سامح راشد
ثمة جديد لافت بالحرب الأوكرانية في الأسابيع الأخيرة، أن أهميتها بدأت تتراجع على قائمة أولويات الإعلام العالمي. وأخذت وسائل الإعلام تُرَحِّلُ أخبار الحرب إلى الصف الثاني، وأحيانا الثالث، في نشراتها وعناوينها الإخبارية. بل لم تعد العمليات العسكرية الكبيرة وتطورات القتال خبرا عاجلا، بما في ذلك فقدان السيطرة على المدن والمناطق المهمة من كييف إلى موسكو أو العكس. وليس من الواضح ما إذا كان هذا التراجع تجسيدا لالتفات العالم عن الأزمة برمتها، بعد تجاوز أوقاتها الصعبة والخروج من مأزق نقص الحبوب عالميا وتعطل سلاسل الإمداد في سلع استراتيجية، أم أنه مؤشر إلى أن الأزمة فقدت طبيعتها العاجلة الملحة، وصارت حربا طويلة الأمد، تضاف إلى صراعات ونزاعات مسلحة مزمنة كثيرة في بقاع أخرى من العالم.
المؤكد أن مجريات الأزمة وتطورات الحرب جعلت من العام الذي مضى منذ بدئها في فبراير 2022 عاما أوكرانيا بامتياز. أولا، بسبب الضغوط الهائلة التي ولدتها الأزمة بالفعل على دول كثيرة، وعلى التفاعلات والعلاقات بين الدول، فقد قلبت الحرب الموازين والثوابت في كل القطاعات المهمة.. الدفاع والاقتصاد والتحالفات الدولية والأوضاع الإقليمية في مناطق كثيرة. وتكفي الإشارة إلى التغيير الجذري الذي قامت به دول الشرق الأوسط في تحالفاتها التي كانت سائدة عقودا مع بعض القوى الكبرى، فخففت كثيرا من الارتماء في أحضان واشنطن، واقتربت بشكل لافت من روسيا والصين. وبالتأكيد لم تكن حرب أوكرانيا وحدها السبب في تلك التحولات، لكن على الأقل عززتها، خصوصا في ظل تذبذب مواقف واشنطن بشأن القضايا العربية وازدواجية سياساتها تجاه حلفائها العرب.
على المستوى العالمي، ورغم ما تكبدته روسيا من خسائر بسبب الحرب والأزمة التي جرجرتها إليها الولايات المتحدة وحليفاتها الغربيات، نجحت موسكو خلال ذلك العام في تأكيد قوتها وحضورها على المستوى العالمي. وظلت تباشر تحركاتها وتتبنى مواقفها المعروفة، سواء باستمرار التنسيق مع بكين أو بمواجهة تحركات حلف شمال الأطلسي وتحرشاته بها. وفي العام نفسه، تخلت الصين عن طابوهاتها التقليدية بالنأي عن القضايا السياسية والاقتصار على الجانب الاقتصادي في علاقاتها بمختلف الدول، فقامت بتدخل غير مسبوق من جانبها، واضطلعت بوساطة ناجحة بين السعودية وإيران.
في المقابل، أتاحت أزمة أوكرانيا لحكومات كثيرة التهرب من مسؤولياتها والتنصل من أخطائها بإلقاء اللوم على الحرب ومقتضياتها. وبعد مرور أكثر من عام على اندلاع الأزمة، ما زالت تلك الحكومات تتبنى الخطاب نفسه، وتحاول تعليق كل مساوئها وأخطائها الكارثية على شماعة الحرب بأوكرانيا. رغم أن أوكرانيا وروسيا والدول المنخرطة في الأزمة بشكل مباشر أقل معاناة من تلك الشعوب المغلوبة على أمرها. وهي مفارقة تدعو للتأمل، إذ يتراجع الاهتمام العالمي بالأزمة وبمجريات الحرب في أوكرانيا، فيما تصر بعض الدول على اجترار تبعاتها وإعادة إنتاج الأزمة داخليا بأشكال متعددة.
قبل عام، كان واضحا، في فترة التصعيد الإعلامي والتعبئة الغربية ضد موسكو، أن الحرب قادمة لا محالة. حيث كان واضحا إصرار الولايات المتحدة على جرجرة روسيا إلى ما تعتبره واشنطن مستنقعا أوكرانيا. وبينما كان يمكن بسهولة لبوتين تجنب الانزلاق إلى المواجهة المسلحة، إلا أنه اندفع واستجاب للتوريط الأمريكي.
في النهاية، بات واضحا أنها حرب كاشفة وليست منشئة. كاشفة لنواقص ونقاط ضعف بعض القوى الكبرى في العالم، وكاشفة أيضا اختلالات ومشكلات كثيرة وجوهرية تعاني منها دول أخرى. نعم، إنها حرب فاصلة في تاريخ العالم. وتنطبق عليها بدقة مقولة إن الجميع يعلم كيف تبدأ الحرب، لكن لا أحد يعرف كيف تنتهي.