قصة «فندق الحيوانات الأمريكي» في فاس
أول تجربة لإيواء الحمير والبغال المُتخلى عنها
هذه الشهادة للصحافي البريطاني «لاورنس. ه»، وهو يتحدث فيها عن ذهابه إلى بيت موظف في الخارجية المغربية اسمه عبد الله الفاسي، ثم صادف في طريقه رجالا وهم في غمرة انشغالهم بالتخلص من جيفة تعود إلى حصان نافق. هذه الأجواء تعود إلى سنة 1908. يقول: «أخرني موكب من بضعة رجال صادفتهم في طريق ضيقة يحملون حصانا نافقا. كان المنظر استثنائيا، لأن الحيوانات تبقى ممددة في المكان الذي ماتت فيه. إنه أمر شائع أن ترى الجثث المقرفة للحيوانات ممددة في الشوارع، أو أن تصطدم بها في الأماكن المظلمة، وتقاطع الفئران وهي تتناول وجبتها في الظلام.
يبدو أن هذا الحصان المسكين مات في زنقة ضيقة، لذلك حمله الرجال بعيدا عن المكان الضيق، حتى يرمى في مدخل الحي المفتوح، لتأكله بسرعة الكلاب الضالة التي تحوم في المكان، بحثا عن الجثث والفضلات المرمية في أنحاء المدينة للاقتيات عليها».
يونس جنوحي:
+++++++++++++++++++++++
إيمي بيند.. أمريكية آوت دواب فاس سنة 1927
منذ مجيئها إلى المغرب لأول مرة في بداية عشرينيات القرن الماضي، قررت إيمي بيند بيشوب، هذه السيدة الأمريكية، أن تستقر في المغرب وتشتغل في مجال الرفق بالحيوان، خصوصا البغال والحمير في قلب مدينة فاس.
فعند وصول هذه السيدة إلى المغرب، لاحظت أن أزقة فاس تعج بالجيف، وأغلبها حمير اشتغلت في حمل الأثقال بين أزقة فاس الضيقة، سيما قرب أسواق الحرفيين.
وحسب الأرقام التي تعود إلى فترة سنة 1927، فقد كان هناك أزيد من 40.000 دابة تعيش في مدينة فاس ونواحيها، وأغلبها تلقى نفس المصير، أي تصبح متخلى عنها بمجرد ما أن تصبح غير قادرة على حمل أثقال وأمتعة والمسافرين والتجار.
لم تقف إيمي مكتوفة اليدين، بل راسلت أصدقاءها في الولايات المتحدة، وبينهم نشطاء في مجال الرفق بالحيوان، وشرحت لهم وضعية الدواب في مدينة فاس على وجه الخصوص، وطلبت منهم أن يساعدوها على تأسيس أول ملجأ للحمير والبغال، للاعتناء بالدواب المتخلى عنها والمريضة. ساهمت «إيمي» بمبلغ 8000 دولار، التي قدمتها تمويلا أوليا للمشروع إكراما لروح والدتها.
هذا المبلغ الأولي، استُعمل لبناء الفندق الذي عُرف لاحقا باسم «The American Funduk»، أي «الفْندق» الأمريكي، نسبة إلى جنسية صاحبته.
لجأت إيمي إلى كل من سيدني كولمان، وهو ناشط بارز في نيويورك ومن أوائل قادة حملة الرفق بالحيوان في أمريكا والعالم، بالإضافة إلى الدكتور فرانسيس رولي. وهذان الرجلان معا ساعدا على تأسيس تجربة الفندق الأمريكي واشتغاله، ووفرا الأطر اللازمة لرعاية الحيوانات المريضة، كما اشتغلا أيضا على جمع المزيد من التبرعات للمركز.
وبحسب أرشيف المؤسسة، التي ما زالت أبوابها مفتوحة إلى اليوم في مدينة فاس، بعد أن أصبحت مفخرة للصداقة المغربية الأمريكية، فإن الدكتور رولي، ثم د. كولمان، كانا أول من اشتغلا على التوالي في منصب رئيس المركز، وعملا على جلب المساعدات من متبرعين أمريكيين. وبعد ذلك تولى حفيد الدكتور سيدني كولمان الإشراف على المؤسسة، التي بقيت تحمل ذكرى السيدة «إيمي»، صاحبة الفكرة، وأول من بادر إلى بناء الفندق من مالها الخاص.
تجربة «الفندق الأمريكي» تبقى جزئية غير معروفة جدا في تاريخ العلاقات الأمريكية المغربية، وأيضا في تاريخ الرفق بالحيوان في المغرب. إذ إن المغاربة وقتها كانوا يخصصون «الفْندق» لإيواء الحيوانات التي تعود على أصحابها بالمنفعة ولا يستطيعون السفر والتنقل داخل البلاد بدونها.
ونظرا إلى أن هذه الحيوانات لم تكن فقط وسيلة نقل حيوية، وإنما الوسيلة الوحيدة أيضا، فإن تعرضها للأمراض والأوبئة والتقدم في السن كانت فعلا تشكل مأساة على مستوى التدبير.
مبادرة «الفندق الأمريكي» تبقى فريدة من نوعها، خصوصا وأنها توثق لذكرى سيدة أمريكية، قررت أن تُغير القاعدة التي تذمر بشأنها العديد من الأجانب الذين مروا بالمغرب أو استقروا فيه. إذ إن الجيف المتحللة للحيوانات في قلب أزقة فاس العتيقة، كانت فعلا مصدر إزعاج للمغاربة وللأجانب أيضا. لكن عدم قدرة أغلب البسطاء الذين كانوا يشتغلون في الأسواق على تحمل مصاريف إيواء الحمير التي «أحالها الزمن على التقاعد»، شكلت دائما مصدر ازدياد أعداد الحمير المتخلى عنها في المدن، ولم يكن «الفندق الأمريكي» وحده كافيا لإيواء كل تلك الأعداد، لكنه على كل حال كان تجربة تاريخية غاية في الأهمية.
هل عاد تقليد إيواء «الحمير» المتخلى عنها للانتشار بين الأجانب؟
في عز فترة انتشار وباء كورونا، خطف زوجان بريطانيان الأضواء في جنوب المغرب، بعد تأسيسهما ملجأ خاصا للحيوانات المتخلى عنها.
هذا المأوى الذي يشبه مزرعة تجمع الحمير «الضالة» وبعض الدواب الأخرى التي تخلى عنها أصحابها وصارت تتجول في محيط منطقة مراكش، كانت فكرة قرر الزوجان تبنيها بعد انتقالهما إلى منطقة «أمناس» التي تبعد عن مراكش بخمسة وعشرين كيلومترا فقط.
الزوجان سوزان ماشين وتشارلز هانتوم أمضيا عقودا من حياتهما يلاحقان الملفات العالقة في محاكم لندن، فقد مارسا مهنة المحاماة التي ضمنت لهما تقاعدا مريحا نسبيا، وفكرا في الهجرة النهائية صوب المغرب والانغماس في حياة القرويين البسيطة -أو هكذا بدت لهما-.
منذ زيارتهما الأولى إلى المغرب سنة 2009، انتبه الزوجان إلى انتشار ظاهرة الحيوانات المتخلى عنها، البغال والحمير خصوصا، فراودتهما فكرة بناء فندق -على طريقة الفندق الأمريكي- لإيواء هذه الحيوانات وتقديم العلاج لها.
وحسب تصريحات سابقة للزوجين، أثناء لقائهما ببعض المنابر المحلية، فقد كشفا أنهما في البداية كانا ينويان استثمار أموالهما في بناء فندق سياحي لاستقبال النزلاء الأجانب وتنظيم برامج سياحية لاستكشاف المنطقة، لكنهما سرعان ما غيّرا رأيهما وقررا، بدل تأسيس الفندق السياحي، تأسيس «فْندق» من نوع آخر، خاص باستقبال الحمير والبغال المتخلى عنها.
حاليا يوجد قرابة 140 حيوانا متخلى عنه، في قلب المزرعة التي يشرف عليها الزوجان، ويقدمان فيها العلاج للحيوانات المتخلى عنها.
ومصدر مجيء هذه الحيوانات، هو هوامش الأسواق الأسبوعية المنتشرة بكثرة في نواحي مراكش. بالإضافة إلى الدواب الأخرى التي يستعملها الأهالي في أشغالهم الفلاحية اليومية، وللتنقل أيضا بين الدواوير.
التخلي عن هذه الحيوانات ليس إلا عادة قديمة كانت منتشرة في المغرب، قبل قرون، والواضح أن بعض آثارها ما زالت منتشرة بيننا إلى اليوم.
هذا المشروع البريطاني، الذي يمكن اعتباره امتدادا لفكرة الفندق الأمريكي، يشتغل بتمويل مصدره الوحيد تبرعات المساهمين، في وقت ترتفع فيه النفقات اليومية، ما بين رواتب المشرفين على الرعاية والطب البيطري، والعلف والأدوية، قرابة 10 ملايين سنتيم شهريا.
والأمر نفسه ينطبق أيضا على تجربة «الفندق الأمريكي» التي تصارع الزمن لقرابة قرن متواصل، اعتمدت فيه بشكل كامل على تبرعات المساهمين من زوار المكان، أو تبرعات بعض النشطاء الأمريكيين في قلب الولايات المتحدة، وبعضهم مولوا المشروع لسنوات، دون حتى أن يحظوا بفرصة زيارة المغرب.
أجدادنا.. والرفق بالحيوان
هل كان أجدادنا فعلا يعاملون حيواناتهم برفق؟ ظاهرة انتشار الجيف في الأماكن العامة وحتى في الطرقات، أشار إليها رحالة ومغامرون وباحثون أجانب زاروا المغرب منذ سنة 1880، وصولا إلى عهد الحماية الفرنسية. وكل هؤلاء أجمعوا على أن الظاهرة سببها الإهمال، وعدم تنظيم التخلص من الحيوانات التي لم تعد قادرة على العمل.
لكن هؤلاء أغفلوا جزءا مهما من تاريخ المغرب الذي عاش فيه أجدادنا قبل قرون، حيث إنهم نظموا فعلا علاقتهم بحيواناتهم في القرون الوسطى التي كانت فيها أوروبا غارقة في الجهل. إذ إن أول ظهور للفنادق في المغرب، رافقه أيضا ظهور لإسطبلات خاصة بالدواب التي تنقل المسافرين المغاربة. وفي الوقت الذي يصل فيه المسافرون إلى المدن الكبرى وقتها مثل فاس ومراكش، ويقصدون الفنادق للاستراحة، فإن حيواناتهم أيضا تحظى بالرعاية، وهو ما أشار إليه مؤرخون مغاربة وأجانب أيضا.
لكن «المشكلة المغربية» تبدأ عندما تصبح هذه الدواب عديمة النفع، ويقرر أصحابها التخلص منها.
هناك عادة مغربية تتعلق بهذه النقطة بالذات. إذ إن السلوك الطاغي بهذا الخصوص، هو أن يتم تجريد الحيوان – خصوصا البغال والحمير- أولا من «البردعة»، ثم يُترك لمصيره، بعد أن يصير صاحبه غير قادر على إطعامه، أو لأنه يرى أن إنفاق العلف على حيوان عديم النفع إسراف لا داعي له. وهكذا يُترك الحيوان لمصيره خارج أسوار المدينة. ولأن المغاربة، كما سبق لمؤرخين أن أشاروا إليه، يعافون أكل لحوم البغال والحمير والأحصنة، فإن مصيرها بعد شيخوختها وعدم قدرتها على الخِدمة، أن يتم التخلص منها، في حين أن مصيرها في بلدان أخرى، قبل قرون خلت، كان الاستهلاك البشري وذبحها تماما كما تُذبح الأبقار.
استهلاك هذا النوع من اللحوم لم يكن متداولا في المغرب، ولم يحبذه أجدادنا قبل قرون وإلى اليوم، وهكذا فقد كان مصير الحيوانات المُتعبة أن تُترك لمصيرها، أو أن يتم تضليلها عمدا لكي تبقى طليقة، بدون مأوى ولا علف، إلى أن تلفظ أنفاسها الأخيرة في العراء.
لكن أسوأ السيناريوهات، ما كان منتشرا في فاس، بحسب شهادات تاريخية كثيرة ووافرة. إذ كان الأهالي يعمدون إلى ترك الحيوانات المريضة والمتعبة والطاعنة في السن، بين الأزقة تتجول وحيدة وتقتات على قمامة المنازل، إلى أن تموت وتبقى الجيف لتتحلل على بعد أمتار فقط من المنازل. وهذا الأمر كان فعلا يسبب كارثة صحية في المدينة، ويساهم في انتشار الأمراض والأوبئة.
لم يكن هذا وضع فاس وحدها، فقد رصدت بعض الشهادات التي دونها أجانب زاروا المغرب، الظاهرة نفسها في كل من طنجة ومراكش والصويرة أيضا. إذ كانت ظاهرة انتشار جيف البغال والحمير على وجه الخصوص شائعة جدا، سيما في أزقة المدن. في حين أن القرى وقتها، لم تكن تعاني من هذه الظاهرة، بحكم شساعة الأراضي وانتشار المزارع، فقد كان الأهالي يعمدون إلى رمي الجيف مباشرة في مصب الوادي، وانتظار تيار المياه لكي يجرفها بعيدا نحو مصب النهر.
أطباء قادوا أولى حملات مكافحة الأوبئة
منذ أيام المولى الحسن الأول، خصوصا ما بعد سنة 1880، والأطباء الأجانب يتوافدون على المغرب بصورة أقوى مقارنة مع الفترات التاريخية السابقة.
مقارنة بسيطة مثلا بين فترة حكم المولى إسماعيل، الذي توفي سنة 1727، وحصد خلال فترة حكمه صداقات وتحالفات متينة مع القوى الأوروبية، وبين فترة المولى الحسن الأول الذي كان يتعامل مع الأجانب باحتياط، تكشف أن أعداد الأطباء الذين توافدوا على المغرب في عهد المولى الحسن الأول تضاعف بشكل غير عادي، إذ بالكاد توجد إشارات إلى زيارات «محتشمة» لأطباء أجانب إلى المغرب، قبل عهد المولى الحسن الأول.
ومع اقتراب سنة 1894، نجد أن حضور الأطباء الأجانب في المغرب صار أقوى، وساهم الوزير القوي، الصدر الأعظم باحماد في تعزيز حضور الأطباء الأجانب، ومنحهم تسهيلات كبيرة في فاس وطنجة ومراكش أيضا، وتمكنوا من ربط صداقات لأول مرة في تاريخ الطب الأجنبي، مع أثرياء وأعيان ووزراء وقضاة مغاربة، صاروا يستفيدون من خدمات هؤلاء الأطباء الأجانب – فرنسيون وبريطانيون على وجه الخصوص- بعد أن كانت العادة المغربية تقتضي مقاطعتهم باعتبار أنهم «نصارى».
هناك مراجع كثيرة تطرقت إلى بدايات وجود الأطباء الأجانب، خصوصا الفرنسيين الذين حلوا بين المغاربة لاعتبارات علمية أولا، واشتغلوا رسميا في بعثات علمية كان الغرض منها علاج الأمراض التي تهدد سلامة مواطني بلادهم، أثناء إقامتهم في المغرب. وهؤلاء الأطباء الذين حلوا في المغرب قبل 1912، كانوا ينزلون في مرسى طنجة، ويقطعون المسافة بينها وبين الدار البيضاء فوق ظهور البغال والخيول، وفي بعض البعثات كانت الوجهة نحو فاس أيضا.
وقد ذكر «روم لاندو» في مذكراته أن الصدر الأعظم باحماد وضع إمكانيات كبيرة لإنجاح بعثة طبية إلى الدار البيضاء ونواحيها، أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر، وتبرع لمرافقي الطبيب بالخيول والعلف لإعانتهم على مواصلة الرحلة الاستكشافية، وتقديم العلاج إلى المرضى.
ليست هذه أول إشارة في مصادر التاريخ إلى مساعي باحماد لإدخال الأطباء إلى المغرب، وتشجيعهم على استكشاف المناطق، وتقديم المساعدات الطبية إلى القبائل، فهناك أيضا مراسلات باسم القصر الملكي في فاس، مع القصر الملكي البريطاني لبحث مساعدات للمغرب، الهدف منها القضاء على الأوبئة الفتاكة التي كانت تحصد آلاف الأرواح سنويا.
هؤلاء الأطباء الأجانب كانوا أمام وضع حساس للغاية، فقد كانت الأوبئة منتشرة بقوة في المغرب، والسبب هو العادات الصحية السيئة وغياب معايير النظافة، سيما داخل التجمعات السكانية الكبرى. فحتى الدبلوماسيون الأجانب كانوا يعانون من المشاكل الصحية أثناء إقامتهم في المغرب، قبل أزيد من قرن، وذلك بسبب غياب أنظمة الصرف الصحي، ومخاطر تلوث المياه بسهولة. وقد حدث فعلا أن انتشرت أمراض كثيرة بسبب تلوث مياه الشرب، رغم الحرص الكبير للأجانب على عدم شرب المياه التي تأتي إلى منازلهم عبر القنوات التقليدية. إذ كانت الحمى والكوليرا والتيفوئيد وغيرها من الأمراض الفتاكة تنتشر بسهولة لهذا السبب، وأيضا بسبب انتشار الجيف بشكل مهول، خصوصا في مدينة فاس التي كانت تعتبر عاصمة المغرب السياسية والاقتصادية أيضا، ويتخلص سكانها من الحمير المتعبة والبغال النافقة، ويتركونها تتحلل في قلب الأزقة الضيقة، وهو ما كان يزيد من خطورة الإصابة بالأمراض.
الجيف في الأنهار والأزقة كانت عادة منتشرة بالمغرب
هذه العبارات الآتية، من شهادة موثقة للصحافي البريطاني «لاورنس. ه» الذي جاء إلى المغرب في مهمة صحافية، وحل في مدينة فاس وخصصت له دار في قلبها، لكي تسهل لقاءاته الصحافية مع السلطان المولى عبد الحفيظ سنة 1908.
يقول: «في اليوم الموالي انتقلت إلى البيت الذي حجز لي من طرف السلطان، كان البيت مكونا من طابقين في كل طابق أربع غرف واسعة تطل على حديقة واسعة، يتوسطها خزان كبير للمياه. غرفة الجلوس كانت محاذية للمدخل، بالإضافة إلى ثلاث غرف صغيرة مستعملة للمطبخ والمكتب. خزان المياه كان مزودا بقنوات تصله مع مجاري المياه الجوفية القادمة من النهر مخترقة المدينة بمنازلها، وصولا إلى أسفل المدينة. الماء لم يكن صحيا بالمرة، خصوصا وأنه يعبر قنوات كثيرة في مختلف أحياء فاس. مذابح الماشية بنيت على مشارف النهر، وكانت الحيوانات الميتة تلقى فيه دائما.
بعد وقت قصير من انتقالي إلى المنزل الجديد، أصبت بنوبة إسهال حادة، واكتشفت أن السبب هو المياه التي كان يزودنا بها الخادم الكسول، والتي كان مصدرها الخزان الذي يملأ بالماء الذي تحدثت عن مصدره سلفا.
كان لدي تخوف كبير من الإصابة بأمراض من قبيل الكوليرا والتيفوئيد، وهي أمراض كانت منتشرة في فاس، وبإمكانها أن تمحوني من الوجود تماما.
نظام التجفيف في فاس كان يحتاج إلى إعادة ترميم، كان يغص بجرذان مثيرة للاشمئزاز. كبيرة، عنيفة، بأقدام وردية، مرعبة بشكل يضيف مزيدا من الاحتقان إلى أجواء فاس».
ليست هذه هي الإشارة الوحيدة في مذكرات هذا الصحافي إلى مشكل انتشار الجيف في المغرب، بل أضاف في مقطع آخر، يقول فيه: «اليوم سوف نتناول طعام العشاء في منزل عبد الله الفاسي، وزير الخارجية. بعد الساعة السادسة مساء بقليل، كنت في طريقي إلى منزل المقام العالي.
أخرني موكب من بضعة رجال صادفتهم في طريق ضيقة يحملون حصانا ميتا. كان المنظر استثنائيا، لأن الحيوانات تبقى ممددة في المكان الذي ماتت فيه. إنه أمر شائع أن ترى الجثث المقرفة للحيوانات ممدة في الشوارع، أو أن تصطدم بها في الأماكن المظلمة، وتقاطع الفئران وهي تتناول وجبتها في الظلام.
يبدو أن هذا الحصان المسكين مات في زنقة ضيقة، لذلك حمله الرجال بعيدا عن المكان الضيق، حتى يرمى في مدخل الحي المفتوح، لتأكله بسرعة الكلاب الضالة التي تحوم في المكان بحثا عن الجثث والفضلات المرمية في أنحاء المدينة للاقتيات عليها».
وأضاف هذا الصحافي أيضا، وهو يتحدث عن أجواء مدينة فاس، وعادة انتشار الحيوانات النافقة في جنبات شوارعها: «كانت الليلة مفزعة، انزعجت فيها من نباح الكلاب المتواصل. يا لها من مخلوقات بغيضة جائعة، لكنها مثيرة للشفقة أيضا. طعامها الوحيد كان الجثث الملقاة على جنبات الطريق. أحيانا كانت الكلاب تنهش جثث الحيوانات وهي لا تزال تحتضر، لا وقت لديها لانتظار الحيوان حتى يموت. كانت تتصارع في ما بينها ولا تنصرف عن الجثة إلا بترك العظام خالية من أي لحم، تتركها كي تلفحها الشمس المحرقة.
في المغرب رأيت كثيرا من الجثث المتعفنة، كانت تبدو وحشية، لكن هذه الكلاب كانت تقوم بخدمة جليلة، وهي تنظيف الجثث وترك العظام فقط. كانت تلك الكلاب المتسخة تحوم بالخيمة طوال الليل. كانت أقرب من ابن آوى إلى طبيعة الكلاب المعروفة».
مغاربة وتجارب إيواء الحيوانات المُتخلى عنها قبل قرون
في عهد الدولة السعدية، التي سقطت سنة 1659، عاش المغاربة بعض التجارب الصحية والحضارية المهمة، سيما في أوج قوة الدولة، إذ كانت هناك مستشفيات لإيواء المرضى في كل من مراكش وتارودانت والصويرة، بالإضافة إلى مراكز للاعتناء بالحيوانات المتخلى عنها، بالقرب من كبريات الأسواق المغربية وقتها، مثل سوق مراكش.
فقد جرت العادة، حسب إشارات مؤرخين مغاربة، أن يتم الاعتناء بالحيوانات التي لم تعد قادرة على حمل الأثقال ونقل الأمتعة ونقل الركاب، وإيواؤها في إسطبلات خاصة.
لكن الأزمات الاقتصادية التي عرفتها البلاد، خصوصا في السنوات التي تمردت فيها قبائل كثيرة ضد المخزن، لم يعد ممكنا توفير خدمات من هذا النوع. إذ كان العرف يقتضي في البداية أن يدفع صاحب الحيوان المريض مقابلا للاعتناء بالحيوان خلال الأشهر الأخيرة من حياته التي قضاها في الخِدمة، لكن مع توالي الأزمات الاقتصادية والسياسية، عادت الفوضى من جديد في هذا الجانب، وصار الناس يتخلون بسهولة عن الحيوانات التي لم تعد قادرة على أداء مهمتها، ويتركونها تتجول في الشوارع والخلاء على مشارف المدن، وهو ما كان يتسبب في نفوق العديد منها من شدة الجوع والمرض، وتتحول «الجيف» إلى بؤرة حقيقية لنقل الأمراض المُعدية، سيما خلال سنوات الجفاف.
مبادرة دفن الجيف لم تكن منتشرة، بل كان المغاربة لقرون طويلة يواظبون على إلقاء الأبقار والبغال النافقة بسهولة في مجرى الوادي. وحتى في سنوات الجفاف، كانت العادة المغربية تقتضي أن تُنقل الجيف إلى مصب الوادي، في انتظار أن تجرف المياه، بعد هطول المطر طبعا، تلك الجيف إلى البحر.
في مدينتي فاس ومراكش فرض بعض القواد نظاما خاصا بضرورة التخلص من الجيف، وعدم تركها بين أزقة المدن. إذ بعد استفحال الظاهرة، لم يجد ممثلو المخزن بُدا من ضرورة فرض عقوبات على من يتركون حيواناتهم المتخلى عنها لتموت وحيدة بين أزقة المدن العتيقة، أو بالقرب من مواقع الأسواق. وهذه الإشارات سبق أن تحدث عنها المؤرخ والدبلوماسي المغربي عبد الهادي التازي في واحدة من محاضراته عن تاريخ مدينة فاس. إذ يقول هذا المؤرخ إن علماء القرويين لعبوا دورا كبيرا في استنكار تلك الظاهرة التي لم تكن تُشرف المدينة العتيقة في فاس، لكن العادة كانت أكبر من أن تُحارب من أعلى المنابر، وكان الأمر يتطلب فرض عقوبات صارمة في حق المخالفين.
بعد 1912، فرضت الحماية الفرنسية قوانين تمنع أن يتم التخلي عن الحيوانات المريضة في الشوارع، وضرورة نقلها إلى مناطق خالية تماما بعيدا عن مصب الأنهار التي تنقل مياهها إلى المدن. لكن مبادرة «الفندق الأمريكي» كما رأينا في هذا الملف، كانت سباقة إلى الحد من ظاهرة التخلي عن الحيوانات في شوارع مدينة فاس على وجه الخصوص.
ظاهرة إيواء الحيوانات المتخلى عنها في المغرب، كما رأينا، كانت فعلا ضاربة في القدم، رغم أنها لم تكن منظمة بالصورة التي أصبحت عليها عند المبادرات الفردية أولا، ثم دخول الجمعيات التي تُعنى بالرفق بالحيوان. فمع وصول أوائل الأجانب الذين قرروا الاستقرار الفعلي في المغرب، أقلقتهم هذه الظاهرة، لكن قلة منهم فقط، بالكاد يعدون على رؤوس الأصابع، ساهموا في «تحديث» الحياة العامة داخل المغرب.