قضية للبحث: مذهب الجمهور في التشريع الإسلامي
إلياس بلكا
أدلة التشريع هي المصادر التي يستمد منها المجتهد أحكام الحوادث، فلو حدث حادث، كالسؤال عن معاملة مالية ما: هل تجوز أم لا تجوز؟ فإن الفقيه يرجع أولا إلى الإجماع الذي يعني اتفاق جميع مجتهدي الأمة على حكم شرعي في زمن معين، وإذا تحقق الإجماع اكتفى به، لأن الأمة معصومة عن الخطأ، أي بمجموعها، والمجتهد هو العالم الذي تتوفّر فيه شروط محددة فصّلها الأصوليون في كتبهم.
وإن لم يوجد إجماع حقيقي، فإن المجتهد يستقرئ القرآن الكريم ويبحث في نصوصه، وإلاّ ففي السنة النبوية الشريفة، وإلاّ استعمل القياس، وهو نوع من تعميم حكم شرعي سابق وشموله لحالات جديدة.
هذه الأصول الأربعة متفق عليها بين الأمة على العموم. ثم توجد أصول أخرى اختلف فيها جمهور الفقهاء لا من حيث المبدأ، بل من حيث التطبيق بين مُوسع ومضيق، كما في المصلحة المرسلة والعرف مثلا، بينما كان خلافهم في أصول أخرى اختلافا لفظيا لا حقيقيا، كما في الاستحسان.
هكذا أوْصل بعض علماء أصول الفقه عددَ المصادر، ما بين المتفق عليه والمختلف فيه، إلى أكثر من ثلاثين مصدرا، يمكن مراجعتها عند الفخر الرازي مثلا في كتابه المحصول. وهذا كله يشكل غِنى للفقه الإسلامي، كما يفسر – إلى جوار أسباب أخرى – تنوع المدارس التشريعية في تاريخنا العلمي.
أحد هذه المصادر المهمة: مذهب الجمهور، أي أكثر الفقهاء، والمقصود هنا الأكثرية العددية، وهو مصدر مهم جدا، لكنه لم يَحْظ بدراسات أصولية وفقهية واسعة وعميقة، كما حظي بذلك دليل الإجماع مثلا. وعادة ما يُذكر هذا المصدر –الجمهور- ضمن أبواب الترجيح باعتباره يصلح للترجيح بين الآراء المتعارضة.
في الحقيقة من أهم أسباب عدم تطويرنا للموضوع أن الأكثرية الساحقة من علمائنا لا ترى أن مذهب الجمهور حجة مستقلة، بمعنى أنهم لم يجدوا أدلة نقلية من القرآن والسنة تفيد بشكل صريح بأنه يجب شرعا العمل برأي الجمهور، كما أن الأدلة العقلية والاستقرائية تثبت أن الجمهور قد يخطئ وأن الأقلية قد تصيب. وهذا الموقف صحيح وسليم ولا غبار عليه، لكنه بالمقابل أدّى لإهمال مجموعة من المصادر المهمة فلم يتوسع البحث فيها ولم نُراكِم فيها الخبرة العلمية والعملية اللازمة،. مع أن بعض هذه المصادر، وتسمى أيضا بالأدلة وبالأصول، مصادر عمليّة ومفيدة في التطبيق.
لذلك ما يوجد بين أيدينا اليوم من المعرفة والتفكير في قضية «حجيّة مذهب الجمهور» هو قليل، ويقع أساسا في علوم الفقه لا في علم أصول الفقه. فقد اعترف الفقهاء بقيمة هذا المصدر في الترجيح، واستعملوه كثيرا في تنظيم الثروة الهائلة من الآراء الفقهية التي تراكمت طوال قرون، فميّزوا مثلا بين رأي الجمهور ورأي الأفراد إذا شذّوا، لذلك ظهر ما يسمى بـالفتاوى الشاذة. واستعملوه أيضا في حسم الخلاف المذهبي الداخلي، إذ يعترف الفقه المالكي على سبيل التمثيل بأربعة أقوال مذهبية، أي داخل المذهب المالكي: المتفق عليه بين علماء المذهب، والراجح من حيث قوة الدليل، وما جرى به عمل القضاة والمفتين، والمشهور أي الذي كثُـر القائلون به حتى اشتهر.
إن دليل الجمهور قيّم ومهم، إذ تجاربنا الفقهية أثبتت أنه في غالب الأحيان يكون الصواب مع الأكثرية، كذلك الصواب في الغالب يكون مع أكثر المُحدثين والمفسرين وعلماء العقيدة، بل حتى اليوم في الطب مثلا، بعض المنظمات الطبية تأخذ برأي أكثر الأطباء باعتباره الرأي الرسمي، وهكذا يوجد في سائر العلوم ما يمكن تسميته بـ«التوافق العام» على رأي أو اختيار محددين، ويكون لهذا التوافق أهمية و«احترام» أكثر من غيره.
علينا أن نخصص بعض الجهد العلمي لهذه القضية، وأن نجيب عن هذه الأسئلة ونحوها: ما معنى الجمهور؟ وما معنى الجمهور الأوْسع أو الأعظم؟ وكيف نتعامل مع مخالفة الواحد أو الاثنين؟ هل الإجماع السكوتي حجة، وما الفرق بينه وبين قول الجمهور؟ وكيف نؤسس لاستعمال أفضل لهذا الدليل؟ وكيف نوسع منه حتى يفيدنا في الحياة العملية أيضا، فنتخذ بعض القرارات بتصويت الأكثرية؟
إن المجتمعات البشرية، خاصة اليوم، لم تعُد تبني توافقها على الإجماع في كل الأمور، فقد تفجّرت الهويات الخاصة وظهرت الأقليات، وتحرر الناس، وانتشرت ثقافة حقوق الإنسان بما تستبطنه من ظواهر الفردانية، وأصبح من المشكلات المطروحة في كل المجتمعات: كيف نوازن بين حقوق الجماعة وحقوق الفرد؟ كيف نضمن الاستقرار بأنواعه؟ ما الفرق بين آلية الديموقراطية وآلية الأكثرية بمفهومها الفقهي؟
كم أتمنى أيضا أن يشارك في هذا البحث والنقاش ليس فقط الباحثون في مجال الفقه الإسلامي وعلومه، بل أيضا الباحثون في حقول القانون والقانون الدستوري والفكر السياسي وتاريخ الأفكار.