قيس الذي فلسطين ليلاه
عبد الإله بلقزيز
انتخاب قيس سعيّد كان ثورة على طبقة سياسية امتهنت الفهلوة والديماغوجية واقتسام الحصص والمغانم والكذب.
لم يأْت قيس سعيّد إلى انتخابات الرئاسة في تونس من مجتمع مزدحم بالمصالح والأهواء والتنافس والكذب والرياء، وركوب صهوة الشارع للتسيد والاستيلاء… بكلمة؛ لم يأت من السياسة إلى السياسة، وإنما أتى إليها من غيرها محمولا على أَمَل أن يصيب حظا من النُّجح في تنظيف صورتها المتسخة لدى الجمهور، وإعادة تأهيل عمرانِها الخَرِب الذي أصابه من أهلها أنفسهم ما أصابَه من الوبال العظيم، حتى أنهم استحقوا على ذلك من شعبهم أن يطردهم مُنْكَرَ طَرْدَة من حلبة السباق في نتائج الدور الأول من المنافسة الرئاسية. أتى إلى السياسة من رحاب القانون والمعرفة الأكاديمية مسربلا برأسمالٍ رمزي هو الرأسمال المعرفي والأخلاقي..
بهذا المعنى، ترتفع نتائج التصويت على قيس سعيّد رئيسا للدولة إلى مستوى الحدث الثوري لا الاعتيادي المألوف في نظائره الانتخابية. هو ثورة بالمعنى الحقيقي لا بالمعنى المجازي؛ ثورة على طبقة سياسية امتهنت الفهلوة والديماغوجية واقتسام الحصص والمغانم والكذب على الناخبين بالوعود المزيفة؛ ثورة على المال السياسي وإفساده التمثيلَ وشرائه الذمم؛ ثورة على الإعلام الإيديولوجي المسخر لتزوير وعي الناس وصناعة الرأي العام المُقَوْلَب والمُؤَقْنَم وتنميط الأفكار؛ ثورة على حقبة سياسية انقضت على نتائج ثورة 2011-2010 وسَطَت على تضحيات أبنائها؛ ثورة على حياة سياسية ازدحمت بوقائع السجال العقيم والمضاربة الإيديولوجية الرثة بين الإسلاميين والعلمانيين؛ ثم ثورة على إرهاب كان يتسلل إلى يوميات التونسيين من وراء انشغال سياسييهم بالصراع على السلطة وذهولهم عن أمن المجتمع والوطن..
والحق أن التصويت الشعبي العارم والكثيف لصالح المرشح قيس سعيّد، الذي أمكنه به الفوز بفارق خرافي مع منافسه، إنما هو – على الحقيقة – استفتاء شعبي لا سابق له على مبادئ ثلاثة وإنفاذٌ لها في الحياة السياسية التونسية:
هو، ابتداء، استفتاء على مبدأ النزاهة والنظافة والاستقامة الذي استدخله قيس سعيّد في المنافسة الانتخابية بترشحه إليها. وبيان ذلك أن الرأسمال الأخلاقي، الذي أُقْصي طويلا من دائرة السياسة حتى باتت هذه خلوا منه وفقيرة إليه في تونس وبلاد العالم كافة، استعاد بعضا من قدرته على تجهيز السياسة والشؤون العامة بالمعنى؛ الذي إليه افتقرت، وعلى ابتعاث الثقة المفقودة فيها على نحو ما تُفصِح عن ذلك ظواهر مؤسفة من قبيل العزوف الجماعي عن السياسة. وهو، إلى ذلك، مارس العمل به في أتون الانتخابات: ألم يُحجم عن خوض الحملة الانتخابية، فيما خصمه وراء القضبان محروم منها؟
وهو، ثانيا، استفتاء على مبدأ دولة القانون التي ليست هي بشيء آخر سوى الدولة الوطنية الحديثة: دولة المؤسسات وحاكمية القانون لنظام اشتغالها. والرجل يرمز إلى المبدأ هذا لأنه من عالمه خرج إلى الرحاب وله تَوَسَّل في المخاطبة السياسية للشعب والرأي العام، وبه تمسك واعتصم في الجواب عن الأسئلة التي عليه طُرِحت في الحوارات الصحفية وفي المناظرة التلفزيونية؛ في هذه وفي تلك من المسائل التي اسْتُفْسِر في كيف سيُقارِبُها إنْ قُيِّضَ له أن يصير رئيسا. وحين يقع التصويت لصالحه، بهذه النسبة العالية جدا، ففي ذلك قرينة على أن الناخبين/ المواطنية إنما يصوتون لقيام الدولة.
ثم هو، ثالثا، استفتاء على انتماء تونس العربي، وعلى تمسك شعبها بفلسطين قضية وطنية مركزية له لا تَقْبَل المساومةَ عليها تحت أي ظرف. ولقد كان للمرشح قيس سعيّد فَضْلُ استدراج شعب تونس للإفصاح الجهير عن هذه الحقيقة الثابتة في وعيه ووجدانه الجمعي. وهنا ينبغي أن نقول، بصراحة، إنه لم يكن سهلا على أحد أن يكسر قاعدة – استمكنت من النخبة التونسية – هي الحديث إلى الشعب باللغة العربية الفصحى لا بالعامية أو الفرنسية؛ وأن يرصع كلامه في كل لقاء بالتمسك الثابت بعدالة مطالب شعب فلسطين، وأن يسمي التطبيع باسمه السياسي الحقيقي (الخيانة الوطنية العظمى). نعم، ليس سهلا على أحد أن «يغامر» بالبوح بهذه المواقف المبدئية إن لم يكن صادقا في الإيمان العميق بها، وإن لم يكن لديه بعض ولو قليل من اليقين بأن ثمة من سيستقبلها بالترحاب والقبول ويبادلها بما يقابلها: محْضُه التأييد. وإذ صوتت له غالبية الناخبين الكاسحة، فقد جهرت – في تصويتها ذاك- بإيمانها بعروبتها ومركزية قضية فلسطين عنها. شكرا للرئيس قيس سعيّد الذي شاء أن يسن السنة الحسنة في السياسة العربية؛ أن يجعل فلسطين ناخبا كبيرا في الحياة السياسية.