قصتان مغربية ومصرية مع بطرس غالي
أبدأ بقصة طريفة عن لقاء الأمين العام السابق للأمم المتحدة بطرس غالي بمسؤولين مغاربة، وأعرج على كيفية نجاته من قتل محقق، عندما تغيب عن حادث المنصة، وفي الحدثين كان يشغل منصب وزير الدولة في الخارجية.
يقول بطرس غالي عن الحكاية الأولى إن اجتماعا مع الوزير الأول المغربي المعطي بوعبيد انعقد في غرفة الفندق الذي كان يقيم به في العاصمة الكوبية هافانا، على هامش قمة لدول عدم الانحياز، حضره مندوب المغرب في الأمم المتحدة الدكتور عبد اللطيف الفيلالي. واستنتج غالي من وقائع ذلك اللقاء أن إبعاد وزير الخارجية المغربي آنذاك امحمد بوستة كان مطلوبا.
هكذا بدا له الأمر، وهو يصف الوزير الأول الذي دلف إلى غرفة بالفندق، وهو يضع نظارات سوداء على عينيه، ويحاول إخفاء وجهه، بعد أن ارتدى لباسا فضفاضا، لا يدل على مكانته في هرم السلطة. قال إنه كان يلتفت يمينا وشمالا مخافة أن تمسك به العيون، في إشارة إلى الموقف العربي الذي كان يقضي بمقاطعة مصر ورفض إجراء أي اتصال معها، بعد إبرامها اتفاق صلح منفرد مع إسرائيل. إلا أن معطيات موضوعية فرضت على كل من الرباط والقاهرة أن يتحاورا في مسائل أساسية واستراتيجية.
يصف بطرس غالي المشهد بقوله: «دعوت المغاربة إلى المشاركة في تناول المشروبات.. والسيجار الفاخر الموضوع في غرفتي بسخاء، من المضيفين الكوبيين، ونحيت الدبلوماسية جانبا وتكلمت بصراحة». ثم عرض إلى ما اعتبره صدمة بلاده حيال الموقف الذي اتخذه المغرب، وهو من كان يسعى إلى إفساح المجال أمام بدء مفاوضات سلام في الشرق الأوسط.
بعد مناقشات كثيرة، وقع الاتفاق على نقاط عدة، منها أن الدول التي تحاول عزل مصر تختلف على الدول التي تحاول عزل المغرب بسبب نزاع الصحراء. وليست هناك جدوى من وراء الإعلان عن تقارب مصري – مغربي، لأن من شأن ذلك ببساطة جمع المجموعات المختلفة في كتلة ضد البلدين معا. كما تم الاتفاق على مواصلة المشاورات من خلال ممثلي المغرب ومصر في نيويورك. وفهم بطرس غالي من هذا الطرح أن الوزير الأول المغربي يريد أن يبقى وزير الخارجية امحمد بوستة بعيدا عن الصورة. ولم يتوصل الطرفان إلى اتفاق حول التعاطي والأنباء المتداولة آنذاك حول احتمال انضمام قوات مصرية إلى دعم المغرب في حرب الصحراء.
هل ما قاله بطرس غالي كان سليما في بنياته وتحليلاته وأفكاره؟ الأهم أن وقائع ذلك اللقاء لم يتم الحديث عنها رسميا في الرباط والقاهرة على حد سواء. ثم أصبح الوزير غالي أمينا عاما للأمم المتحدة، وكان على طاولة مكتبه ملف اسمه قضية الصحراء الذي كانت العاصمة القاهرة تدعم حقوق المغرب بكل وضوح.
أنتقل إلى الحكاية الثانية:
أزيد من ثلاثة عقود ونصف العقد عاشها بطرس غالي، ولم ينس حادث المنصة الشهير الذي أودى بحياة الرئيس المصري محمد أنور السادات. من جهة لأنه عمل برفقته وزيرا للخارجية في فترة المفاوضات التي آلت إلى إبرام معاهدة «كامب ديفيد». وظل يؤرقه السؤال حول مصير ما كان يعتبره سلاما مع إسرائيل بعد غياب السادات. ومن جهة ثانية لأن مروره بوزارة الخارجية كان قرارا اتخذ في غيابه ومن دون استئذانه.
روى غالي أنه علم بتعيينه في منصبه يوما، وهو في بهو انتظار عودة زوجته من رحلة خارجية، في مطار القاهرة الدولي، تقدمت منه صحافية مصرية لتقول له: مبروك عليك المنصب الجديد، ولم يكن يعرف بماذا يتعلق الأمر. وعندما استدعاه رئيس الوزراء المصري ممدوح سالم لإبلاغه بقرار اختياره من طرف الرئيس أنور السادات اعتذر بكل الأسباب الممكنة، كونه يهتم بالبحث الأكاديمي، ويرتبط بالتزامات مع منظمات تعنى بالدفاع عن أوضاع حقوق الإنسان. إلا أن الرد جاءه صريحا، يفيد بأن مرسوما بتشكيل الوزارة صدر فعلا، ولا مجال لمعاودة النظر في مضمونه وأسمائه.
يحيل حوار الصم بين رئيس الوزراء المصري ووزير الدولة في الخارجية المعين بطرس غالي، على أسلوب اختيار المسؤولين لإدارة الشأن العام في بعض البلدان. إذ توضع أسماؤهم على قوائم من دون امتزاج رأيهم، بينما هناك آخرون يحلمون دائما بأن يأتي اليوم الذي يخاطبهم فيه أي مسؤول بشأن التعيين في أدنى منصب. ولم يكن اعتزاز بطرس غالي بعمله الأكاديمي، مدرسا وباحثا ورئيسا لمعهد الدراسات في صحيفة «الأهرام»، عندما كان يشرف على إصدار موسوعة «السياسة الدولية» مرة كل شهر، مبررا وحيدا. فقد أعاد إلى الأذهان كيف أنه وأسرته كانوا ضحايا حكم الرئيس عبد الناصر، عندما انتزعت منهم أراضيهم بدعوى التأميم والحرب على الإقطاع. واصفا إجراءات تطبيق ما عرف بالاشتراكية أنه كان عبارة عن مصادرة أملاك الغير. ولم يحرره من مظالم الفترة سوى وجوده كأستاذ جامعي، حيث كان «لا يزال هناك قدر من الاحترام للإنجاز الفكري».
انضم بطرس غالي إلى الواجهة الحكومية، ثم هدد مرات عديدة باستقالته عندما كانت الأمور تسوء، إن على صعيد مفاوضات السلام مع إسرائيل أو في نطاق تدبير الملفات الداخلية. وروى أنه قرر ليلة استعراض السادس من أكتوبر الذي كان يقام سنويا احتفاء بحرب أكتوبر، أن يبتعد عن الضوضاء. إذ لم يكن يحبذ المناسبات الاستعراضية، لذلك سافر إلى الإسكندرية لأخذ قسط من الراحة، عبر الاسترخاء على شاطئ البحر. لكن حوارا دار بينه وأصدقاء عرض إلى أجواء التوتر التي كانت تسود علاقات أنور السادات مع معارضيه من الإسلاميين واليساريين والوفديين ونخب المثقفين، وعلق بطرس غالي على ذلك بأن موجة الاعتقالات التي عرفتها مصر كانت بدافع الانتقام الشخصي للسادات «أكثر من كونها لأسباب تتعلق بالدولة». ورأى أن السلطة تصبح خطرة، عندما يكون المسؤول معزولا في برج عاجي، و«يفقد الاتصال مع الواقع السياسي».
كان مسترخيا على شاطئ الإسكندرية عندما وصلته أنباء عن حادث المنصة، ارتدى ملابسه وتوجه إلى القاهرة. وعندما التقى رفاق الدرب في المسؤولية الحكومية، قالوا له إن السادات قتل وإن اسم بطرس غالي كان على رأس قائمة المطلوب تصفيتهم.