سهيلة التاور
في الوقت الذي جنحت فيه سفينة الحاويات «إيفر غيفن» في الناحية الجنوبية لقناة السويس المصرية لمدة ستة أيام، قررت تركيا شق «قناة إسطنبول» لتجنب أزمة الازدحام في «مضيق البوسفور» وكوارث خطيرة. ورغم المعارضة الحادة التي يواجهها القرار إلا أنه يعتبر أضخم مشروع في تاريخ تركيا الحديث.
بالتزامن مع حادث قناة السويس الذي أدى إلى إغلاق واحدة من أهم قنوات التجارة العالمية، أقرت الحكومة التركية خطط شق «قناة إسطنبول» وهو مشروع ضخم لشق قناة مائية تربط بحر مرمرة بالبحر الأسود بالموازاة مع مضيق البوسفور، الذي يعتبر أيضاً أحد أهم ممرات التجارة البحرية العالمية.
قناة إسطنبول التي ستربط البحر الأسود شمالي إسطنبول ببحر مرمرة جنوباً تبلغ تكلفة إنشائها نحو 75 مليار ليرة (9.2 مليار دولار)، وستخفف حركة الملاحة في مضيق البوسفور، أحد أكثر الممرات البحرية ازدحاما في العالم، وستمنع حوادث مماثلة لتلك التي حدثت في قناة السويس.
وأعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن المشروع أول مرة عام 2011، إلا أنه بقي في إطار الدراسات ووضع الخطط التي تغيرت مراراً نتيجة الحديث عن الآثار البيئية للمشروع ووجود معارضة من أطراف مختلفة له. لكن أردوغان أصر على المشروع باعتباره مكسبا استراتيجيا سوف يحقق نقلة مهمة للبلاد سياسياً واقتصادياً وسياحياً وحتى بيئياً.
مشروع العصر
اعتبر الرئيس التركي أن المشروع الذي يمتد على طول 45 كيلومترا سيساعد في حماية مضيق البوسفور من كوارث خطيرة للغاية. وفي تصريح مطابق، شدد وزير المواصلات والبنية التحتية التركي على أن قناة إسطنبول المائية مشروع حضاري يحمي مستقبل مضيق البوسفور من حوادث الملاحة البحرية، في تركيز لافت على ملف حماية البيئة الذي تحاول من خلاله منظمات تركية ودولية الاعتراض على المشروع، حيث إن من شأن القناة الجديدة أن تخفف حركة السفن في مضيق البوسفور، وتقلل نسب التلوث فيه، وتقلل الأخطار الناجمة عن الحوادث الملاحية المحتملة.
واعتبر الوزير أن المشروع هو «مشروع العصر» بالنسبة لتركيا، مؤكداً أن القناة ستكون واحدة من أكبر المشاريع في العالم، وأضخم عمل يتم إنجازه في تاريخ الجمهورية التركية، على حد تعبيره.
وتعول تركيا على الأهمية الاقتصادية للقناة، مع تزايد التجارة البحرية الدولية، بحيث أوضح وزير المواصلات التركي أن المتوسط السنوي لحركة مرور السفن في مضيق البوسفور يتراوح بين 40 و42 ألف سفينة، علمًا أن طاقة المضيق الاستيعابية تبلغ 25 ألف سفينة سنويًا فقط. وقال: «السفن التي تستخدم مضيق البوسفور تنتظر لمدة أسبوع تقريبًا، وهذا الانتظار في الواقع مكلف بالنسبة للسفن وفرق ضمان سلامة الملاحة البحرية»، محذراً من أن كمية البضائع الخطيرة التي تمر عبر مضيق البوسفور، خاصة النفط، تجاوزت 150 مليون طن سنويا.
وبعدما وضعت العديد من الخطط والسيناريوهات، وقع الاختيار على ممر بطول 45 كيلومترا يبدأ من منطقة «كوجك جكمجة» ويمر من «صازلي دره» ويصل إلى «دوروصو» في الشطر الأوروبي بإسطنبول حيث يمر بالقرب من مطار إسطنبول الجديد الذي يعتبر باكورة مشاريع أردوغان الكبرى والتي حافظ من خلالها على نجاحه في مجال الخدمات بالبلاد ويهدف إلى الحفاظ عليه من أجل رفع مكانته في الانتخابات المقبلة.
ومن المتوقع أن تصل تكاليف المشروع إلى 65 مليار ليرة تركية (قرابة 17 مليار دولار أمريكي) وسيعمل فيه خلال مرحلة الإنشاء 6000 شخص، وقرابة 1500 في مرحلة التشغيل. وسيتم إنشاء ميناء ومركز خدمات لوجستية على ضفتي القناة على البحر الأسود وبحر مرمرة.
وتقول تقديرات تركية إنه إبان مناقشة اتفاقية «مونتيرو» كانت تمر عبر مضيق البوسفور 3 آلاف سفينة سنوياً فقط، في حين وصل العدد حالياً إلى متوسط 50 ألف سفينة سنوياً، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 65 ألفا في عام 2030، وإلى 100 ألف عام 2050.
ومن خلال هذه الأرقام تتوقع تركيا أن تلجأ السفن التجارية إلى المرور من القناة الجديدة بدلاً من الاضطرار إلى التوقف لعدة أيام في انتظار دورها للمرور من مضيق البوسفور، وستكون الرسوم المفروضة على المرور من القناة الجديدة أقل من مصروفات انتظار السفن.
نقلة نوعية
يبدو أن هذا المشروع سيغير من وجه النقل البري والبحري في تركيا، ويخفف من الضغط على قناة البوسفور في الشرق، التي تعتبر من أكثر الممرات المائية ازدحاماً وتشهد كثافة ملاحية هي الأعلى على الصعيد العالمي. ففي عام 2017 وحده، مرت من خلال مضيق البوسفور 53 ألف سفينة مدنية وعسكرية. مقارنة بـ17 ألف سفينة مرت عبر قناة السويس، و12 ألف سفينة مرت في قناة بنما.
وتقول الحكومة التركية إن مشروع القناة سيدر عليها ثمانية مليارات دولار سنويا، مقابل التعريفات التي تدفعها السفن مقابل المرور عبرها، كون القناة لن تخضع لاتفاقية مونتيرو التي تنص على حرية الملاحة في مضايق البحر الأسود، ومن بينها البوسفور.
وترجع الاتفاقية إلى عام 1936، ووقعت عليها تركيا والاتحاد السوفياتي السابق وبريطانيا وفرنسا واليونان وبلغاريا ورومانيا ويوغسلافيا واليابان وأستراليا. وتسمح الاتفاقية للسفن التابعة للدول المطلة على البحر الأسود بحرية المرور والوجود في حوض البحر الأسود. أما السفن التابعة لدول خارج حوض البحر الأسود، فيُسمح لها بالوجود لمدة ثلاثة أسابيع.
وتتحمل تركيا المسؤولية المباشرة عن مرور السفن الأجنبية لحوض البحر الأسود. وعبرت مرارا عن رغبتها في فرض إجراءات أكثر صرامة، تمكنها من التحكم في حركة سفن نقل البترول وغيرها كونها «تشكل خطرا على البيئة».
وطالما كان مرور السفن الحربية سببا في مشادات بين تركيا والدول الموقعة على الاتفاقية، وخاصة روسيا. وتسمح الاتفاقية بعبور السفن الحربية الصغيرة فقط، خشية تحول حوض البحر الأسود إلى منطقة عسكرية.
ويقول خبراء إن «قناة إسطنبول» تثير مخاوف موسكو بشأن استخدامها لأغراض عسكرية، «وقد تفتح الباب لوجود السفن الحربية الأمريكية في البحر الأسود»، حسب الدبلوماسي التركي السابق سنان أولغين.
معارضة حادة
داخليا وصفت المعارضة التركية مشروع «قناة إسطنبول» بأنه «كارثي». ففي نونبر 2020 نشر إمام أوغلو منشورات إعلانية في مدينة إسطنبول حملت توقيعه، جاء فيها «إما القناة أو إسطنبول، من بحاجة لقناة إسطنبول؟ هل إسطنبول أم نظام الإسراف؟».
وإلى جانب إمام أوغلو، اعتبر مسؤولون في أحزاب المعارضة أن «قناة إسطنبول» ستتسبب في أضرار بيئية بالغة وتلوث موارد المياه العذبة حول المدينة التي يبلغ عدد سكانها 15 مليون نسمة.
ويخشى المعارضون من أن عمليات الحفر ستخل بتماسك التربة على جانبي القناة، وتلحق الضرر بمخزون المياه الجوفية، ما قد يتسبب في انهيارات أرضية واحتمال حدوث زلازل.
وتشير الخطط إلى أن عملية الحفر ستزيل 2.5 مليار متر مكعب من التربة، تنوي الحكومة استخدامها لبناء ثلاث جزر صناعية في بحر مرمرة.
كما ذكرت دراسة أُجريت في جامعة «حجي تبة» التركية أن قطع أشجار الغابات في الشمال عند ساحل البحر الأسود لحفر القناة سيحد من مستويات الأكسجين في المياه ويزيد الملوحة، التي ستصب في النهاية في بحر مرمرة، فتؤثر على توازن الحياة البحرية وتملأ هواء إسطنبول برائحة الماء العفن.
ومن المتوقع أن تتسبب الاستثمارات حول القناة في زيادة تعداد إسطنبول بحوالي 1.2 مليون نسمة، وهو ما يتعارض مع الخطط الحكومية بإبقاء تعداد المدينة المكتظة عند 16 مليون نسمة. وتشير التقديرات إلى أن تحقيق أهداف 2023 الاقتصادية التي وضعتها الحكومة، بما في ذلك قناة إسطنبول والاستثمارات المرتبطة بها، تحتاج إلى استثمار 700 مليار دولار في إنشاء البنى التحتية، و400 مليار دولار في المشروعات الحضرية.
وتخشى المعارضة من أن التكلفة الضخمة للمشروع ستشكل عبئا على اقتصاد البلاد، ويتحملها المواطنون الأتراك، خاصة في ظل غياب خطط واضحة لكيفية تمويل المشروع.
وفي المقابل، وفي تصريحات له أواخر العام الماضي، أعلن أردوغان أن مشروع قناة إسطنبول وصل مرحلة طرح المناقصات. وقال: «نريد الوصول بصندوق الثروة السيادي إلى مستوى مختلف عالميا خلال المرحلة القادمة»، معتبرا أن مشروع القناة سيعطي لإسطنبول مظهرا متميزا وقوة مختلفة على الصعيد الدولي.
وعلى الرغم من أن الإعلان الحكومي التركي عن إقرار خطط مشروع شق القناة يخلو من أي ربط بما يجري في قناة السويس منذ أيام، إلا أن الإعلان في هذا التوقيت فهم منه على أنه بمثابة رسالة بأهمية مشروع القناة ورسالة للمعارضين للمشروع بأن التطورات التي تجري في المنطقة تؤكد أهمية الإسراع في المشروع الذي يلقى معارضة واسعة من المعارضة التركية لأسباب مختلفة.
أزمة قناة السويس
جنحت السفينة «إيفر غرين» التي تعد من أكبر الحاويات في العالم، والتي كانت تبحر في اتجاه الشمال من البحر الأحمر صوب البحر المتوسط عبر قناة السويس، في ظل أجواء مناخية صعبة، وعاصفة ترابية تسببت بانعدام الرؤية بشكل كبير. مما أدى إلى توجهها في مسار غير مألوف. وطولها وضخامتها مع زيادة السرعة لأكثر من اللازم في ظل سرعة الرياح تسبب بانغراس مقدمتها في القاع وجانب الممر بهذه السرعة، ما حركها دائرياً بهذا الشكل لتسد المجرى الملاحي وتمنع مرور السفن.
وأعاق الحادث شحنات تقدر قيمتها بنحو 9,6 مليار دولار يومياً بين آسيا وأوروبا. والحسابات التقريبية تفيد بأن حركة السفن اليومية من آسيا إلى أوروبا تُقّدر قيمتها بنحو 5,1 مليار دولار، ومن أوروبا إلى آسيا تُقّدر بنحو 4,5 مليارات دولار.
أما قطاعا التصنيع والسيارات الأوروبيان، سيما موردي السيارات فكانا الأكثر تضررا. وقال المحللون «هذا بسبب أنهما يديران سلاسل إمدادات حسب الحاجة، مما يعني أنهما لا يخزنان المكونات ويكون لديهما في المتناول ما يكفي لفترة قصيرة، ويستوردان المكونات من شركات التصنيع الآسيوية، وحتى إذا تم حل المشكل سريعا فإن اكتظاظ الموانئ ووقوع المزيد من التأخيرات في سلاسل التوريد المقيدة بالفعل لا مناص منه». وأضافوا أن وسائل النقل البديلة غير مناسبة، فقدرات الشحن الجوي تعاني شحا بسبب انخفاض حركة السفر الجوي العالمية، فيما النقل بالسكك الحديدية بين أوروبا وآسيا محدود، يقترب من طاقته الكاملة.
وقد سبب توقف قناة السويس اضطرابا نجم عنه ارتفاع تكاليف الشحن لناقلات المنتجات البترولية إلى المثلين تقريبا، وتحويل عدة سفن مسارها بعيدا عن المجرى المائي الحيوي، إذ بقيت سفينة الحاويات العملاقة عالقة بين ضفتيه.
وكان التأثير أكبر على الناقلات الأصغر والمنتجات البترولية، مثل صادرات النفط وزيت الوقود من أوروبا إلى آسيا، وقد يتفاقم الوضع إذا ظلت القناة متوقفة لأسابيع.
تتوقع تركيا أن تلجأ السفن التجارية إلى المرور من القناة الجديدة بدلاً من الاضطرار إلى التوقف لعدة أيام انتظارا لدورها للمرور من مضيق البوسفور، وستكون الرسوم المفروضة على المرور من القناة الجديدة أقل من مصروفات انتظار السفن.