قيس سعيّد وخطبه إلى التونسيين
محمد كريشان
كيف يخاطب السياسيون شعوبهم في أوقات الأزمات الكبرى؟ وكيف يصلون إلى عقولهم وقلوبهم فيبعثون في نفوسهم الطمأنينة في زمن القلق والهلع؟
الرئيس التونسي قيس سعيّد، ككل الرؤساء والملوك في العالم، وجد نفسه يتوجه إلى شعبه ليس في إطار حملة انتخابية ولا بعد انتصار في الرئاسيات ولا للتهنئة بالعيد، وإنما في أوج أخطر أزمة عرفتها بلاده والعالم في العقود الماضية، فكان أن واجه عاصفة حادة من الانتقادات.
تركزت الانتقادات على مجمل الخطاب شكلا ومضمونا، لكنها انصبت بالخصوص على استعماله اللغة العربية الفصحى بمزاج جاد متخشب يشبه أساليب المتحدثين العسكريين، أو مذيعي «صوت العرب» في حروب الستينيات، مع كثير من الجمل الشعاراتية التي لا يتحملها الموقف. لم تكن هناك أي تضاريس في الكلام، لا عفوية أو حميمية في التواصل مع أناس في أمس الحاجة لمن يتبسّط معهم وكأنه يجالسهم في بيوتهم.
فن الحديث إلى الجمهور هو بالنسبة للسياسيين موهبة في المقام الأول ثم مران على تقنياته على يد مدربين مختصين، من دون أن نغفل أن للتونسيين مزاجا قاسيا في الحكم فلا يتقبلون أو يستسيغون أيا كان بسهولة.
رئيسان تونسيان فقط نجحا بامتياز في هذا المضمار هما الراحلان الحبيب بورقيبة والباجي قايد السبسي، فيما لم يكن للراحل زين العابدين بن علي هذه الملكة لكنه كان واعيا بها ولهذا كان مقلا في حديثة متمسكا بالنصوص المكتوبة إلا في ما ندر. أما منصف المرزوقي فظل ذلك المناضل الحقوقي في نظر الجمهور رغم محاولاته الدؤوبة لتبسيط ما يطرحه. ومما روي عن بورقيبة من رفاق ووزراء سابقين أنه كان يعدّ سيناريو متكاملا لخطابه متضمنا حتى متى عليه أن يبدي بعض التأثر، أو حتى يجهش بالبكاء، مع إعداد جيد للسياق المناسب لإيراد آية قرآنية هنا أو هناك أو مثلا شعبيا أو بيتا من الشعر حتى لتظن أنك أمام راو وليس رئيس دولة.
هذا التمشي الشعبي لم يكن يمنعه من إلقاء بعض الخطب بالعربية الفصحى، السليمة للغاية بالمناسبة، ولكنه لم يلجأ إلى ذلك إلا في السياق المناسب كاجتماع لكوادر حزبه أو خطبة من منبر جامع الزيتونة أو قمة عربية أو لقاء قمة مع رؤساء دول داخل تونس أو خارجها، فلكل مقام مقال. وعلى هذا المنوال سار قايد السبسي، وزيره السابق وابن مدرسته.
كثيرون في تونس، ومن محبي الرئيس سعيّد أنفسهم، نصحوه بأن «يلــيّن» كلامه قليلا وألا يلقيه بهذا الأسلوب المتكلس، بلا روح ولا نكهة، وبلا قسمات وجه معبرة وكأنما الرجل مبرمج مسبقا. هذا عيب قاتل لأن أي سياسي يريد في النهاية أن ينفذ إلى أعماق شعبه كي يفلح في توجيهه وتعبئته.
اثنان عرفتهما لم يكونا يتحدثان سوى العربية الفصحى في كل مكان ومع أي كان، كلاهما فلسطيني، هما عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير المفكر والأديب أحمد صدقي الدجاني الذي رحل عام 2004 والكاتب والناقد الأدبي حسام الخطيب أطال الله في عمره حتى أن أصدقاء ابنته، وكانوا أطفالا، يصابون بالدهشة عندما يتصلون بالهاتف فيرد هو عليهم إذ كانوا يسارعون بارتباك إلى إنهاء المكالمة حين يقول لهم بلغة المسلسلات التاريخية إن ديمة ليست هنا وستعود بعد هنيهة!!
أردت ذات مرة تجديد اللقاءات التلفزيونية مع الراحل محمد حسنين هيكل فاعتذر قائلا إن الوضع دقيق لذا فهو «يفضل انضباط الكلمة المكتوبة» حتى لا ينساق في الارتجال وفي الرد على الأسئلة فيجد نفسه يقول ما لم يكن من الحصافة أن يقول.
رئيس الحكومة التونسية إلياس الفخفاخ مثلا توجه إلى الشعب في هذه الأزمة بأكثر من كلمة كانت جميعها بلهجة تونسية مهذبة أقدر على النفاذ إلى الناس رغم غياب الجدية في احترام موعد بث كلمته الأخيرة لأكثر من ساعتين. صحيح أنه لم يرتجلها وإنما كانت مكتوبة قرأها من جهاز القارئ الآلي لكن لا مشكل في هذا فمعظم السياسيين في العالم يعتمدون عليه. كان بإمكان الرئيس سعيّد أن يفعل الشيء نفسه، إذا لم يشأ الارتجال بالعامية، لكن في كل الأحوال عليه أن يراجع أسلوبه ويتخلى عن عناده في التمسك بطريقته المتكلسة في الحديث، شكلا ومضمونا، وإلا فالبون بينه وبين شعبه سيزداد اتساعا للأسف.