شوف تشوف

الرأي

قهوة مع السيد العامل..

يونس جنوحي
كانت هناك عادة قديمة، تتلخص في أن يقدم الزوار الأجانب في المغرب، مبالغ من المال للواقفين على أبواب الإدارات مقابل السماح لهم بلقاء القياد والخلفاء وحتى الوزراء المغاربة.
واستمرت هذه العادة لسنوات طويلة إلى ما بعد فترة الحماية. وبقيت عادة إلى أن جاء زمن تحديث الإدارة، ووصل اليوم زمن حجز المواعد عن بُعد ولم يعد أحد من المغاربة ولا الأجانب في حاجة إلى الدفع مقابل تجاوز الباب المفضي إلى مكاتب المسؤولين، إن كانوا في مكاتبهم طبعا.
مناسبة هذا الكلام، هو ما يقع حاليا في مدينة طنجة على مستوى المدينة القديمة التي تعرف أشغال إصلاحات وترميم البنايات القديمة.
بعض البنايات موضوع الترميم كانت في الأصل مقرات تاريخية لبعض الإدارات، ليس فقط الأجنبية وإنما المحلية أيضا.
ففيها كانت دار دخلت التاريخ من أوسع أبوابه، وهي دار القاضي أحمد الفلوس، الذي عمل قاضيا في المدينة وعينه المولى سليمان بها سنة 1820. وتلك الدار داخل أزقة المدينة القديمة في طنجة، شهدت حدثا منسيا في تاريخ المغرب، يتعلق بترتيب انقلاب سياسي بكل ما تحمله الكلمة من معنى ضد قائد المدينة الذي كان يفرض على كل من يريد لقاءه دفع مقابل مادي، إلى درجة أن المخازنية المكلفين بحراسة الزقاق المفضي إلى داره بالمدينة القديمة، كانوا يدفعون رشاوى مقابل تعيينهم على عتبة دار القايد لجمع الإتاوات يوميا وبالعملة الصعبة.
إذ أن أحد إخوة السلطان كان في زيارة إلى طنجة في تلك السنة، واشتكى إليه الناس من تصرفات القايد، فقرر أن يكتب لأخيه لكي يعزله من منصبه، وجلس في دار القاضي الذي كُلف بكتابة نص الشكاية. وما وقع أن بعض الوشايات، عجلت برحيل القاضي الذي انتقم منه القايد، ورحل بعيدا عن طنجة عقابا له. واتضح أن الساعي الذي كُلف بحمل الرسالة موضوع الشكاية، حصل على رشوة سخية حتى لا يوصل رسالة القاضي، وبدلا منها أوصل رسالة شكوى من القايد متهما القاضي بتجاوز صلاحياته.
كان عامل مدينة طنجة وقتها يسمى محمد العربي السعيدي واسمه ذكر في أغلب المراجع التي تطرقت لتاريخ مدينة طنجة حيث كان أشهر العمال الذين اشتغلوا بها.
هذا العامل، كان يتجول بشكل مستمر في أزقة طنجة ويراقب المنازل ويسأل عن كل شاردة وواردة. وحسب تاريخ ابن زيدان فإن محمد العربي السعيدي كان وراء عزل القاضي أحمد الفلوس. وصارت قصته على كل لسان قبل أن يفهم العامل أن القاضي لم يكن إلا ضحية مؤامرة أودت به لأنه أراد القطع مع عادة دفع الرشوة على عتبة الإدارات قبل دخولها.
والسبب أن العامل لاحظ خلال جولاته بالمدينة القديمة في طنجة خلال عهد المولى سليمان (توفي في نونبر سنة 1822)، أن بعض المخازنية يضعون ما يشبه كيسا من الثوب وراء أبواب الدور التي كانوا يحرسونها، يخبؤون داخله حصيلة اليوم من القطع النقدية التي كانوا يحصلون عليها من كل فئات العملة الأوربية التي كانت رائجة في مدينة طنجة.
والمثير أن هذا العامل حوصر يوما في مقهى كان يتردد عليه موظفو المفوضية الأمريكية في طنجة والتي كانت وقتها قد تأسست حديثا، قبل أن تكمل اليوم 200 عام على التأسيس ولا تزال صامدة في وجه الزمن. المقهى لم يكن يبعد عن المفوضية إلا ببضعة أمتار، وتحولت الدعوة للعامل لكي يشرب قهوته مع الموظفين، إلى معركة بالأيدي والسبب أن مواطنا ألمانيا كان يشتغل في السلك الدبلوماسي، تعرف على عامل مدينة طنجة، فقام إليه ممسكا بجلبابه آمرا إياه بمغادرة المقهى فورا والدفع على طريقة المخازنية أولا قبل ولوج المقهى، انتقاما من المعاملة التي كان يتلقاها الأجانب قبل دخول الإدارات. وانتهى الموضوع بصلح بين الموظف الدبلوماسي الألماني وعامل مدينة طنجة. وهذه الواقعة حكاها القنصل الأمريكي هولت الذي كان قنصلا في مقر المفوضية الأمريكية، حيث سمعها من قدماء الموظفين عقودا بعد وقوعها.
إن الذين يشرفون اليوم على ترميم المدينة القديمة في طنجة، عليهم أن يعلموا أن تحت عتبة كل دار قديمة من الدور التي كان يملكها النافذون والموظفون توجد قصص قديمة من زمن القهوة التي شربها العامل. وحبذا لو تمت الإشارة إليها باللافتات، فتلك قصص تموت مع الترميم ولا تُبعث معه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى