كالجسد الواحد
على مر الأزمنة كان البحث الدؤوب عن السعادة وما يستوجبها، هَم الإنسان الأول وهاجسه الذي لا ينفك يبحث عنه ولا يتورع في طلبه، منذ سنوات حياته الأولى حتى يفترش الأرض قبرا له.
تفلسف الإنسان وتأمل وبحث وفكر لكي يستجلي كنه هذه الفاتنة التي جننته، ويتملك سرها الذي طالما كان منيته من أجل حياة جيدة.. تساءل عن إن كان فعلا للسعادة وجود، أم أنها مجرد وهم تعلق به البسطاء والمساكين وتاه في البحث عنه الحمقى والمغفلون؟!
جعل البعض سعادته في اكتناز أكبر ثروة ممكنة، وجمع المليارات وتخزينها وتكديسها، فظن أنه تَملك زمام سعادته وهناه، لكنه ما فطن أن كل تلك القناطير المقنطرة لا تعدو أن تكون وسيلة لعيش مرفه، وليست سببا في سعادة دائمة، فنرى الأثرياء يُنهون حياتهم بطرق بشعة، منهم من ينصب لنفسه مشنقة وسط قصره. ومنهم من يبتلع علبة أقراص طبية ليمنح قلبه إجازة مطولة، لتكون بذلك ثرواتهم مصدرا لشقائهم وسببا في كآبتهم القاتلة. وهناك من خيل له أن الشهرة هي الموجب الأساسي للسعادة، فبذل أقصى جهده ليصبح نجما لامعا ترفع صوره فوق الأكتاف، ويغمى على المعجبين بمجرد رؤيته.. فاعتقد، وهو الواهم، أنه كلما ذاع صيته عظمت سعادته، والحال أن أجمل شهيرات العالم أنهت حياتها في غرفة فندق بعد أن تناولت جرعات قاتلة من مضادات الاكتئاب، فلماذا لم تنفعها شهرتها في طرد شبح الشقاء واستجلاب عفريت السعادة والراحة والهناء؟!
والبعض ظن أن السعادة في الفوز بقلب فتاة ساحرة الجمال، والآخر آمن بأنها تحقيق طموحه وبلوغ المنصب الذي تهفو نفسه إليه.. وآخرون صرحوا بأن السعادة لا يمكن أن تحصل في هذه الدنيا وإنما خصصت للحياة ما بعد الموت، فكانت ثمرة الشقاء الدنيوي عندهم.
في جامعة «هارفارد» قام فريق من الباحثين، على مدى 75 سنة، بدراسة تعتبر من أطول الدراسات في تاريخ البحوث، تعاقبت خلالها أفواج من الدارسين والمختصين، قاموا أثناءها باقتفاء حياة مجموعة من الناس طيلة هذه المدة، منذ طفولتهم، مراهقتهم، شبابهم، كهولتهم، شيخوختهم وأحيانا موتهم.. تتبعوا تقدمهم بالسن، بالتجربة، بالعمل، زواجهم، أطفالهم.
ما توصلت له هذه الدراسة كان بالفعل مثيرا للغاية، فقد أجمع كبار المراقبين والمختصين على أن السعادة لا يمنحها مال ولا شهرة، ولا علم ولا منصب، ولا سفر.. وإنما فقط علاقات اجتماعية جيدة ! نعم، هذا ما خلصوا إليه: كلما كانت علاقة الشخص بمحيطه، عائلته، أقربائه، أصدقائه، جيدة وبدون مشاكل ومشاحنات، كانت حياته أسعد.. وحتى على المستوى العضوي، تبين أن أصحاب العلاقات الجيدة هم أقل عرضة للإصابة بالأمراض مقارنة بغيرهم. ولا يشمل ذلك كثرة العلاقات وإنما جودتها ولو كانت مع شخص واحد.
كل هذا ذكرني بحديث كنا نردده صغارا في خصص التربية الإسلامية، «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالمرض والحمى».. فلعل محبتك ومودتك وحسن معاشرتك للآخرين هي سبب نجاتك من حياة شقية ضنكا، وهي مفتاحك لكون رحب من السعادة والهناء والصحة.