شوف تشوف

الرأي

قواعد لفهم حركة التاريخ

من أجل فهم النص التاريخي (أي نص) لابد من الإحاطة بظروف ولادته، وكيف وضع نفسه في هذا العالم، واللغة هي ترميز للأفكار، وهي قدرة وميزة لآدم منحت من الله الجليل، أي أن اللفظة لا تشع بالمعنى، بل نحن الذين نشحنها بالمعنى، والفرق كبير بين الأصل والفرع، بين السبب والناتج عنه، بين السراج الوهَّاج والقمر المنير. الفكرة هي التي تبحث عن معطفها الخارجي (اللفظ) كي ترتديه، وهذا المعطف قد يأكله العت والتغيرات عبر العصور والأزمنة، وهو ما انتبه إليه ابن خلدون بحذق. هناك أسبقية وترتيب بين المعنى واللفظ، مثل الحصان والعربة، فالحصان يقف أمام العربة وليس العكس، والمعنى يسبق الكلمة وليس بالمقلوب، وعندما تضطرب الكلمات والألفاظ يبقى الواقع هو المرجع الذي نرجع إليه، لنصحح الألفاظ ونبني كلماتنا وألفاظنا من جديد. إذا كنا في (منحلة) ووضعنا (رمزاً) على طبيعة إصابات بعض النحل داخلها، سواء في شكل كلمات، أو إشارات ترسيمية – واللغة هي رسم يدنا في النهاية – مثل فارغة أو مريضة أو ناقصة، أو جاهزة للقطف. فإذا اختلطت علينا (الرموز) بسبب أو آخر، نزعنا الرموز كلها، ورجعنا إلى كل خلية نحل، أي إلى (الواقع) كي نصحح رموزنا من جديد، أو أن نكتب رموزاً جديدة، فالواقع هو الذي يصحح في النهاية كل أوهامنا التي تخطها أيدينا.
كان الجانب الثوري في تفكير ابن خلدون، هو أن تعديل الرواة قبل تأمل الخبر بحد ذاته وهل هو ممكن أو ممتنع إضاعة للوقت، وسير في الطريق غير السليم، وترتيب مضلل. ووضع ست قواعد لتأمل الأخبار، ثم ختمها بستة نماذج تطبيقية، فالخبر (المنقول) ولو كانت سلسلة نقله ذهبية، لا يعني شيئاً إذا اصطدم مع الواقع: (لأن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في الاجتماع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد والذاهب بالحاضر فربما لم يؤمن فيها من العثور ومزلة القدم والحيد عن جادة الصدق…) وعندما ذهب يطبق هذه القواعد الذهبية، بنى أشياء وهدم مقابلها أموراً لم تخطر على قلب بشر، فالأهرامات لم يبنها العمالقة، بل بشر مثلنا متفوقين في الرياضيات والهندسة المتطورة، وإرادة البناء، وسيطرة مفهوم اليوم الآخر، فضلاً عن الجبروت الفرعوني. وموسى (عليه السلام) لا يعقل أن يسوق جيشاً قوامه 600 ألف جندي لسبب بسيط متعلق بالتعبئة العسكرية وقيادة المعارك، فجيش لا يعلم طرفه ما يحدث في الطرف الآخر غير ممكن وممتنع، لعدم تطور نظام (الاتصالات) في ذلك الوقت، في حين أن هتلر قاد جيشاً قوامه (خمسة ملايين جندي) في عملية بارباروسا، لاجتياح الاتحاد السوفيتي في الحرب العالمية الثانية بسبب تطور نظام الاتصالات. والعباسة أخت الرشيد لا يعقل أن تقوم بالفاحشة مع يحيي بن جعفر، فتكون هذه الواقعة سبباً في نكبة البرامكة، ففتشوا إذاً بطن التاريخ لمعرفة السبب، أو الأسباب الحقيقية خلف كارثة (البرامكة). وهكذا يستعرض ابن خلدون نمطاً خلف نمط، فيفنده ولو رواه عالم نحرير وجهبذ من علماء التاريخ كالمسعودي والطبري وابن جرير!!.
يقول ابن خلدون: (وأعتبر أن أحسن الوجوه وأوثقها في تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها، وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة، ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع، وأما إذا كان ذلك مستحيلاً فلا فائدة للنظر في التعديل والجرح) ثم يخلص إلى هذه النتيجة: (وإذا كان ذلك فالقانون في تمييز الحق من الباطل في الأخبار بالإمكان والاستحالة، أن ننظر في الاجتماع الإنساني الذي هو العمران، ونميز ما يلحقه من الأحوال لذاته وبمقتضى طبعه، وما يكون عارضاً لا يعتد به وما لا يمكن أن يعرض له، وإذا فعلنا ذلك؛ كان ذلك لنا قانوناً في تمييز الحق من الباطل في الأخبار، والصدق من الكذب بوجه برهاني لا مدخل للشك فيه).
إذا تبللور ما مر فيمكن أن نضيف أن التعامل مع النصوص والأخبار يجب أن يتم في إطارين: الأول هو ما أطلق عليه (الفهم البنيوي التركيبي)، والثاني ربطه بالواقع (في الآفاق وأنفسهم) لأن ظن الاستغناء بالنص عن الواقع قاد العالم الإسلامي إلى وضع الكارثة اليوم، واقتلاع نص من مكانه، بدون سياقه العام، والحيثيات التي ولد فيها، والترابطات التاريخية، لا يقرب من فهم النص، بل قد يكون خطراً ومعطلاً. والأخ الذي كان (يقتلع) نصف آية من سياقها يبرر بها (العنف) الذي يمارسه (فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك وحرض المؤمنين) غاب عنه أولاً : أن هذه الفقرة ليست معلقة في الهواء، بل هناك تسلسل وترتيب بدءا من (كفوا أيديكم) مروراً بــ (كتب عليكم القتال) وانتهاءً بــ (قاتلوا المشركين كافة)، وغاب عنه ثانياً أن هذه (الوظيفة العسكرية) هي أداة خطرة للغاية، لأنها مرتبطة بسفك الدماء، ولذا لُجم السيف تحت الكتاب – على حد تعبير ابن تيمية – يدور معه حيث دار، فهي (وظيفة – FUNCTION) وبيد (الحاكم المسلم) فقط، فهي ليست (وظيفة فرد) كما أنها ليست (مهمة جماعة)، فالحاكم المسلم هو الذي يقيم الشريعة، وهو الذي يعلن الجهاد بمعنى القتال المسلح، وضمن السياسة الشرعية، التي هي لدفع (الظلم) فالقتال أو الجهاد المسلح شرع في الإسلام ليس لنشر الإسلام بالقوة، بل بالأحرى لدفع الظلم، سواء صدر من كافر أو (مسلم) !!
كما وضح ذلك ابن تيمية في كتاباته، التي تشكل ترسانة فكرية حتى اليوم، للذين يريدون فهم الآليات الخفية والعميقة لحركة الإسلام في التاريخ، وفاته ثالثاً أن كل عنف الخوارج وقتالهم لم يمنحهم قوة (الجهاد) بل اعُتبر خروجاً باتفاق علماء الإسلام حتى اليوم، فالذي يريد إحياء مذهبهم مرة أخرى، إنما يفجر الكوارث في كل مكان، ويخيل إليه أن هذا هو الجهاد، الذي خصه الإسلام بأرفع المزايا والمدح. وكلامي هذا ليس إدانة لطرف ولا تملقاً لآخر، ولا علاقة له بأي صراع مسلح، بل هو تبصير بحجم الكارثة التي يعيشها العالم الإسلامي من داخله اليوم مع مرض العنف. فالجهاد كان ومازال وظيفة تُستخدم لحماية الإنسان من (الفتنة) بإكراهه على ترك أو اعتناق مبدأ ما بالقوة، أو بإخراجه من بيته (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم)، فلا يقتل الإنسان من أجل آرائه، ولا يجبر على اعتناق مبدأ بالقوة، بما فيه الإسلام، لأن المجتمع الإسلامي هو مجتمع اللا إكراه (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى