شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

كتابات ما وراء القضبان

إعداد وتقديم: سعيد الباز
يمكن اعتبار موضوع الحرية أهم ما استأثر باهتمام الكتابات الأدبية التي لم تنسج فقط خيوط أحداثها ورؤاها الإبداعية خلف قضبان السجون والمعتقلات، لكنّها اعتمدت أكثر على نقل التجربة الإنسانية داخل هذه العوالم المعتمة، محاولة أن تبرز صراع الإنسان من أجل البقاء والحفاظ على أكثر ما يمكن من إنسانيته وجدارته بالحياة. كان الروائي والمسرحي الإيرلندي أوسكار وايلد Oscar Wild من أهم الكتاب الذين خاضوا هذه التجربة المريرة، من خلال كتابه الشهير «من الأعماق»، حيث قادته حياته المستهترة وفضائحه الأخلاقية إلى السجن أواخر حياته. هذه الحياة القصيرة التي عرف فيها المجد الأدبي والغنى والشهرة غير المحدودة انتهت بشكل مأساوي قابعا في سجنه يعتصر الندم في رسائله التي أتت بالفعل من أعماق حياته المحطمة وغير القابلة للجبر.
من بين هذه الكتابات وأوسعها تأثيرا رواية الروائي الروسي فيودور دوستويفسكي Fiodor Dostoievski «مذكرات البيت الميت» التي نقل فيها ظروف اعتقاله في سيبيريا وهو ما زال في بداية حياته، جمع فيها ما بين فن الرواية من جهة والسيرة الذاتية وكتابة المذكرات، إضافة إلى ما تميز به دوستويفسكي في كتابته الروائية من التحليل النفسي للشخصيات والنماذج البشرية من مجرمين ومعتقلين سياسيين وحراس داخل السجن.
الكاتب والروائي النمساوي ستيفان زفايغ Stefan Zweig الذي ترك لنا قبل إقدامه على الانتحار، قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية، قصته المثيرة «لاعب الشطرنج» التي تبدو في أولها قصة مليئة بالأحداث العجيبة والمشوقة لتنتهي إلى خلفية لاعب الشطرنج المجهول وتجربته المروعة خلال فترة اعتقاله من قبل النازيين، حيث تنكشف خيوط القصة بأكملها وتنحو باتجاه دلالات أبعد من الأحداث ذاتها إلى الموقف اليائس للكاتب من الحرب العالمية الثانية وخشيته الكبيرة من انتصار النازية في أوروبا. وأخيرا مع الشاعر المغربي عبد اللطيف اللعبي نعيش أطوار فترة اعتقاله في «يوميات قلعة الموت» في مقاطع نثرية مسترسلة تمزج بين التفاصيل الدقيقة لحياة المعتقل والتأملات في الكتابة والحياة يضبطها نفس شعري يتراوح بين الخفوت حدّ الهمس، والقوة أحيانا حدّ الصخب، وتتخلله بين الفينة والأخرى نبرة ساخرة مفعمة بالحزن والمرارة.

أوسكار وايلد (1854-1900).. من الأعماق
… الفقراء أبلغ حكمة، وأكثر خيرا ولطفا، وأشدّ حساسية ممّا نحن عليه. فالسجن في نظرهم ليس سوى مأساة في حياة الإنسان، مجرّد سوء طالع، أو محنة صعبة، شيء خطير يحرّك شعور التعاطف لدى الآخرين. إنّهم يتحدثون عن الشخص الذي يذهب إلى السجن كشخص «عالق في ورطة». وهي العبارة التي يستخدمونها دائما، ببالغ من الحكمة وبتعاطف مثالي، لا يوجد له نظير في من هم من طبقتنا.
فالسجن في نظرنا يجعل من المرء منبوذا، ولمن هم بمثل حالي، يكاد لا يكون لنا أيّ حق في الهواء والشمس، ووجودنا يكدر صفو ملذات الآخرين. وعندما نعاود الظهور نصبح غير مرحب بنا، نتوق إلى التأمل في القمر كل مساء. ويأخذون منّا أطفالنا بعيدا، وبذلك تغدو جميع الروابط الإنسانية العزيزة مقطوعة، نحن محكومون بأن نبقى انفراديين، بينما أبناؤنا ما زالوا يعيشون. لقد حرمنا من الشيء الوحيد الذي قد يشفينا ويمنحنا البقاء، الشيء الوحيد الذي يروي ظمأ القلب، ويدخل الطمأنينة للروح التي تتألم.
يجب أن أعترف بأنني الذي دمرت نفسي، وأنّه لا يمكن لأحد أن يدمر شخصا كبيرا كان أم صغيرا، إلّا إذا فعل ذلك بنفسه. أنا على استعداد تام لقول ذلك. وأن أعلنه أمام الجميع، على الرغم من أنّهم لا يكترثون بي في الوقت الحالي، ولكنني أحمل هذا الاهتمام الشنيع دون أن أشعر بالشفقة على نفسي، كان ما فعله العالم بي سيئا، لكن ما فعلته بنفسي كان أشدّ فظاعة.
كنت رجلا قد أبحر في علاقات رمزية مبنية على الثقافة والفن المرتبط بجيلي. لقد وصلت إلى ما صرت عليه في عنفوان شبابي، وأجبرت نفسي بذلك العمر على إدراك ذلك الكم من المعارف والفنون، بينما كان عدد قليل من الرجال يتمسكون بمثل هذا المركز في حياتهم، ويحملون غيرهم على الاعتراف به. فمثل هذا الأمر، إن حدث التفات إليه، لا يلتفت إليه إلّا المؤرخون أو النقاد، بعد فترة طويلة من وفاة الرجل وانقضاء عمره. ولكن بالنسبة لي كان الأمر مختلفا. لقد آمنت بنفسي، وجعلت الآخرين يؤمنون بي. كان «بيرون» شخصية رمزية، ولكنه ارتبط بشغف بعلاقات من جيله وتأثر بسخطهم العاطفي. أما أنا، كانت علاقاتي أكثر نبلا ودواما، وأوسع انتشارا.
لقد منحتني الآلهة كلّ شيء تقريبا. ولكنني غررت بنفسي وتساهلت بقضاء فترات طويلة من حياتي بلا معنى أسعى من أجله، وبلا إحساس أتعلّق به، غدوت عبثيا، مختالا من الطراز الأول، ومواكبا لآخر صيحات الأزياء. ثم أحطت نفسي بأحقر الطبائع وأردى العقليات، كنت المدمر الوحيد لعبقريتي الخاصة، ولكن الغريب أنّ ضياعي وإهداري لشبابي كان يهبني شعورا خاصا من البهجة. السأم من البقاء على القمة دائما جعلني أخطو بخطى واثقة نحو القاع السحيق، باحثا هناك عن إثارة جديدة، وأصبح انحرافي العاطفي متزامنا مع مثيله الفكري. تعاظمت الرغبة حتى غدت سقما، أو جنونا، أو كلاهما معا. وبت غير مبال بحياة الآخرين، ناهلا من غمار الملذات أينما وجدت فيها مسرتي، تناسيت أنّ بمقدور كل عمل صغير أرتكبه يوميا أن يكسبني أو أن يفقدني أخلاقي وسمعتي، لذا إن ما يرتكبه المرء سرا في غرفته سيبكي عليه نائحا على سطح منزله، لقد توقفت على أن أكون سيدا لنفسي ولم أعد مسيطرا على عاطفتي، لقد جهلتها تماما، وانصعت أمام رغباتي المجردة. فانتهيت إلى عار مريع. ولم أعد أملك سوى أمر واحد فقط، وهو الخضوع المطلق.
لقد وقعت في السجن منذ قرابة العامين. طبيعتي جلبت لي اليأس القاتل. والاستسلام للحزن المثير للرثاء، الغضب العنيف، المرارة والاحتقار. المعاناة التي تبكينا بصوت عالٍ، البؤس الذي يصرعنا بلا صوت، إحساسي بالتعاسة على نحو غبي. لقد مررت بكل مزاج ممكن من المعاناة.

فيودور دوستويفسكي (1821-1881).. مذكرات من البيت الميت
البيت الميت
كان سجننا يقع في طرف القلعة، قرب متراسها بالذات. إذا اتفق أن نظرت عبر فروج السياج إلى دنيا الله، لعلك ترى على الأقل شيئا؟ لن ترى غير طرف السماء، ومتراس ترابي عالٍ، تكسوه أعشاب طفيلية طويلة، وعلى المتراس ذهابا وإيابا، وليل نهار، يتمشى الحراس، فتفكر عندئذ أنّ سنين كاملة ستمضي، وأنت على هذا النمط بالضبط ستظل تنظر من خلال فروج السياج نفسه وترى المتراس نفسه، والحراس أنفسهم، وطرف السماء نفسه، ليست تلك السماء التي فوق السجن، بل سماء أخرى، بعيدة، وحرة.
تصوروا فناء واسعا طوله مائتا قدم، وعرضه مائة وخمسون قدما، على شكل مسدس الزوايا والأضلاع غير المنتظمة، يحيط به من كلّ جهة سياج من أوتاد طويلة، مسنّنة من أعلى، مغروزة في الأرض عميقا، ومسنود أحدها بالآخر ومشدود بعوارض قوية: ذلك هو المحيط الخارجي للسجن. وفي إحدى جهات السياج بوابة كبيرة قوية، مغلقة دائما، ومحمية دائما بالحراس ليل نهار، لا تفتح إلّا حسب الطلب، من أجل إخراج السجناء إلى العمل. وخلف هذه البوابة كان يوجد عالم مضيء، حرّ، حيث يعيش الناس طلقاء. ولكن من داخل السياج كان هذا العالم العجيب الغريب يتصور مثل حكاية خرافية. ولهذا المكان عالمه الخاص، لا يشبه شيئا، له قوانينه الخاصة، وله أزياؤه، وله عاداته وتقاليده، وثمّة بيت ميت حي، وحياة لا شبيه لها في أيّ مكان، والناس فيه ليس لهم نظير. ذلك هو الركن الخاص الذي أحاول أن أصفه.
… أعتقد أنّ كل حكومة، وكل منطقة في روسيا كان لها ما يمثلها في السجن. كان هناك أجانب، وحتى بعض المنفيين من جبال القوقاز. وكان هذا العالم كله مقسما إلى فئات مختلفة، تبعا لخطورة الجريمة وحسب مدة العقاب. وأغلب الظن أن كل الجرائم كان لها من يمثلها بين السجناء. كان سكان السجن في معظمهم يتألفون من المحكوم عليهم بالأشغال الشاقة من الفئة المدنية («المحكوم عليهم بشدة» كما يقول السجناء أنفسهم ببساطة). كانوا مجرمين محرومين تماما من حقوقهم المدنية، منبوذين من المجتمع، وموسومة وجوههم بالحديد والنار لكي تكون شاهدة باستمرار على عار الجريمة التي اقترفوها. كانوا يحبسون مدة تتراوح بين ثماني سنوات واثنتي عشرة سنة، وبعد انقضاء مدة الحكم كانوا يرسلون إلى أحد أقاليم سيبيريا بصفتهم مستوطنين…
أجل، مضى على ذلك زمن طويل. حتى ليبدو لي كأنّه حلم، أذكر يوم دخولي إلى السجن، ذات يوم ديسمبري، عند الغسق. كان السجناء عائدين من الأشغال: ويستعدون للمراقبة. ضابط صف ذو شارب كثيف فتح لي باب هذا البيت الغريب الذي كان عليّ أن أمكث فيه كثيرا من السنوات، وأن أقاسي كثيرا من الانفعالات التي ما كان بوسعي أن أكوّن فكرة حتى تقريبية لو لم أعان منها. وهكذا إذا، هل كان بإمكاني، مثلا، أن أتصور الألم الموجع والمفزع عندما لا أخلو أبدا إلى نفسي ولو لحظة طوال عشر سنين؟ أثناء العمل تحت الحراسة، وفي الثكنة مع مائتي «رفيق»، أبدا لم أكن وحيدا، أبدا، وما تبقى كان لابد أن أتعوّد عليه.
… كانت حياتنا جحيما لا يطاق.
ولكن أحدا لم يجرؤ على رفع صوته احتجاجا على أنظمة السجن الداخلية والعادات المقبولة، التي يخضعون لها طوعا أو كرها.
بعض الطباع الشرسة لم تكن تذعن إلا بصعوبة، ولكنها كانت تستسلم على أيّة حال. إنّ بعض السجناء، الذين كانوا، وهم بعد أحرار، قد تجاوزوا كل الحدود، ومدفوعين غالبا بغرورهم الأهوج إلى ارتكاب جرائم فظيعة، لاشعوريا، كما لو كانوا في حالة هذيان، والذين أرعبوا مدنا بأسرها، كان نظام سجننا يروّضهم خلال مدة قصيرة. والوافد «الجديد» الذي كان يحاول الانقياد سرعان ما يلاحظ أنّه هنا لن يدهش أحدا، فيرضخ شيئا فشيئا، ويتأقلم مع الجو العام، ويتخذ نوعا من الوقار الشخصي، الذي يقتنع به تقريبا كلّ سجين، تماما كما لو كانت تسمية السجين عنوانا للشرف.
(ت/ إدريس الملياني)
ستيفان زفايغ (1881-1942).. لاعب الشطرنج

… غرفة خاصة في فندق! قد يبدو الأمر للوهلة الأولى عملا في غاية الإنسانية، أليس صحيحا؟ ومع ذلك صدقني إن قلت لك إنّ امتناعهم عن الزجّ بنا في معسكرات باردة تعجّ بعشرات وعشرات من السجناء، وإسكاننا بدلا من ذلك في غرف منفصلة ودافئة كما لو كنّا شخصيات مهمة، كان طريقة في التعذيب تفتقد للإنسانية، كانوا يريدون تعذيبنا بطريقة أشدّ تهذيبا، لأن الضغط الذي مارسوه علينا من أجل استنطاقنا وأخذ المعلومات المنشودة، أشدّ مكرا من ضربات العصا والتعذيب الجسدي: لقد كانوا يعذبوننا بالعزلة، عزلة خالصة لا يمكن أن تخطر على بال أحد. لم نتعرّض لأيّ تعذيب جسدي… بل أسلمونا ببساطة إلى فراغ مطلق، ومن البديهي أن لا شيء في العالم يعذّب النفس البشرية أكثر من الفراغ. كانوا يحبسون كلّ واحد منّا في فراغ تام، في غرفة مقفلة بإحكام ومنفصلة تماما عن العالم الخارجي. وكنّا ندرك تماما أنّهم عوض أن يمارسوا علينا تعذيبا خارجيا بالضرب أو بتعريض أجسادنا للبرد، يلجؤون إلى أسلوب داخلي في التعذيب ليجبروننا على الاعتراف. في البداية لم تكن الغرفة الممنوحة لي مريحة في شيء، كانت تستأثر بباب وسرير وكرسي وحوض غسيل ونافذة مسيجة. لكن الباب يظل مغلقا على امتداد الليل والنهار. وكان محرّما عليّ أن أحصل على كتاب أو صحيفة أو ورقة أو قلم. ولم تكن النافذة تفتح على غير جدار عالٍ. فلم أجد حولي إلّا الفراغ، وكنت غارقا فيه كليا. لقد سلبوني ساعتي كي لا أشعر بمرور الوقت وقلمي لمنعي من الكتابة وسكيني كي لا أقطع شراييني، منعوني حتّى من مجرد الاستمتاع بتدخين سيجارة. ولم أكن ألتقي بأيّ إنسان إلّا الحارس، وكانت له أوامر بعدم الحديث إليّ ولا الإجابة عن أيّ سؤال أطرحه عليه. لم أكن أسمع أيّ صوت بشري آناء الليل وأطراف النهار. لا شيء نلقّمه حواسنا، لا العينين ولا الأذنين. لا شيء غير البقاء وحيدين ويائسين أمام ذواتنا وأجسادنا وخمسة أشياء خرساء أو أربعة: الطاولة، السرير، النافذة، حوض الغسيل. كنا نعيش مثل الغوّاص داخل غوّاصته الزجاجية الغارقة في محيط هذا الصمت المظلم، ولكن كغوّاص يشعر بأنّ الحبل الذي يربطه بالعالم قد انقطع تماما، ولاشيء يمكن أن ينتشله من هذه الأعماق الصامتة.
… استلقيت على السرير كي لا يتمكّن الحارس من مباغتتي عندما يفتح الباب، سحبت الكتاب من تحت الحزام وأنا أرتعش. وما كدت ألقي عليه نظرة حتّى صرعتني الحسرة وخيبة الأمل، وتملكني غضب شديد. فهذا الكتاب الذي انتشلته معرّضا نفسي إلى أخطار كثيرة. هذا الكتاب الذي أيقظ فيّ آمالا ملتهبة لم يكن إلّا كتيبا يشرح أحكام لعبة الشطرنج ويتضمن قائمة لمائة وخمسين مباراة خاضها لاعبون محترفون. ولو لم أكن مسجونا في غرفة مقفلة لرميت به، وأنا في قمة غضبي، من النافذة. فما الذي يمكنني فعله، بحقّ السماء، بكتاب غامض كهذا؟ صحيح أنني حاولت مثل أغلب أصدقائي حين كنت تلميذا بالمعهد، أن أتسلّى بلعب الشطرنج لقتل الملل. ولكن بم سينفعني الآن هذا الكتاب عن نظرية الشطرنج؟ وليس في وسعنا لعب الشطرنج دون شريك، بل دون رقعة شطرنج وأحجار.
… وفي ظرف ستة أيام أصبحت قادرا على لعب هذه المباراة دون ارتكاب أيّ خطأ وبعد ثمانية أيام استغنيت تماما عن فتات الخبز لأتمثل في مخيلتي الأوضاع المرسومة في الكتاب. وبعد ثمانية أيام أخرى استطعت الاستغناء عن اللحاف هو الآخر… فقد تحولت في ذهني بعد ذلك إلى مواضع حقيقية وواضحة بشكل آليّ. وكانت عملية التحويل هذه تجري كأروع ما يكون، وصرت أتمثل رقعة الشطرنج في مخيلتي بكامل أحجارها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى