخما وكثيرا من الوعود التي لم تنفذ ولن تنفذ.
وأنا أنظر إليهن أحسست بتفاهتهن وسطحيتهن، أحسست ببون شاسع بين أحلامنا وأحلامهن بين همومنا وهمومهن، بين بؤسنا وترفهن بين وبين وبين… هل تعرفن ماذا أخذ منا المرض وماذا علمنا؟ المرض أخذ أعمارنا سرق شبابنا ووطفولتنا، وعلمنا أن حتى العلاج في هذا البلد ترف غير مسموح به للجميع. قبل أن أنسى: أنتن نساء ثمانية مارس ،»أقصد بعضكن،» مفلسات عاطفيا ومزيفات. لم أكن أرغب في الحديث عن هذا المرض أو المستشفى لأنني مللت هذا، لكن هؤلاء النسوة قمن باستفزازي.
عالية ممدوح: زفزاف.. طيف بوذيّ ورعٍ
حين وقف لنتعانق، شعرت أن قفصه الصدري كان فارغا إلا من ضميره. بدا أمامي في الدرجة القصوى من العري والحرية والوحدة. طيفا بوذيا ورعا، وما تلك التفاصيل: الحلاقة، الهندام، الشارب غير المقصوص جيدا، والشعيرات الطائشة من لحيته التي كانت على وشك الطيران فيعاود لمسها وضبطها بأصابعه الناحلة، ما هي إلا علامات قوته الداخلية. محمد زفزاف ازداد نحولا وهزالا عن العام الماضي لما زرته حاملة معي طنجرة من البلاستيك فيها حساء الخضار الطازجة والمهروسة جيدا بعدما تم اقتلاع جميع أسنانه، وكأنني ازور أسير حرب. فبدا فكّه يشي بالإيحاء أكثر من أداء مشقة الكلام، والاقتصار على الابتسام الخفيّ بدلا من تلك القهقهة المعهودة عنه، وما تلك الحيوية الحاضرة التي تتدلى منه على مهل إلا عزيمة يقاوم بها جفاف الحلق والبلعوم فيواصل شرب الماء المثلج قدحا وراء آخر. يزداد إحراجي ويتفاقم لكي أبدو متلائمة مع خيبة أمله فيّ وأنا أتحرك امامه وكيف أتعثر بمظاهر صحتي الزائفة. الشيء الأسوأ في مثل هذه الحالات، أنك لا تعرف جميع القواعد التي تجعل صديقك القديم بشوشا، مرتاحا، أو على أقل تقدير أن لا تسبب له ضجرا. فلا أعرف ما يطّيب الخاطر؛ الرهافة الزائدة عن اللزوم وقد تؤدي إلى سوء تفاهم، أم التظاهر بالسكوت الذي يجعلك تطاق قليلا، أما المزاج، مزاج زفزاف الانفجاري، الفاتن الأول فيخيل إليّ أنه انقشع وغادر، فلم يعد بمقدوركما اختراعه مجددا. والآلام الساحقة، يجيب بصوت بعيد جدا: أخذت الحبوب قبل قليل لكي لا تتدهور حالتي. كان يتعذب أمامنا، لكن بمقدوره الاحتمال وفي وضح النهار وهو ييمم وجهه شطر الظلال الخفية في بهو الفندق الباريسي الكائن في حي الأوبرا. يجلس على كرسي ويحتار أين يمد ساقيه الطويلتين. أمامه صينية الإفطار وبعض الصحف وهاتف نقال أثار استغرابي، هو الذي ينسى الأرقام والعناوين وسحنات بعض الأصحاب البائسين، فبدأ بدفعه بعيدا كأنه يدفع إثما. لاحظت ذلك فقال بصوت مستاء: ماطل كثيرا الصحافي العراقي حتى أعطانا رقم هاتفك. كان يجب ان نلتقي قبل الذهاب الى غرفة العمليات غدا.
في العام الماضي اتفقنا على إجراء حوار طويل سويا. كان يشعر، من فرط التذكر أن تصميم الذاكرة البشرية في أثناء المرض أفضل وأبهى من يوميات العافية. فكان يتحدث عن الموت كما لو أنه الميلودراما التافهة للوجود، ويبدو مأخوذا بالسفر والترجمة والزهور ونضارة الخلق البشري، أو كتابة يوميات المرض أو نصوص عنه. كان يشجعني ببذخ قبل أن تمتلىء الساعات بالأشخاص المملين وضفاف الأنهر بالوحول. وكان يستهزىء بالمستشفيات، العقاقير، الحقن البشعة، صور الأشعة والشروحات المملة للسادة الاطباء والكبسولات التي أضحكته كثيرا وهو يرى حجومها بين كفه. أليس ذلك سببا وجيها لكي ننهب من الدنيا ابتسامة ما أو لقاء ثانيا أو ودا غير رسمي، أليس كذلك ؟ (اليوم أشعر بندم شديد لأنني لم أسجل تلك المشاهد بسبب الكسل الوجودي لا غير) واليوم ، وأنا في المترو في طريقي إليه أخرجت ورقة وقلما. وها نحن بالفعل نعود لنلتقي ثانية في باريس، وبالطريقة ذاتها سيقترب مصورو التلفزيون والإعلام من ساحة الباستيل وهم يصورون الشعارات المرفوعة ومكبرات الصوت في التظاهرة الحاشدة التي ستنطلق في الساعة الثانية والنصف ظهرا من أجل فلسطين. إنه ليس فيلما آخر، حين تتداخل المصيبة الشخصية، مرض زفزاف بالصلف والسفاهة والوحشية العبرية في توقيت مشترك؛ فلسطين وزفزاف. بلى، في ذلك اليوم سميت أحدهما الآخر ولم أحفل بالتأويل. هو القامة الأدبية المغربية الباهرة كانت عدته الصبر المرّ… لنتمش قليلا قبل وصول الصديق صبري حافظ… طوقت ذراعه ومال عليّ قليلا بعدما شدّ شال الصوف الأزرق على رقبته. كان يمشي بوهن لكنه يتقبل حركات جسده، إنه جسده وحده، وكأنه أوّل مرة يعثر عليه لكنه لا يعبأ به. أما الألم ، ألمه فقد زاده بهاء وحياء فلم يحفل بابتهالاتي الذابلة.