قل كلمتك وامض
شامة درشول
«علي أنوزلا»، صحفي يحسب اليوم في صف المعارضين، وغدا الله عليم، قرأت له مقالا نشر على موقع «العربي الجديد» للإسرائيلي العربي «عزمي بشارة»، والموقع معروف بأن أغلب من يديره هم إخوان، والبقية من الغاضبين ممن يحكمون.
المقال بعنوان «سلاح المقاطعة»، قال فيه أنوزلا ما قلته في مقالي «ما لم يقل في المقاطعة»، ومقالي «درس آخر»، تحدث فيه عما أسماه «العصيان المدني السلمي»، كسلاح جديد، أقل تكلفة سياسيا وماديا، أصبح يتم استعماله اليوم من فئة وصفها «أنوزلا» بـ«المنظرين»، إذ قال «لكن الحملة التي انطلقت تلقائية وعشوائية سرعان ما ظهر في الفضاء الأزرق من ينظرون لها ويوجهونها لتأخذ بعدا سياسيا، وتتحول إلى فعل احتجاج سياسي، بعدما كانت مجرد صرخة احتجاج شعبي ضد غلاء أسعار مواد استهلاكية أساسية، ليتبين في ما بعد أن انتقاء ثلاث مواد أساسية لتكون موضوع المقاطعة كان مدروسا».
المقال المنشور على موقع صاحبه كان له السبق في إطلاق تسمية «الربيع العربي»، على الثورات التي هزت عددا من دول العرب، وأسماه على ربيع براغ، لم يجد من قراء الموقع أي غضاضة في التعامل مع محتوى مقال «أنوزلا»، رغم أنه قال الشيء نفسه الذي ردده الكثير منا عن علم، وخبرة وتجربة، وليس عن عشوائية، ورغم أن ما قاله «أنوزلا» شرحته بـ«الخشيبات» في محاولة لشرح كيف تتم الأمور، حتى يتمكن القارئ المقاطع من المقاطعة وهو «فاهم»، ماشي «مدرم»، ليس من أجل قطع المقاطعة، بل حتى لا يقع مرة أخرى في فخ من استعمله من أجل الوصول للسلطة.
أنوزلا لم يهاجم، في الوقت الذي هوجم الكثيرون منا ممن قالوا قوله، وهوجمت بدوري وإن كان بشكل أخف، فلدى قراء «مشاهدات عابرة» ما يكفي من الذكاء لفهم أن كاتبة المشاهدات تحترم ذكاء القارئ، وأنها لهذا القارئ تتوجه، أما الآخرون من أصحاب «شراوك»، «مقال تحت الطلب»، «خلصوك على هاد المقال»، «تساندين نيني حتى الرمق الأخير»، «نيني ضغط عليك باش تكتبي هدشي»، «متفقة نتي ونيني»، وباقي «الخزعبلات التي تفاجأت بها وأنا أقرؤها لأني اعتدت على مستوى ذكاء مرتفع لدى قراء «مشاهدات عابرة»، ولا أعرف من هم هؤلاء الدخلاء، فشكوت أمري لمن وصفه أحدهم بـ«مديري»، وما هو بـ«مديري»، وسألته: «رشيد، لماذا لم يعلقوا بهكذا تعليق على مقال أنوزلا في الوقت الذي علقوا بهكذا تعليق على مقالي رغم أننا نقول الشيء نفسه؟»، فأجابني الرجل «قل كلمتك وامض».
تأملت طويلا الجملة التي رد بها علي الأستاذ رشيد نيني وأنا أسأله، وقررت أن أقول كلمتي وأمضي…
في دجنبر من السنة الماضية، أخذتني قدماي إلى جنيف، وبرلين وباريس، هناك التقيت بأصدقائي من مصر، ومعارف من المغرب، كلهم من النشطاء الذين نسب لهم أنهم قادوا ثورات مصر، وحراك الفبراير. أصدقائي المصريون كانوا إلى عهد قريب من شبيبة الإخوان المسلمين، عرفتهم لسنوات عشر، لم تمسس يدي يدهم لأن السلام في عرفهم بين امرأة ورجل حرام، فوجدتهم قد ألحدوا بالله الذي به كانوا يؤمنون، ووجدتهم قد بات الخمر والحشيش، وعدد من أنواع المخدرات الصلبة صديقهم الوفي، الشباب الذين عرفتهم خجولين، بات همهم «نكاح» العديد من «سبيات بين الروم» في سويسرا، وألمانيا وفرنسا، أما معارفي من المغرب، والذين استوطنوا فرنسا هروبا مما اعتبروه تربص «المخزن» بهم، فقد وجدتهم أوفياء لما تركتهم عليه، كانوا نشطاء علمانيين، ووجدتهم علمانيين راديكاليين، واجتمع الاثنان، المصريون والمغاربة، تحت مظلة عدد من المنظمات الدولية، من أجل الحلم بربيع جديد، يطيح العسكر في مصر، والمخزن في المغرب.
أصدقائي ومعارفي لم يعودوا كما ألفتهم، لم يعودوا أولئك الشباب الذين حلموا بوطن الحرية، والكرامة والعدالة، هربوا من السجون في بلدانهم، وارتموا في سجون الحياة في الغرب. عمرو، صديق مصري، يحمل كأس بيرة في يد، وسيجارة في الأخرى، يحكي لي وهو يقاوم دموعه أنه إلى أهله ووطنه يشتاق، لكنه خائف من العودة، وخائف من البقاء في برلين، أناسها باردون وسماؤها رمادية، ويخشى أن يستيقظ يوما ويقرر الانتحار.
إسماعيل، من مصر أيضا، بقي فيها، لكنه يحاول الهروب منها، إسماعيل الذي لم يكن يترك السبحة من يده، التقيناه في باريس، الفتى كان مخدرا، لم ينم ليومين كاملين بسبب ما تعاطاه من مخدرات. أما عبد الرحمان منصور، الفتى المصري الذي أدار رفقة «وائل غنيم»، صفحة «كلنا خالد سعيد»، وكانت وراء تحديد تاريخ النزول لميدان التحرير، وكان من شبيبة الإخوان، فقد بات مثل إسماعيل وعمرو، ملحدا، سكيرا، صديقا لكل ما هو مخدر، أما معارفي من المغاربة فلم ألتق بهم، وإن كنت أعرفهم، أعرفهم منذ كانوا في المغرب نشطاء، قليلي الكلام، كثيري الخجل، قبل أن يصبحوا ضيوفا دائمين على القناة الفرنسية التي تنقل لنا أخبارنا بالعربية.
هؤلاء ليسوا لا مشردين، ولا سلوكهم سيئ، هؤلاء شباب يملكون ذكاء حادا، وآمالا كبيرة، وأحلاما بأوطان أجمل، صدقوا العلمانيين فحلموا بدولة مدنية، وصدقوا الإخوان فحلموا بدولة إسلامية، وكره الاثنان الأنظمة التي ولدوا في ظلها، واشتاقت أنفسهم للتغيير، وإن اصطدموا بأن التغيير لا يمكن أن يتم بالطريقة التي أرادوه بها، ولا السرعة التي يريدون، انقلبوا على كل شيء آمنوا به إلا شيء واحد، أنهم لازالوا يصرون على الحلم بربيع عربي جديد، بل يحضرون له.
أذكر جيدا كيف انطلقت الثورات في تونس ومصر، فقد كنت جزءا مما يقع، لكني لا أكاد أعرف شيئا عن كيف انطلق الحراك في المغرب، فالمغرب حسب علمي لم يكن «في الأجندة الأمريكية»، أو بشكل آخر «كان في المرحلة الثانية من الربيع الثاني»، وحين كنت أحضر لفيلم وثائقي عن الحراك الفبرايري، قابلت أول من أطلقه قبل أن ينقض عليه اليمين في صورة «عدل وإحسان»، ويسار في صورة «نهج ديمقراطي»، ويفوز به في الأخير «عدالة وتنمية»، ووجدت أن من أطلقه كانوا شبابا لا ميول سياسية لهم، كل همهم مغرب جديد، بنظام ملكي لكن علماني، أغلب هؤلاء كانوا يلوحون بالانقلاب على كل ما هو دين في المغرب، لكن الشارع لا تستطيع سوى الجماعة ملأه، والجماعة انسحبت حين تم الاتفاق مع العدالة، فتذكر الناس بنكيران، ونسوا شباب فيسبوك، ربما لأنهم لم يلوحوا مثله بالدين.
ذاكرة المغاربة قصيرة، وذاكرة «فتيان الديجيتيل» أقصر، والقصة نفسها تعاد اليوم، شباب لا ميول سياسية لهم، ملوا من موت المشهد السياسي في المغرب، يريدون مغربا لهم، أرادوا إسماع صوتهم بطريقتهم وعبر منصاتهم، لكن كالعادة هناك دوما السياسي ينتظر «في الدورة» من أجل الانقضاض على الكعكة التي عجنها وخبزها الفتية.
الشباب الساخط يجب أن يصبح له مكان ومكانة في المغرب لأن هذا وطنه، ولأن المنفى لا يمكن أن يكون وطنا حتى لو منحك الجنسية، فالغربة لا تعترف بالورق، وربيع عربي آخر آت، وقد يأتي مكتسحا كل شيء إن نحن بقينا ضحايا الموت السياسي، وقد يأتي مزهرا إن نحن تعلمنا دروسا من الماضي القريب.
والدرس الأكبر الذي على الشعب تعلمه، هو أن من حقك الاحتجاج، لكن من واجبك وأنت توصل من تريد للسلطة، أن تتحمل مسؤولية مراقبته ومحاسبته، بل التذمر منه والشكوى، فالسلطة وحش لا يقومه إلا المحاسبة، وهذا دورك.
الآن قلت ما لدي، والآن يمكن أن أمضي…