كانوا صحافيين مراسلون ومتعاونون أصبحوا وزراء وقياديين
منذ انتهاء الولاية القانونية للمجلس الوطني للصحافة في المغرب، يدور جدل واسع حول تجديد هياكله، قبل أن تتجه الحكومة إلى إحداث لجنة مؤقتة لتسيير شؤون قطاع الصحافة والنشر، خاصة بعد نشر غسيل هذه الهيئة في الصحافة الأجنبية بعد تجربة أولى أظهرت أعطابا وانقسامات حادة بين مكوناتها، تنذر بفشل تجربة التنظيم الذاتي لقطاع الصحافة في المغرب.
في ظل هذا الوضع، أصبح الجميع يحن إلى زمن كانت الكتابة الصحفية جسرا من جسور الوجاهة، حيث تخلص العديد من الصحافيين من صفة زميل ووضعوا القرطاس والقلم في دولاب للحفظ، وتسلقوا سلالم المجد مع ما يرافقها من ألقاب فخرية تضعهم في منزلة أخرى تلغي مقولة «مهنة المتاعب»، التي لازمت مسارهم المهني في درب الصحافة.
في السابق، كان منصب وزير للأنباء أو الإعلام محجوزا للصحافيين، لكن شرط الاشتغال في قطاع الصحافة لا يكفي لنيل حقيبة وزارية، بل لا بد من الصفة السياسية والتزكية الحزبية لتصبح وزيرا متخلصا من ضغط الإصدار ومخاطر المهنة التي أصبحت لها طريق سالكة نحو القضاء. بعد سنوات الإبحار الشاق في عالم الصحافة، والسباحة في الحبر الأسود، تتغير الأحوال حين يتعدى الصحافي عتبة الوزارة، ويصبح وزيرا كامل الأوصاف لا يقبل بيانات حقيقة.
في كثير من الدول قفز مجموعة من الصحافيين نحو كراسي الوجاهة السياسية، أبرزهم محمد حسنين هيكل المصري، الذي كانت بدايته مراسلا حربيا لتغطية المعارك، قبل أن يصبح الناطق الرسمي للرئيس المصري السابق جمال عبد الناصر.
أحمد العلوي.. مراسل «العلم» في فرنسا يصبح وزيرا للإعلام
يصفه المؤرخون والسياسيون على حد سواء بالوزير الدائم، في حين يصفه الصحافيون بالصحافي الدائم أيضا، لأنه قضى الجزء الأكبر من عمره على رأس مؤسسة إعلامية مخزنية من قبيل «ماروك سوار»، بجميع أطيافها.
عايش العلوي الملوك الثلاثة، ذهب إلى فرنسا لدراسة الطب لكن السياسة استهوته منذ أن كان مراسلا لجريدة «العلم» من باريس، بعد أن حجز لنفسه مكانة في وسط الجالية المغاربية لعلاقته العائلية مع المحيط الملكي.
يعد أحمد العلوي واحدا من أوائل الشباب المغاربة، الذين ولجوا أقسام المدارس الفرنسية بفاس مبكرا، ثم انتقل إلى عاصمة الأنوار باريس، لدراسة الطب، لكنه لم يذهب حتى آخر المشوار، حيث جذبته أضواء السياسة والصحافة، في بداية العقد الرابع من القرن العشرين، وبالتحديد عند بداية الحرب العالمية الثانية.
كما شهد مفاوضات «إيكس ليبان» والتقى بزعماء الحركة الوطنية، وكان مراسل جريدة «العلم» بفرنسا لنقل وقائع المفاوضات المذكورة، في سبق إعلامي وتاريخي.
ابتلي أحمد بحب الصحافة، وكان يعشق منصب وزير للإعلام ورغم الاستوزار ظل الرجل حريصا على كتابة عمود في جريدة «لومتان»، بل إنه تحول إلى ناطق «غير رسمي» للقصر، ويردد المقربون منه حكاية طريفة تعود لشهر ماي 1960، حين كان العلوي مكلفا بعرض أسماء الوزراء المرشحين لدخول الحكومة، ولما اكتشف أنه غير موجود ضمن اللائحة، لم يتردد في إضافة اسمه إلى قائمة الاستوزار كوزير للإعلام.
وحين عاد إلى المغرب عين وزيرا للأنباء والسياحة وأضيفت لاختصاصاته الفنون الجميلة، وظل وزيرا للدولة من غشت 1983 إلى غاية تسعينات القرن الماضي، ضمن الحكومة الثالثة والعشرين، ثلاث سنوات من «الشوماج» الوزاري المؤدى عنه.
لا يجد له الملك قطاعا على مقاسه يضعه في خانة وزراء الدولة الذين لا حقائب لهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لقد ظل الرجل اسما مرعبا للوزراء ورجال السلطة والصحافيين، بعد أن استمد سلطته من قرابته من محيط الأسرة الملكية، إذ كان مساعدا للملك الراحل محمد الخامس، وحين خلفه ولي عهده ظل أحمد محافظا على نفس الموقع ولم يتأثر بانتقال السلطة.
حين عينه الحسن الثاني اعتقد الكثيرون أن التعيين مجرد جبر للخواطر، لكن الرجل كشف في إحدى افتتاحياته أسباب نزول القرار وتحدث عن مساره التعليمي وشهاداته في مجال الإعلام. كما فند الأقاويل التي تحدثت عن وجود قلم فرنسي يخط كل صباح «الافتتاحية» كي يذيلها توقيع مولاي أحمد العلوي، الذي ظل يوظف كتاباته للتصدي لكل من يعادي النظام، حتى عرف في الوسط الصحافي بالإعلامي الذي يكتب مرافعات ترسم الخط التحريري للمؤسسة الإعلامية.
الخلفي وصقور «البيجيدي».. من «الراية» إلى «التجديد» إلى الوزارات
بدأت علاقة مصطفى الخلفي بالإعلام حين كان مكلفا بصياغة بيانات الحركة الطلابية التي كان من روادها، خاصة تلك التي تحمل مرجعية إسلامية، وهو حينها مجرد تلميذ خاصة خلال الغزو الأمريكي للعراق، ناطقا لفصيل الطلبة التجديديين، المحسوب على حركة الإصلاح والتجديد.
حين حصل الخلفي على شهادة الباكلوريا شعبة العلوم الرياضية، تخصص فيزياء سنة 1995 بكلية العلوم في القنيطرة، كما حصل على إجازات أخرى في العلوم السياسية، وفي هذه الفترة اشتغل كمتعاون في جريدة «الراية» سنة 1998، قبل أن يصبح رئيسا للقسم الوطني في صحيفة «التجديد» منذ نونبر 2001، ثم رئيسا للتحرير قبل أن يتولى إدارة نشرها سنة 2008، باعتبارها الذراع الإعلامي لحزب العدالة والتنمية، مرورا بالكتابة الجهوية للحزب في القنيطرة، وهو ما أهله للعضوية في مكتب فيدرالية الناشرين. وحين صعد حزبه إلى السلطة كان أبرز المرشحين لمنصب وزير الاتصال.
على مستوى التموقع السياسي والفكري فالتجديد كانت تصدرها حركة التوحيد والإصلاح المغربية، وهي هيئة دعوية وتربوية تأسست سنة 1996 تتويجا لعملية توحيد بين حركتين إسلاميتين، وهي بذلك تجسد وحدة الحركتين على المستوى الإعلامي، إذ ورثت كلا من جريدة «الراية» التي تصدرها حركة الإصلاح والتجديد وجريدة «الصحوة» التي تصدرها رابطة المستقبل الإسلامي. وهي بذلك تمثل إرثا لتجربة إعلامية تمتد جذورها إلى منتصف الثمانينات.
تناوب على إدارة نشر جريدة «التجديد» شخصيات أصبحت فاعلة في الساحة العلمية والسياسية والدينية، وكانت البداية مع العالم أحمد الريسوني الرئيس السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ثم سعد لوديي عضو ديوان وزير الاتصال الأسبق مصطفى الخلفي، وقد كان من أبرز من تحملوا مسؤولية إدارة الجريدة عبد الإله بن كيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية سابقا ورئيس الحكومة السابق. كما تولى إدارة نشر «التجديد» الرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح محمد الحمداوي، إلى جانب القيادي بحزب العدالة والتنمية، محمد يتيم.
عبد الله إبراهيم.. مدرس وسياسي ومراسل ووزير
بدأ عبد الله إبراهيم مساره مدرسا ومتعاونا ببعض الصحف، قبل أن يصل إلى منصب الوزير الأول نهاية سنة 1958. فالبداية كانت في مراكش، عندما عاصر تبعات الظهير البربري والمواجهات مع مخازنية الباشا الكلاوي، ليجرب الاعتقال السياسي لأول مرة تليها مرات أخرى، تجاوزت ثمانية اعتقالات، قبل أن يستقر به الحال في كرسي الوزارة الأولى، بعد أن أصبح قياديا بارزا في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.
تأرجح في البداية بين حزبي الاستقلال والشورى والاستقلال من خلال أنشطته في الكتلة التي سعى بلافريج إلى حثه على الانضمام إليها، ولم يكن الأخير يعلم أن الحياة تحمل لهما معا الكثير من المفاجآت، لأن عبد الله إبراهيم سيقود حملة معارضة كبيرة وشرسة ضد حكومة بلافريج، نهاية الخمسينات.
بدأ عبد الله إبراهيم في كتابة المقالات التي حفرت اسمه بقوة في الساحة، قبل أن يطلب الزعماء السياسيون انضمامه كشاب يمكن الاستفادة من حيويته السياسية لاحقا، خصوصا وأن سنوات الأربعينات والثلاثينات شهدت أحداثا كثيرة، جرته إلى الاعتقال مجددا.
حيرت كتاباته الاستعمار الفرنسي رغم أنه كان يحرص على التوقيع باسم مستعار، لكنه سيغادر إلى فرنسا للدراسة، وهناك سيضيف إلى سيرته بعض نقاط القوة التي سيلعب بها لاحقا في الساحة السياسية، وهي التي ستوصله إلى منصب الوزير الأول، بعد أن كان وزيرا في الحكومة التي قبلها، وبدأ يستأنس بالعمل الوزاري.
في حزب الاستقلال، سيتعلم عبد الله إبراهيم أولى قواعد عقد اللقاءات، خصوصا في سنوات الأزمة نهاية الأربعينات، وإلى أن جاءت مرحلة نفي محمد الخامس، وفي الانشقاق الشهير الذي قاده المهدي بن بركة لتأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، سيكون عبد الله إبراهيم على موعد مع أولى المتاعب السياسية في مساره، لأن الانضمام إلى حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، كان سببا في ابتعاده عن دائرة القرار التي ضاقت أكثر حتى لا تستوعب رجلا مثله.
خلال هذا التحول السياسي، آمن عبد الله إبراهيم بأهمية الإعلام، فكون خلية إعلامية عهد إليها بدعم هذا المولود الذي انفصل عن حزب الاستقلال، وكانت مقالاته تغضب زملاءه السابقين في درب النضال السياسي، خاصة وأن قلمه تحول إلى سهم يضرب في العمق مواقع أول حكومة بعد استقلال المغرب، ولم يرض حتى بعد التعديل الحكومي الأول. وبعد مجيء حكومة بلافريج، كان عبد الله إبراهيم، يلعب في ملعب آخر، كاتحادي هذه المرة، ليسقط بلافريج، بعد أن قال لبعض مقربيه إنه لم يكن يريد أن يحصل على وزارة مع بلافريج، في الوقت الذي كان يقال إن عبد الله إبراهيم كان يقود حملته المعارضة للحكومة بشراسة، فقط لأن بلافريج تحفظ على استوزاره.
هكذا سمحت الظروف بوصوله إلى منصب الوزير الأول، في وقت كانت فيه الدولة تتوجس من الاتحاديين، خصوصا أن نهاية ولايته التي لم تستمر أزيد من سنة ونصف السنة تقريبا، شهدت أحداث تضييق على الاتحاديين، لم تكن في صالح عبد الله إبراهيم الذي احترق سريعا فوق كرسي الوزارة، ولم يعد للجلوس عليه مرة أخرى، رغم أن البعض توقعوا له عندما أصبح وزيرا أول، أن يبقى كذلك لفترة ما، خصوصا أنه كان يلازم الملك محمد الخامس.
جريدة «الرأي العام».. شرفة بن سودة وبوطالب على الملك
مباشرة بعد ميلاد حزب الشورى والاستقلال، في النصف الثاني من ثلاثينات القرن الماضي، شرع مؤسسه محمد بن الحسن الوزاني، في وضع اللبنات الأولى لإنشاء جريدة تكون بمثابة لسان حال الحزب، اختار لها اسم «الرأي العام»، وجعل من الدار البيضاء مقرا لها وأسند إدارة تحريرها لأحمد بن سودة، وبعد سنوات من المخاض خرج إلى الوجود العدد الأول من الصحيفة، وتحديدا يوم الأربعاء 6 أبريل 1947.
قال الأمين العام للحزب في أول اجتماع مع مناضلي التنظيم، إن الصحيفة يعول عليها «لترجمة الأفكار التحررية التي نحملها والتي تشبعنا بها في فرنسا»، فهم المناضلون، الذين تحولوا إلى صحافيين الرسالة جيدا وعملوا إلى تكريس سياسة البيع النضالي وفق مخطط وضعه أحمد بن سودة. واعتبرت «الرأي العام» بمثابة صوت الأغلبية الصامتة، التي لا تدين بالولاء لحزب الاستقلال.
في ظل هذا السجال الإعلامي، صودرت صحيفة «الرأي العام»، في أكثر من مناسبة، والغريب أن المنع تم بعد حصول المغرب على الاستقلال وليس أثناء الحماية الفرنسية، وهو ما يتحدث عنه عبد الهادي بوطالب في مذكراته، وهو أيضا كاتب عمود رأي بعنوان (هذه سبيلي) في ذات الصحيفة التي ينتمي إلى لونها السياسي.
«كانت الشرطة تداهم مقر جريدتي«الرأي العام» الصادرة بالعربية و«الديمقراطية» الصادرة بالفرنسية بشارع دانطون بالدار البيضاء، ودخلت قوات الشرطة والقوات المساعدة التابعة لوزارة الداخلية إلى مكاتب صحافة الحزب فأخرجتنا بالقوة جميعا ومن بيننا الوزاني وأحمد بن سودة، وهيئة تحرير الجريدة وأيادينا مرفوعة».
كان ابن سودة عنيدا في مواقفه الوطنية، سليط اللسان، حاد الأسلوب في الكتابة، مما سبب إزعاجا مستمرا للمحتل الفرنسي، فأذاق بنسودة ألوانا من العذاب، وسلط عليه أساليب المحن وشتى المضايقات، كما يقول بوطالب. لكنه تحول من صانع للرأي العام إلى صانع للقرار ، إذ تقلد العديد من المناصب السياسية بالرغم من معارضة الاستقلاليين، وانتهى به المطاف مستشارا للملك الحسن الثاني، علما أنه كان أول وزير للشبيبة والرياضة بعد الاستقلال، ناهيك عن مناصب أخرى في دائرة القصر وفي ملف الصحراء.
محمد الطنجاوي.. شاعر ومتعاون صحافي ومدير ديوان وزير الأنباء
ولد محمد الطنجاوي في مدينة تطوان، في منتصف الثلاثينات من القرن الماضي، عرف بموهبته الشعرية المبكرة كشاعر موهوب، وحين اشتد عوده غادر مسقط رأسه ليستقر بالعاصمة الرباط، ويشتغل «منتجا» بدار الإذاعة المغربية، قبل أن تجرفه الصحافة المكتوبة ويصبح متعاونا في تحرير جريدتي العلم والرأي العام والصحراء المغربية، والتي تعرف من خلالها على القادة السياسيين الذين طبعوا هذه الفترة بعطاءاتهم الفكرية، على غرار علال الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني وأحمد بن سودة ثم عبد الهادي بوطالب.
كان الطنجاوي متعاطفا مع حزب الشورى والاستقرار، ولكن انتقاله إلى مدينة الدار البيضاء قربه مهنيا من صحيفة التحرير، لسان حال حزب بن بركة، هناك أصبح مقربا من الفقيه محمد البصري، ورفاقه عبد الرحمان اليوسفي والعابد الجابري، وغيرهم من الأسماء التي كانت تغضب القصر وخاصة الحسن الثاني.
ولأن الصحافة الحزبية في تلك الفترة، كانت مصدر انزعاج للنظام الحاكم، لدورها في توجيه وصناعة رأي عام متمرد، إلا أن سفره في هذه الفترة إلى القاهرة، من أجل التكوين أبعده نسبيا عن منظار البوليس السياسي، فطال مقامه في أرض الكنانة حيث قضى قرابة عامين ونصف إلى أن سقط من مفكرة المخبرين الذين لطالما أخذوا عينات من حبر قلمه وأخضعوها للتحليلات.
بمجرد عودته إلى المغرب، عينه الحسن الثاني مسؤولا عن جريدة «الأنباء»، الصحيفة الرسمية للحكومة، مع توصية بجعلها منبرا يصالح المغاربة مع خطب الملك، ويدفعهم إلى صرف النظر عن الإعلام الحزبي. منح له الحسن الثاني صلاحية استقطاب أقلام كانت تعمل في السابق بصحف تقدمية، إلا أن هذا الخيار لم يكن كافيا لتحقيق إقلاع إعلامي بصحيفة صنعتها السلطة ومنحت لها هامشا صغيرا للحرية، سيما في ظل خط تحريري صارم.
غادر الطنجاوي صحيفة «الأنباء»، وانتقل إلى جريدة «الميثاق الوطني»، قبل أن ينتقل إلى ديوان أحمد بن سودة مستشار الحسن الثاني، بموافقة من الملك هناك قرر التفرغ إلى كتابة القصيدة، ومتابعة الملفات السياسية والاجتماعية والثقافية التي كانت تهم الديوان الملكي والسياسات المغربية في تلك المرحلة.
يقول الكاتب محمد بوخزار، إن الطنجاوي «اختار الاهتمام بالشعر الغنائي، وسيحقق من خلاله مجدا شعريا وفنيا، من خلال تأليفه مجموعة من الأغاني العاطفية والوطنية الناجحة، كما جمعه لقاء بمحمد عبد الوهاب، الذي لبى دعوة العاهل المغربي الراحل ليشارك المغاربة احتفالهم بذكرى عيد الشباب، فاستأنف كتابة الشعر من دون أن ينشر إلا القليل منه في الصحف، ووصفه بعض رفاق الأمس بـ «شاعر البلاط».
بروكسي.. من موزع جرائد إلى مراسل ثم مستشار للبصري
في مذكراته: «حياتي..الحسن الثاني، إدريس البصري وأنا»، يتناول لحسن بروكسي أشهر مستشاري أقوى وزير للداخلية، أولى علاقاته بالصحافة وكانت من ليون الفرنسية فيقول: «وصلت إلى مدينة ليون الفرنسية عبر رحلة جوية، كنت سعيدا باكتشاف عوالم جديدة، والتعرف على البلد الذي أنجب مفكرين كبار لطالما استمتعنا بإبداعاتهم، كفولتير وروسو وليون بلوم وغيرهم من فطاحلة الفكر الإنساني.
استقبلني مولاي ادريس عرشان وكان برفقة بومهدي، قدما لي نصائح كثيرة اعتبرتها خارطة الطريق في رحلتي الجديدة، قبل أن يخضعاني لتدريب في التحمل، كشفت عن قدرتي على التأقلم مع المحيط الغربي وأنا البدوي القادم من روابي تيداس، ولأن تكاليف الحياة في فرنسا مرتفعة فإن المنحة الهزيلة التي كان يرسلها لي والدي كل شهر أصبحت تستفزني، لكن ما باليد حيلة».
بعد حداد في أنحاء ليون بسبب وفاة محمد الخامس، عاد إلى الكلية لاستئناف مشواره الدراسي بعد توقف اضطراري أملته حالة الحداد، قرر الاستمرار في «حرث» الحقول الخصبة للقانون الاجتماعي والضريبي والاقتصاد وغيرها من التخصصات المندمجة، وبموازاة مع ذلك شرع في كتابات مقالات حول السلطان الراحل نشرها في مجلة الكلية. ما جعل الأستاذ كادار مدرس مادة القانون الدستوري وكان دوره مؤثرا في حياة لحسن، يشجعه خاصة بعد أن حصد ابن تيداس جوائز مسابقة فصلية حول قضية تشكل الحدث في أوساط المفكرين، ومن حسن حظي أن موضوع الديمقراطية كان هو جوهر المسابقة التي تنافست الأقلام والعقول حولها، ولأنني من العارفين بتاريخ الحضارة اليونانية والرومانية، «وجدت متعة في صياغة الموضوع وعلى امتداد ست ساعات كنت أغوص في بحر الفكر الإغريقي والحضارات البائدة لأبحث عن ديمقراطياتها، بعد فترة طلب المدرس من الجميع الصمت وقال بنبرة قوية «عذرا للاستعمار بعض الأشياء الجميلة المرتبة الأولى من نصيب الطالب بروكسي»، شعرت وكأن قلمي قد ساعدني على الاندماج في المحيط الجديد، وبفضل هذا الإنجاز كسبت صداقات جديدة فتلقيت دعوات لجلسات في المقاهي وانتبه البعض لوضعي المادي المتدهور فاقترح علي العمل كموزع لصحيفة «مساء ليون» المحلية في الفترة ما بين الرابعة والسادسة مساء، قبل أن أكتب مقالات في الجريدة ذاتها، وأشتغل كمياوم في بلدية المدينة، لكن هذه الانشغالات أعادتني من جديد إلى الواجهة السياسية وربطت الاتصال مجددا مع الرفاق في الاتحاد الوطني لطلبة فرنسا».
ميشال أنطوان مازيلا.. النقابي الذي تحول إلى صحافي
في الموقع الرسمي لوزارة الدفاع الفرنسية تجد اسم ميشال أنطوان مازيلا في لائحة شهداء فرنسا، رغم أن عبوره في جيش بلده كان بصفته مراسلا حربيا، وفي كثير من الندوات حول تاريخ الصحافة المكتوبة كان اسمه يتردد بقوة كواحد من سفراء القلم إلى الجزائر والمغرب.
ولد أنطوان مازيلا في مدينة وهران الجزائرية عام 1912، من أبوين فرنسيين يعملان في مصالح إدارية بالمدينة الجزائرية، خضع للتجنيد الإجباري في الجزائر قبل أن يرحل إلى المغرب ليشتغل في مجال الصحافة كمراسل أول لمجموعة من الصحف الجزائرية اليسارية ومحرر ثانيا في جريدة «لوبوتي ماروكان»، وحين اندلعت الحرب العالمية الثانية تحول إلى مراسل حربي ينقل الأخبار من جبهات القتال في إيطاليا كما اشتغل لفترة قصيرة في تونس.
بعد أن وضعت الحرب أوزارها عاد ميشال إلى المغرب لينضم إلى تنظيم نقابي «الكونفدرالية العامة للشغل»، ويقرر استبدال مهنة المتاعب بمهنة أخرى لا تقل عن سابقتها أوجاعا ومحنا. دخوله للعمل النقابي لم يدم طويلا حيث تلقى مقترحا بالعودة إلى الصحافة المكتوبة كرئيس تحرير لصحيفة «ماروك بريس»، التي كانت في ملكية الفرنسي لوميغر دوبروي، صاحب شركة لوسيور، ابتداء من سنة 1954.
يتحدث الباحث المغربي عبد الرحمن زحل عن معاناة مازيلا خلال اشتغاله كرئيس تحرير لصحيفة معارضة للتوجه الاستعماري، «وجد الصحفي نفسه رئيس تحرير في مقاولة جديدة، وكان يريد التخلص من معاناته حين كان محررا في جريدة «لوبوتي ماروكان».
يتذكر مازيلا معاناته وما جلبت له كتاباته من عداء: «في 11 أكتوبر1954 كنت في طريق عودتي رفقة الزعماء الوطنيين المغاربة المفرج عنهم في تلك الآونة، وكنت أقصد بيتي، بعد أن مررت بالصحيفة لأعيد قراءة آخر المسودات. وبعد ساعتين، أي في الواحدة صباحا. شرع إرهابيون في إلقاء قنبلة لتنفجر في شرفتي، وترتمي شظاياها في الشقة، وفي الحجرة حيث ينام الأطفال، وقد نجت بناتي من الموت بأعجوبة. وأراني وزوجتي التي كنت أعهدها شجاعة، كيف يعجزها الغضب وهي ترى أبناءنا الثلاثة فزعين يبكون، فيما الشرطة تجتاح الشقة لكي «تفتح تحقيقا»، وكأنها كانت تجهل بهوية الفرنسيين الجناة».
الحملة استهدفت أقلاما أخرى، صنفت في خانة «أصدقاء الحركة الوطنية»، ففي مساء يوم السبت 11 يونيو 1955، قتل جاك لوميكر مالك الجريدة، قرب مسكنه في عمارة الحرية بالدار البيضاء، بالمكان الذي أصبح يحمل اسمه، تمت تصفيته برصاص فرنسي متطرف.
حين نال المغرب استقلاله، قرر أنطوان القطع مع مهنة المتاعب، وعاد إلى فرنسا رفقة أفراد أسرته، قبل أن يتلقى عرضا من صديقه النقابي المحجوب بن الصديق بالعمل في المغرب كمشرف على المكتب الشريف للاستغلال المعدني، وهي المهمة التي جعلت الصحفي يغير جلده بعد أن قضى فيها أربعة عشر سنة.
في 28 أبريل 2014 توفي أنطون تاركا وراءه مكتبة حبلى بالمستندات التاريخية، وفوقها صورة لمحمد الخامس.
صاحب عمود «عين العقل» يعلن وصايته على الثقافة والإعلام
عرف محمد الأشعري، ابن مدينة زرهون، بميله إلى الأدب وخاصة الشعر والرواية، قبل أن يشعر بميولات سياسية بدأت تظهر بشكل بارز خلال ارتباطه بجريدة «المحرر» وبعدها الاتحاد الاشتراكي، كان يقضي وقته في قراءة صفحات الثقافة والفكر، قبل أن يبسط نفوذه على الصفحة السياسية، علما أنه كان أقرب إلى صحافة المجلات الأدبية، بل كان يدير مجلة «آفاق» ويشتغل صحافيا في جريدة الاتحاد الاشتراكي، رغم أنه ليس خريج كلية الآداب والعلوم الإنسانية بل خريج كلية الحقوق.
من متعاون إلى مراسل إلى رئيس للصفحة، إلى أن أصبح مديرا لمكتب الرباط واشتهر بعموده «عين العقل» في الصفحة الأولى من الاتحاد الاشتراكي.
يقول زملاء عايشوا بدايات الأشعري إنه بدأ عاشقا للشعر متيما بالقوافي، مصرا على نشر ديوانه الأول سنة 1978، دون أن يعلم أنه ذات يوم سيصرف النظر عن كتابة الأشعار وجمعها في ديوان، بعد أن أصبح وزيرا لا يمكن رؤيته إلا بعد العبور من مكتب ديوانه، بعد أن تولى منصب وزير الثقافة في حكومة رئيس الوزراء عبد الرحمن اليوسفي وأضيفت له حقيبة الاتصال مع زميله الاتحادي، وظل وزيرا للثقافة في حكومة خلفه إدريس جطو، إلا أن الأشعري لا يتردد في الإعراب عن ندمه للمشاركة في حكومة جطو. لكن الاعتراف جاء متأخرا.
ظل الحسن الثاني يستحضر قصيدة الأشعري الشهيرة عن الدار البيضاء في الثمانينات والتي أثارت غضب الملك الراحل. ولولا الحفاظ على توازنات الاتحاد، بالنظر إلى أن الأشعري كان يحسب على تيار اليازغي، لسقط من تشكيلة حكومة التناوب، على الرغم من أنه كان قد اشترى كل إكسسوارات الحقيبة الوزارية، واختار أن ينتقل إلى بيت اليازغي لكي يرافقه يوم تنصيب الحكومة.
المكي الناصري.. معلم وواعظ وصحافي ووزير للأوقاف
ولد محمد المكي الناصري في يوم 11 دجنبر عام 1906 بالرباط، وتلقى دراسته الأولى بمعاهد العاصمة، وانتقل طلبا للعلم وتتميم دراسته في الخارج، وخلال دراسته الجامعية سنة 1932 تخصص في الثقافة الإسلامية العربية، وفي فروع الفلسفة والاجتماع بكلية الآداب بجامعة باريس، وفي مادة القانون الدولي العام بكلية الحقوق بجامعة جنيف، حيث كان يعمل كاتبا خاصا لأمير البيان شكيب أرسلان أثناء إقامته بسويسرا، ومنه تعلم أصول وقواعد العمل الصحفي. ومن هناك شرع في كتابة مساهمات أدبية لصحف ومجلات عربية.
رغم حضوره القوي في المشهد الطلابي في الغرب، إلا أنه ترأس عدة بعثات طلابية إلى الشرق الأوسط حيث كان عضوا مؤسسا وعاملا في لجنة تحرير المغرب العربي التي أنشأها محمد عبد الكريم الخطابي في القاهرة، وعين عضوا في الوفد الذي قام بتمثيل المغرب ورفع شكواه والدفاع عن قضيته لدى جامعة الدول العربية وهيئة الأمم المتحدة من سنة 1951 – 1955، وقيل إنه هو من كتب الشكوى، لأنه كان يمتلك أسلوب خطابة رائع.
تمرد على صفة المراسل وأسس عدة صحف ومجلات وطنية وعلمية وأدبية ك»المغرب الجديد»، و»الوحدة» التي كانت تتناول عدة مواضيع، وله عدة أبحاث ودراسات علمية وأدبية، دون أن يتخلى عن أشعاره وقصائده الوطنية والأخلاقية والاجتماعية.
حين عاد إلى المغرب انشغل بالصحافة والتربية والتعليم، حيث كان مدرسا في مدينة تطوان، وتحديدا في المدرسة الأهلية، التي كانت لها فروع في جل مدن المنطقة الشمالية كالعرائش والقصر الكبير وشفشاون، لذا خصص حصصا لتلاميذها، حيث كان يقطع المسافات من تطوان إلى ضواحيها من أجل رسالة معلم يتقاضى راتبا لا يكفيه في تنقلاته للمدارس الفرعية قبل أن يصبح مفتشا بنفس المؤسسة ومشرفا إداريا عليها.
موازاة مع مهامه، كمرب للأجيال، اشتغل الناصري طويلا في العمل الجمعوي، وكتلة العمل الوطني على الخصوص، التي كانت أول هيئة وطنية سياسية تأسست بالمغرب سنة 1925، كما كان مندوبا وممثلا لجمعية الطلبة المسلمين في شمال إفريقيا بالمغرب في منتصف الثلاثينات. أصدر الناصري جريدة «الشعب»، باسم حزب الوحدة والاستقلال، وظهر أول عدد منها في طنجة يوم السبت 6 يوليوز 1952، لكنها لم تستمر.
تقلد المكي الناصري مناصب سامية في الحكومة، حيث سيعين وزيرا للأوقاف والشؤون الإسلامية والثقافية في نونبر 1972 في حكومة أحمد عصمان، التي تلت المحاولة الانقلابية التي استهدفت الملك الحسن الثاني، وجاء تعيينه خلفا لأحمد بركاش في الأوقاف والدكتور الحبيب الفهري في الثقافة.