قصة مدرسة الشعب
يونس جنوحي
التقسيم الذي تضعه الأسر المغربية لقطبي التعليم في المغرب مضحك فعلا، بل ويلخص كل شيء ويشخص الداء والدواء أيضا.
مدارس «المخزن» ومدارس «الفلوس». لكن ما يقع تحديدا أن الذين لا يملكون المال هم من يسجلون أبناءهم في المدارس الخاصة، ويبررون الأمر كالآتي: «لا ثقة في خدمات التعليم العمومي». رغم أن حكم القيمة هذا يفتقد إلى الدقة والمنطق، ولم يُبن على أي منهج.
عندما أراد المغاربة أن يكون لديهم تعليمهم العمومي، فاتحوا الملك محمد الخامس في الأمر في مدينة طنجة بعد زيارته لها سنة 1947، حيث قام العالم الكبير عبد الله كنون برفع طلب شفهي إلى الملك الراحل، لكي يجعل لمغاربة طنجة الدولية مدارس خاصة بهم لكي يرسلوا أبناءهم إليها بدل أن يضيعوا في زحام مدارس البعثات الأجنبية المنتشرة في المغرب.
لم يكن المغاربة يمانعون في الحقيقة أن يرسلوا أبناءهم إلى مدارس الرهبان التي كانت منتشرة في زمن الحماية، ولو قبل اليهود المغاربة أن يدرس المسلمون في مدارسهم خلال نفس الفترة، لأرسل هؤلاء أبناءهم إلى الحاخامات، خصوصا وأن مدارس الرهبان ومدارس اليهود كانت تتوفر على نظام داخلي صارم وتعليم يشجع على الانضباط، تماما كما كانت المدارس العتيقة التي حصرها المغاربة في التربية الدينية وتلقي العلوم الشرعية.
عندما طلب عبد الله كنون، الذي تنفس هواء طنجة وأحبها ومات فيها ونسيته المدينة وكأنه لم يكن، من الملك محمد الخامس إنشاء مدرسة للمغاربة في المدينة الدولية، استجاب الملك للطلب وأمر بفتح مدرسة لا تزال قائمة إلى اليوم، في زقاق يقابل المسجد الأكبر في طنجة، والذي يعرفه الجميع إلى اليوم.
تلك المدرسة التي ترتفع عتبها كعتبة مسجد، فُتحت سنة 1947 ولم تغلق نهائيا في وجه التلاميذ إلى أن أغلقتها كورونا هذه الأيام، ولا يزال سكان الأحياء القديمة التي تحيط بها يرسلون إليها أبناءهم بانتظام، حسب قدرتهم على الإنجاب بطبيعة الحال، ولا يضعون في أذهانهم هذه القاعدة البليدة التي تفضل المدارس الخصوصية، مهما كانت خدماتها رديئة وغير موثوقة، ويتركون المدارس العمومية التي يشتغل بها أطر بتجارب تفوق العشرين سنة.
لقد وقع انقلاب كبير في مبادئ المغاربة. نتحدث هنا عن النخب وليس عن المغلوبين على أمرهم. فالمغلوبون لم يكونوا يمانعون أيام الاستعمار في إرسال أبنائهم إلى المدارس الفرنسية. فيما الذين كان لديهم وعي وطني دافعوا عن ضرورة إنشاء مدارس للمغاربة وهناك من صرف ماله الخاص لبناء مدارس سميت وقتها «المدارس الحرة».
بينما اليوم، تقوم النخب بإرسال أبنائها لكي يدرسوا في كل ما هو أجنبي، حيث يصرفون مبالغ سنوية على أبنائهم في التعليم الابتدائي والثانوي، تكفي لفتح معمل ودفع أجور عماله كل سنة.
هؤلاء يربون أبناءهم على ضرورة اعتزال المغاربة والنظر دائما إلى الضباب. وحده هذا الوباء ذكرهم أنهم ينتمون إلينا، فحتى لو حجزوا في الطائرات واستعملوا جوازات سفرهم الحمراء، فلن يستقبلهم أحد.
رحم الله عبد الله كنون، ولو أنه كان حاضرا بيننا اليوم ورأى كيف يتغول الإسمنت وكيف تحولت قناعات المغاربة إلى النقيض، لما طلب من الملك الراحل بناء أول مدرسة عمومية مغربية السيادة، وربما لاكتفى بطلب مأذونية لنفسه أو بقعة أرضية تطل على المحيط. ربما يبني ورثته فوقها مدرسة خاصة اليوم!
لكن الأمر يتعلق بعالم جليل، لا تعرف الأجيال الجديدة عنه أي شيء سوى نصوص من كتاباته تُبرمج في المقررات الدراسية خلال حصص اللغة العربية، والتي لم يعد يركز عليها التلاميذ، ولا تُحبها حتى الأسر..