قصص النقل التلفزي وهؤلاء جنود الخفاء وراء إطلاق “RTM”
يونس جنوحي:
التقرير الأمريكي الذي تطرق لوضعية التلفزة المغربية في أكتوبر 1963، وتخوف من مشاكل البث واحتمال أن تكون جودة الصورة أثناء نقل لحظات وصول سيدة الولايات المتحدة الأمريكية الأولى “جاكلين كينيدي” إلى المغرب، لم يفته أن ينوه بكفاءة الأطر المغربية العاملين في التلفزة المغربية. حيث ذكر التقرير بشكل مقتضب أن التلفزة المغربية تستعين بخدمات أطر مغربية تمرست في الصحافة سابقا في الإذاعة الوطنية وأنهم يقومون بمجهود كبير لإنجاح التلفزيون المغربي.
تخوف الأمريكيين كان مصدره حقيقة أن المغرب كان من بين الدول الأولى في المنطقة التي كانت لديها إرادة سياسية لإطلاق محطة تلفزية وطنية.
وكان المخبرون الأمريكيون خلال زيارة “جاكلين كينيدي” يركزون على إعداد تقارير عن شعبية أمريكا بين المغاربة. وهذا المعطى أكدته مصادر عدة من بينها تقارير السفارة الأمريكية في الرباط.
إذ أن هذه الأخيرة عمدت إلى إطلاق مخبرين من جهاز CIA قبل وصول “جاكلين كينيدي” وجمع المعلومات بخصوص شعبية الولايات المتحدة، خصوصا في أوساط المثقفين المغاربة الذين كان أغلبهم في ذلك الوقت منخرطين في اليسار، مع ما يعنيه ذلك من احتمال تعاطفهم مع المعسكر الشرقي، أي الاتحاد السوفياتي.
“
“مُخبرون” يتناولون “البسطيلة”
حسب أرشيف أشهر موظفي CIA في الشرق الأوسط وشمال افريقيا، والذي جمعه المخضرم “ويليام بلوم”، فإن بعض عملاء هذا الجهاز، الذين حلوا في الرباط قبل شهر أكتوبر 1963، موعد زيارة “جاكلين كينيدي” إلى المغرب، اكتشفوا سريعا أنه لم تكن هناك أية خطورة على حياة السيدة الأولى، وهكذا توجهوا إلى اكتشاف المطبخ المغربي، حيث كانت صحون “البسطيلة” المغربية التي حظيت بإعجابهم جميعا، لا تغادر مكاتبهم حيث يرابطون إلى جانب أجهزة التلفون للاتصال بمكاتب السفارات الأمريكية ومتابعة ما يُكتب عن الولايات المتحدة في الصحافة المحلية.
اطمئنان الأمريكيين إلى جودة النقل التلفزي في المغرب، رغم الصعوبات التقنية وبساطة المعدات المعتمدة في السنوات الأولى لإطلاق التلفزة المغربية، كان مرده إلى وجود نخبة من التقنيين المغاربة اشتغلوا في التلفزيون خلال السنوات الأولى لإطلاق التجربة.
التقرير يقول إن بعض التقنيين الأوائل الذين اشتغلوا في الإعداد لإطلاق تجربة التلفزة المغربية يوم 3 مارس 1962، لم يكملوا تكوينهم في الخارج، بل تم استدعاؤهم للعودة على وجه السرعة. ومنهم من تم استدعاؤهم بعد بداية بث التلفزيون المغربي من الرباط، لسد الخصاص وإنجاح ساعات البث القليلة التي بدأ بها التلفزيون المغربي، حيث استمر لسنوات في العمل خلال ساعات المساء فقط.
مع محمد بناني، تعرف المغاربة على أولى فقرات البث. إذ أن هذا الأخير، كان من بين الوجوه الأولى التي دمجت صوره المتحركة مع صوته على شريط واحد وبثت على المباشر لكي يتعرف عليه المغاربة.
حيث تدرب محمد بناني لساعات على الاشتغال لإنجاح أولى فقرات التلفزة المغربية.
جنود الخفاء
هناك تفاصيل أخرى تتعلق بالواقفين أمام الكاميرا، من صحافيين وممثلين صنعوا الفرجة في أولى المسرحيات التي سجلت على الهواء. لكن الذين شملهم التقرير الأمريكي، هم الجالسين خلف الكاميرا.
أحد هؤلاء الذين أطلقوا تجربة التلفزة المغربية، هو المخرج الذي رحل العام الماضي فقط، أحمد عمار. هذا الأخير، اعتبره قدماء التلفزة المغربية أول مخرج يشتغل في تجربة التلفزيون المغربي، حيث اشتغل رفقة أسماء من مؤسسي العمل التقني أمثال الراحل عبد الله شقرون.
أحمد عمار كان أبرز اسم عُول عليه لإطلاق تجربة التلفزة المغربية، من الناحية التقنية خصوصا الإخراج، بحكم أنه تكوينه التقني الذي تلقاه في فرنسا خلال سنوات الخمسينيات، أي قبل إطلاق التلفزة المغربية بأزيد من خمس سنوات، مكنه من التخصص في مجال الإخراج، ليصبح أبرز الأسماء المؤهلة تقنيا وأكاديميا للاشتغال في بناية مسرح محمد الخامس بالرباط.
الأستوديو كان ضيقا جدا، بالكاد يتسع للمعدات التقنية، ورغم ذلك فقد كانت الرؤية الإخراجية لديه موفقة.
وبما أن صفقة اقتناء معدات التلفزة المغربية، كما ذكرنا سابقا، جُلبت من إيطاليا، فقد كان أحمد عمار أول تقني مغربي يتم إرساله إلى مقر القناة الإيطالية الشهيرة، التي باعت المعدات التقنية للمغرب، لكي يتلقى تكوينا في التعامل معها وإنتاج محتوى سمعي بصري.
كان أحمد عمار وراء إخراج أول خطاب للملك الحسن الثاني في 3 مارس 1962. والأكيد أن الأمريكيين كانوا يقصدونه شخصيا عندما أوردوا في أرشيف التقارير التي جمعها “ويليام بلوم” أن المغرب يتوفر على كفاءات تقنية بينهم مخرج درس في فرنسا وعمل على إخراج بث الخطاب الملكي للملك الحسن الثاني على التلفزيون لأول مرة، وكانت جودة الصورة جيدا، وبالتالي لم يكن بالنسبة لهؤلاء الأمريكيين، أي داع للتخوف بشأن أي مشاكل في حالة ما قرر التلفزيون المغربي نقل مراسيم وصول “جاكلين كينيدي” إلى المغرب.
ورغم أن التقرير لم يذكر أحمد عمار بالإسم، إلا أنه، بإجماع بعض قيدومي التلفزيون الذين تحدثنا إليهم، كان وراء إخراج أولى محطات البث في تاريخ التلفزة المغربية. بل إنه كان وراء إخراج التغطية الأولى التي قامت بها التلفزة المغربية لزيارة الملك الحسن الثاني إلى الولايات المتحدة الأمريكية، حيث التقى الرئيس جون كينيدي ووصفت الزيارة بالتاريخية. تلك الزيارة التي رافق فيها وفد من التلفزة المغربية الملك الراحل إلى واشنطن، أكدت للأمريكيين أن تجربة التلفزيون في المغرب كانت ترقى إلى مستوى مواكبة تنقلات الملك ونقلها إلى المغاربة، في ظل وجود عمالقة الصناعة التلفزية الأمريكية التي كانت وقتها تتوفر على أكثر من محطة تلفزيون وعلى ترسانة قوية من البرامج التي خصصت لها ميزانيات إنتاج ضخمة لم يكن التلفزيون المغربي وقتها قادرا على مواكبتها.
هؤلاء التقنيون المغاربة الأوائل، والذين سوف نأتي على ذكر بعضهم، لم يكونوا دائما محظوظين، بل إن بعضهم طالهم النسيان، ومنهم من غادروا العمل التلفزي باكرا، بسبب هشاشة الوضعية المادية لإدارة التلفزة المغربية طيلة السنوات الأولى لإطلاقها، وفضلوا البحث عن أوضاع أكثر استقرارا في قطاعات أخرى بعيدة تماما عن العمل التلفزي.