قلة الترابي
المشاهد التي يتم تداولها منذ يومين في وسائل التواصل الاجتماعي والتي يظهر فيها شباب ومراهقون يواجهون عناصر الأمن والسلطة بالمفرقعات والحجارة ليلة عاشوراء تكشف واقعًا مؤلمًا طالما نبهنا له.
واقع يجعلنا نتساءل “واحد خمسطاشر حبس كالت الحكومة غادي تبنيها من عهد بنكيران فين وصلات؟ حيت باين ليا غادي نوقفو عليها مع هاد الهماج اللي كثر”.
لقد كان من المفروض أن يرمي هؤلاء الشباب عناصر الأمن بالورود اعترافا لهم بالمجهود الاستثنائي الذي يبذلونه منذ قرابة ستة أشهر في مواجهة وباء لا يرحم، مضحين بصحتهم وعائلاتهم، لكن مكان ذلك رأينا كيف أمطروهم بالمفرقعات الخطيرة والحجارة في مشهد أخجل جميع المغاربة وأعطى عن بعض أبنائهم صورة همج لا تربية ولا أصل لهم.
ما حدث في ليلة عاشوراء يسائلنا جميعًا، فأن يرمي البعض مفرقعات خطيرة داخل سيارة أجرة وأن يفجر آخرون خمس قنينات غاز صغيرة كما حدث في ابن سليمان وأن تضرم النيران في إطارات السيارات وتلوث أحياء سكنية بحالها، فهذه أفعال يطولها القانون الجنائي وليس مجرد الاستنكار.
وقليلا ما ننتبه إلى أن قطاع التربية والتعليم يبدأ بكلمة «تربية» قبل التعليم. وإذا كان الجميع يتفق على أن أزمة المغرب الراهنة هي أزمة تعليم، فإن الوجه الآخر، والأخطر، لهذه الأزمة هو التربية، أو قلتها على الأرجح.
وأستطيع أن أقول بأن الأزمة الأخلاقية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية التي نعيشها كمغاربة اليوم مصدرها النقص الحاد في مادة التربية أكثر من أي شيء آخر.
وتبقى المعطيات التي سبق أن كشف عنها تقرير للمندوبية السامية للتخطيط بخصوص الشباب المغربي والشغل خطيرة للغاية، فأكثر من مليون ونصف مليون شاب تتراوح أعمارهم ما بين 15 و24 سنة بدون تعليم وبدون شغل، أي أنهم عالة على أسرهم وعلى المجتمع، ونظرا لكون هذه الفئة من المواطنين تنتمي في غالبيتها الساحقة للطبقات الهشة، فإن لنا أن نفهم بوضوح، بعيدا عن إنشائيات البرامج الحكومية السابقة، مصدر انتشار مظاهر العنف والشغب الجماعي.
نحن أمام شباب غير متعلم لا يملك بين يديه مهنة أو حرفة، وليس له دخل يعيش به، أي شباب بدون أمل، لذلك سيسارع إلى بناء أمل وهمي إما عبر المخدرات أو عبر أفكار التطرف التي توهمه بآمال أخروية تتحقق بقتل الآخرين، “الكفار” في نظره، أي أنه سيصبح لقمة سائغة للانتحار بكل أشكاله.
إن كل مراهق فشلنا كأسرة وكحكومة وكدولة في تعليمه أو تكوينه، يعني أننا سنكون مضطرين لتوظيف شرطة لمطاردته وسجانين لحراسته، ولنا أن نتصور التكلفة، فحسب آخر إحصاء قام به المجلس الأعلى للتعليم، في تقييمه لفترة عشرية الإصلاح فإن تكلفة التلميذ المغربي لا تتعدى 12 ألف درهم في السنة، إذن لنا أن نتصور تكلفة هذا التلميذ عندما ينقطع عن الدراسة ويصبح عالة على مجتمعه، بل عندما يصبح مصدر خطر محدق به، إذ سنضطر لرفع ميزانية الأجهزة الأمنية لمراقبة سلوكه، الواقعي والافتراضي، كما أن الحياة الاعتيادية للناس ستتأثر بسبب تجنبهم المرور أو الجلوس في أماكن عامة خوفا من السرقة أو الاغتصاب، دون الحديث عن السياح الذين سيضعون المغرب ضمن الدول التي يستحسن تجنب القدوم إليها، مما يعني أن الخسارة هنا تصبح مضاعفة عشرات المرات.
كشفت مناسبة ذكرى عاشوراء أيضا عن نوع أكبر وأشنع وأخطر من العنف يمارسه المغاربة ضد بعضهم البعض وهو السحر والشعوذة، وهو عنف ينتج عنه ضرر «فين يبان الضرر ديال العصا».
وكلما اقتربت هذه المناسبة إلا وتكاثر باعة المواد التي تدخل في هذه الصناعة الجهنمية التي تتسبب في تسميم الناس.
طبعا هذه أشياء يرفض دعاة النظريات العلمية، الذين لم يؤتوا من العلم إلا قليلا، تصديقها. لكن ديننا الحنيف يعلمنا أن الله لم يخلق البشر وحدهم على هذه الأرض، وإنما خلق معهم الجن والملائكة والشياطين وما لا نعرف من المخلوقات التي قد يأتي يوم تظهر لنا فيه، ولو أن بعض البشر أشر من الجن ويقترفون ما يستحيي معه الشيطان عن ذكره.
وقد اعتقد الإنسان دائما أن باستطاعته التحكم في الجن واستخدامه لصالحه من أجل معرفة الغيب، وتفريق المرء عن زوجه بواسطة السحر وإلحاق الإساءة بالناس بدافع الحسد والبغضاء.
والحال أن الجن هو من يستخدم الإنسان عبر السحر والشعوذة والدجل من أجل إسقاط أكبر عدد ممكن من بني آدم في معصية الشرك بالله، لأن الشرك هو المعصية التي لا يغفرها الله، وبالتالي عندما يسقط فيها الإنسان فإن الشيطان يكون قد أضاف مرشحا مضمونا إلى لائحة مرافقيه إلى جهنم.
ولهذا السبب نرى كيف كثر السحرة والشوافون والشوافات في كل الدروب والأزقة، وأصبح الإقبال على خدماتهم يضاهي الإقبال على عيادات الأطباء.
والمصيبة أن الذهاب عند الشوافات والسحرة لا يقتصر على طبقة الأميين والجهلة والعامة، وإنما يتنافس معهم على هذه المصيبة أناس ينحدرون من طبقات مخملية لديهم قسط وافر من التعليم.
وهكذا أصبح السحر قطاعا اقتصاديا مزدهرا لديه زبائنه في مختلف طبقات المجتمع. ونتيجة لذلك، كثر المسحورون والمضبوعون وعبيد المجامر وحملة الجداول حول أعناقهم والأحجبة في جيوبهم وتحت ملابسهم الداخلية.
وأصبح القوم عوض وضع ثقتهم في خالقهم يضعونها في ساحر أو شوافة سواء من أجل الحصول على عمل أو إزالة نحس أو من أجل تطليق امرأة عن زوجها أو تسميم ذي نعمة محسود، أو فك عجز أو برود جنسي، أو لمجرد الحظوة بالقبول عند مسؤول أو رئيس.
والنتيجة أن السقوط في معصية الشرك بالله أصبحت عادية ومتداولة بين الناس، لا تكاد تجد من يعي خطورتها بسبب التطبيع مع أعمال السحر والدجل.
وها نحن نحصي ضحايا هذه «الحرب الباردة» غير المعلنة التي يشنها جحافل السحرة على الأسر والصحة العامة للمغاربة أمام أنظار السلطة، ففي كل بيت أصبحت تجد شخصا مصابا بمس أو تعرض لتسميم عن طريق الأكل، أو أصيب بواحدة من تلك البلاوي التي يحرقون من أجلها في مجامرهم بقايا الحيوانات وأظافر الموتى وما لا يخطر ببال من كوارث وبلايا.
إن ضحايا هذه «الحرب الباردة» أكثر بكثير من ضحايا حرب الطرق، فمتى يفهم المغاربة أنهم يشركون بالله عندما يذهبون عند العرافات والشوافات والسحرة لمعرفة مستقبلهم أو لإلحاق الأذى بالناس، ويشركون بالله عندما يعتقدون أن هناك من دون الله من يستطيع الاطلاع على الغيب ؟