كريم أمزيان
في يوم الخميس 26 نونبر الماضي، وبالضبط في الساعة السادسة والنصف صباحا، توصلت قاعة المواصلات المركزية في ولاية أمن مكناس، بإشعار يقضي بضرورة الانتقال إلى حي الانبعاث 01 في شارع محمد السادس، من أجل معاينة اكتشاف إضرام النار في منزل بالحي نفسه.
أخبر رئيس الفرقة الجنائية الأولى للشرطة القضائية، على الفور نائب الوكيل العام بمحكمة الاستئناف الذي كان مداوما، فانتقل إلى عين المكان، بمعية ضابط شرطة ممتاز وضابط الشرطة القضائية، مساعد النيابة العامة، وعميد شرطة رئيس فرقة مكافحة العصابات، فضلا عن طاقم فرقة الأبحاث والتحريات، وتقنيي فرقة مسرح الجريمة، المنتمين إلى فرقة الشرطة العلمية، وطاقم أمني تابع للدائرة السابعة للشرطة.
وصلت العناصر الأمنية إلى عين المكان، وعاينت دخانا كثيفا ينبعث من نوافذ الطابق الأول للمنزل، فيما عناصر الوقاية المدينة التي حلت به قبل وصول مصالح الأمن، كانت قد شرعت في إخماد ألسنة اللهب، مستعينة في ذلك بخراطيم المياه. وبمجرد ما أطفأتها، حتى صعد شخص يدعى (م.م) الدرج، يقطن رفقة أسرته الصغيرة، في الطابق السفلي بالمنزل الذي تعرض للاحتراق، مقدما نفسه أنه أخ الشخص الذي اشتعلت النيران في بيته، والذي أكد أنه يعيش فيه وحيدا.
لم تسمح العناصر الأمنية للمدعو (م.م)، بولوج مسكن أخيه، بل منعته من ذلك، وعملت على اتخاذ كافة الإجراءات التقنية والميدانية للحفاظ على الأدلة، من أجل المعاينة والبحث، والقيام بجميع التحريات المفيدة حول الموضوع. إذ بمجرد إخماد الحريق بشكل كلي، ولج الطاقم الذي حل بالحي في الصباح الباكر، البيت الذي يضم مطبخا وحماما وغرفتين وصالة، والذي تسبب الحريق في إتلاف كل تجهيزاته ومحتوياته.
المعاينة الجماعية التي أجراها الطاقم الأمني، الذي حل بالبيت الذي تعرض للاحتراق، كانت بشكل جزئي، فكلما انتهى من تمشيط غرفة، انتقل إلى أخرى، إلى أن وصل إلى الصالون الذي تحول أثاثه إلى رماد، باستثناء مائدة خشبية تتوسطه، التهمت النيران جزءا منها فقط. وبالنظر إلى تفحم كل محتويات المنزل، لم ينتبه بعض من أفراد الطاقم الذي حضر إلى عين المكان من أجل المعاينة، إلى شيء موضوع على تلك الطاولة، إلى أن ركز أحدهم النظر فيها، فاكتشف أنه جثة مفصولة الرأس، تبين لهم أنها لشخص ذكر، ملقاة على ظهرها وبطنها منتفخ، وبعض آثار الكدمات والجروح الغائرة بادية عليها في جهة القلب، وبساعد اليد اليسرى وكذا في البطن، فيما لمح رجل أمن آخر بأرضية الصالون، تحت الطاولة نفسها، بقعا حمراء اللون بدت لهم كأنها بقع دم نزفت من عنق الجثة وبمحاذاتها طاولة خاصة بجهاز تلفاز احترق عن آخره.
معطيات أولية
كل المعطيات التي عاينها الطاقم الأمني وعناصر الشرطة القضائية وتقنيو فرقة مسرح الجريمة، أثبتت أن الأمر يتعلق بجريمة قتل، وإضرام النار في الجثة بعد فصل الرأس عنها. وبناء على «المشاهدات الأولية»، وبعد تحديد مسرح الجريمة داخل المنزل، أجرى الطاقم كله، بحذر شديد، بحثا ومسحا تمشيطيا فيه، دون العثور على رأس الجثة، أو حجز أي قرينة، من قبيل أدوات أو أشياء يحتمل استخدامها في اقتراف الجريمة، ما جعل رئيس الطاقم يأمر تقنيي مسرح الجريمة بأخذ عينات بيولوجية من على القبضة الداخلية للباب الرئيسي للمنزل، ومن قنينة ماء حارق كانت موجودة في البيت، ومن أعقاب سجائر وكأس وإبريق، قصد إخضاعها للمقارنة والخبرة الجينية، فضلا عن التقاطهم صورا لمكان الحريق من جميع الزوايا، مع تركيزهم على موقع الجثة وآثار الحروق والجروح الظاهرة عليها، وعملوا على رفع كل آثار وبقايا الحريق الممكن استغلالها لحاجيات البحث، بعد إحالتها على مختبر الشرطة العلمية قصد إخضاعها للتحليلات الضرورية.
ولما كنت العناصر الأمنية، ومعها أفراد من تقنيي مسرح الجريمة، تجري بحثها ومعاينتها، حضر إلى عين المكان نائب الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بمكناس، الذي أجرى بدوره معاينة للجثة، فأصدر مباشرة بعد ذلك أوامره من أجل إحالة الجثة على قسم الأموات، قصد إخضاعها للتشريح الطبي، وتعميق البحث في الموضوع، للوقوف على ظروف وملابسات الحادث. في الوقت الذي حضر الطبيب الشرعي إلى عين المكان، والذي استجاب لنداء هاتفي طالبه بالحضور، فأكد مباشرة بعد معاينته الجثة في مكانها فوق الطاولة الخشبية، أنه لا يستبعد أن تكون بعض الإصابات والجروح الظاهرة بمختلف إطرافها، ناتجة عن احتراقها، غير أنه أشار إلى أنه سيعمل على إحالة عينات منها، وكذا بقايا الحريق على المختبر الطبي الذي يوجد بمدينة الرباط، من أجل إخضاعها لتحاليل دقيقة، ومباشرة بعد توصله بالنتائج، سيقدم تقريرا مفصلا عنها، فضلا عن نتائج التقرير الطبي.
لم تغفل العناصر الأمنية أخذ إفادات أخ الضحية، الذي كان معها في مسرح الجريمة، فتبين أن لا علم له بموضوع الحادث، بعدما صرح بأنه قضى الليلة حارسا بمنزل أحد أصهاره، بتجزئة “فارس”، قبل أن يتلقى اتصالا هاتفيا من قبل زوجته التي أخبرته أن النيران مشتعلة بالطابق الأول للمنزل، فأكد أنه التحق بالمكان في الحين، ووجد عناصر الوقاية المدنية بصدد إطفاء الحريق. وبخصوص بعض المعطيات عن أخيه (ح.م)، أكد أنه ولد في 02 يونيو 1961، بمولاي إدريس زرهون، غير متزوج، ولا مهنة له ويقيم بالطابق الأول من البيت الذي يوجد فيه بمفرده، مشيرا إلى أنه اعتاد استقبال عدد من أصدقائه، بسبب إدمانه على تناول المخدرات واستهلاك الكحول.
وبناء على هذه الإفادات، عملت العناصر الأمينة على ولوج بيت أخ الضحية الذي يشتغل حارسا ليليا وأجرت فيه تفتيشا محكما، في محاولة منها للعثور على ما يمكن أن يفيدها في بحثها، إلا أنه كان سلبيا بعدما لم يقد إلى أي نتيجة.
في تلك الأثناء، وبعدما بدأ السكان في الاستيقاظ، وبدأ بعض المارة يتحلقون حول المنزل لمعرفة ما يجري، سلم رجال الشرطة استدعاء لـ (م.م)، وأمروه بالحضور إلى المصلحة الولائية للشرطة القضائية لدى الفرقة الجنائية الأولى، من أجل الاستماع إلى أقواله، فيما تكلفت عناصر أمنية من الدائرة السابعة للشرطة، بالمناداة على صاحب سيارة لنقل الأموات، من أجل نقل جثة الهالك إلى قسم الأموات بمستشفى محمد الخامس، حتى تبقى رهن إشارة العدالة من أجل إخضاعها للتشريح الطبي وتحديد الأسباب الرئيسية للوفاة.
تمشيط مسرح الجريمة
في غضون ذلك، صدرت أوامر من أجل تنصيب دورية للشرطة تابعة للهيأة الحضرية، من أجل حراسة المنزل وعدم السماح لأي شخص بولوجه، إلى حين الانتهاء من إجراءات المعاينة والبحث. فيما توزع أفراد فرقة الشرطة العلمية، من أجل مباشرة التحريات الميدانية بأزقة ودروب الحي، والقيام بعملية تمشيط للمكان، قصد إيجاد دليل أو قرينة تساعد في عملية البحث. وبينما انشغل الجميع بعملية البحث في الدروب والأزقة المجاورة، اتجهت عناصر إلى مكان خال بعيد بحوالي 200 متر عن الحي الذي يضم المنزل الذي كان مسرحا لجريمة القتل وفصل الرأس عن الجثة، وإضرام النار فيها. وتحت إشراف رئيس المصلحة الولائية للشرطة القضائية، أجرت العناصر المذكورة بحثا دقيقا في المكان الذي تكسو أرضيته نباتات شوكية وأحراش وبعض الأشجار، وعلى مقربة من جذع شجرة زيتون لمحوا قطعة ثوب تبين لهم بعدما اقتربوا منها أنها «جاكيط» سوداء اللون، تفحصوها بعناية، وعاينوا عليها بقع دم، فأمروا تقنيا بالتقاط صور لها في مكان العثور عليها، ووضعوا عليها رمزا وحجزوها بناء على الإجراءات التقنية التي يقومون بها في البحوث القضائية، وأكملوا عملية البحث. وبمكان غير بعيد، عثروا على حقيبة بلاستيكية مخططة باللونين الأصفر والأخضر، فتفحصوها وفق الإجراءات التقنية التي تحتفظ بكل الآثار الموجودة بها، فوجدوا بداخلها «جاكيط» سوداء اللون، بها بقع حمراء، بدت لهم دما، وملفوف بداخلها رأس بشري مفصول عن الجثة لشخص ذكر، بواسطة أداة حادة، ولا يحمل أي آثار للحروق، ووجدوا داخل الحقيبة ذاتها أيضا سكينا كبيرة الحجم، عبارة عن مدية طولها حوالي 35 سنتمترا، بها آثار دم، وقفازا صوفيا أسود اللون وقميصين رياضيين باللون الأزرق، وعلبة شموع وولاعة سجائر، ودفترا وأوراقا بيضاء تضم رسومات مختلفة. وعلى مقربة من الحقيبة، توجد قنينة خمر مكسرة من نوع «فودكا»، ذات سعة 75 سنتلترا.
هذا وتبين لعناصر الشرطة القضائية أن الحقيبة تحمل آثار دم، ما جعلهم يأمرون بالتقاط صور لها، ومنحها هي الأخرى رمزا، وحجزها وفق الإجراءات التقنية الجاري بها العمل، للحفاظ على ما يوجد بها من آثار، ووضعوا السكين وقنينة الخمر فضلا عن ولاعة السجائر وعلبة الشموع والدفتر والملابس، تحت ختم قضائي، في حين جرى نقل الرأس، الذي تبين لهم أنه يخص الجثة ذاتها التي جرى العثور عليها متفحمة، على متن سيارة نقل الأموات، ليبقى هو الآخر رهن إشارة العدالة، لإخضاعه للتشريح الطبي، ثم واصلو عملية البحث والتمشيط، والتي لم تسفر عن العثور على أي أشياء أخرى، فاتجهوا مباشرة بعد ذلك، إلى القيام بتحريات ميدانية في الأماكن التي كان يتردد عليها الضحية قيد حياته، وباستفسارهم بعض الحراس الليليين بالحي ذاته، أكدوا لهم أنه كان يداوم مرافقة أشخاص يشاركونه معاقرة الخمر واستهلاك المخدرات، سواء بمنزله أو في المكان الذي عثروا فيه على رأسه المفصول عن جثته.
بحث عن الأدلة والقرائن
استغلت العناصر الأمنية كل تلك المعطيات، وأمرت بإحضار كل من (ع.م) و(ح.ل) و(س.ز) و(ب.ر) و(س.ن)، فيما ذهب رجال شرطة آخرون إلى مواصلة تحرياتهم في الحي الذي جرت فيه الواقعة، فوصلوا إلى حارس ليلي يدعى (م.ا)، يباشر عمله في الشارع المؤدي إلى المكان الذي تم العثور فيه على الحقيبة التي كانت تحتوي على الرأس الآدمي، فأكد لهم، بعد استفساره، أنه بينما كان منهمكا في عمله، كحارس ليلي، مر بالقرب منه في حوالي الثانية والنصف صباحا، الضحية الملقب بـ «عمونة»، والذي أكد أنه يعرفه حق المعرفة، بحكم إقامته بالحي نفسه، وبمعيته سخص آخر يدعى «ولد الموريطاني»، مقدما لهم مواصفاته، ومشيرا إلى أنهما معا كانا في حالة سكر طافح.
اعترافات تلقائية
في الوقت الذي باشر محققون البحث مع الأسماء التي كان الضحية يجالسها، سارع أمنيون إلى البحث عن المسمى «ولد الموريطاني»، واسمه الحقيقي (ج.ت) وهو من مواليد 02 دجنبر 1995 بمكناس، ويتابع دراسته في مركز التكوين المهني برطيف «سيفيطا».
وخلال البحث معه، لما عرف موضوع استقدامه إلى ولاية الأمن، وبعد اطلاعه على المنسوب إليه، تنازل عن حقوقه بمحض إرادته، وبدأ في سرد بعض التفاصيل المتعلقة بالواقعة وكأنها اعتراف ضمني بعلاقته بالجريمة.
عاد «ولد الموريطاني»، خلال حديثه إلى مرحلة دراسته في الثانوي، وأكد أنه في السنة الأولى منها، تعرف على شاب يدعى (أ.ع)، وكانا يدخنان معا المخدرات، على إيقاعات موسيقى « hard rod وMital» وأصبحا مدمنين عليها، وأشار إلى أنهما تابعا فيلما أمريكيا يسمى «مصاصي الدماء» على إحدى القنوات، واطلعا على كتب عدة ذات التوجه ذاته، والتي تبرز الطريقة التي يمكن من خلالها للإنسان أن يحقق أمانيه، عبر طقوس يقدم من خلالها الإنسان للشيطان قربانا، والذي يجب أن يكون إنسانا شريرا متسكعا أو عاهرة، وهو ما أرادا القيام به، حتى يصبحا من طينة المشهورين. وللقيام بذلك، كان عليهما اختيار شخص بهذه المواصفات، من أجل تقديمه هدية للشيطان، وبعد قتله وجب الشرب من دمه.
وأفاد الموقوف الأول، خلال اعترافاته التلقائية، أنه انتقل بمعية زميله إلى مدينة الحاجب، في إطار التخطيط لعمليتهما، بعد اختيارهما عاهرة هناك، ثم عدلا عن الفكرة، فقررا البحث عن شخص آخر، وبذلك اختارا الضحية وانتقيا المكان المناسب لذلك، وكل المستلزمات، بعد أن حملا التعاويذ والكلمات السحرية التي يجب أن يردداها خلال قيامهما بالعملية، ودونها بخط يده في دفتر، ثم اشتريا سكينا من الحجم الكبير، فيما أكد أن صديقه اقتنى جرسا وكأسا نحاسيين، من أجل استعمالهما في العملية، إيذانا بانطلاقها وشرب الدماء بواسطة الكأس، بعدما اختارا «عمونة» الذي كانا يظنان أنه شرير وشاذ جنسيا وغير متزوج ويتعاطى للمخدرات، ويمارس اللواط وغيرها من المواصفات التي كانا يعرفانها عليه.
هذه الإفادات أبرزت أن المتهمين استعدا بشكل جيد لإحياء طقس تقديم القربان، للانتقال إلى حياة المشاهير وتحقيق الأماني، من خلال إرضاء شيطانهما.
شربا بعض كؤوس الخمر في غابة مجاورة بحسب ما أكداه في عملية البحث معهما، وأشعلا ثلاث شموع، واستقدما إليهما الضحية، وبدأ يعاقر معهما الخمر، وبفعل درجة الحرارة المنخفضة، أحس الضحية ببرد قارس فدعاهما إلى بيته لإتمام السهرة، واستئناف الجلسة الخمرية وتناول وجبة خفيفة.
لم يجد الموقوف الأول أي حرج في الإدلاء يتصريحاته واعترافاته التي لم ينفها أيضا زميله الثاني، إذ أكد أنهما دخلا مع الضحية البيت، وفي غفلة منه، استل أحدهما السكين من تحت ملابسه ووجه إلى الضحية طعنة قوية إلى أن سقط على الأريكة التي كان يجلس عليها، جثة هامدة، مضيفا أنه بعد تأكدهما من مفارقته الحياة، ارتديا قفازين أسودين، وحملا الجثة ووضعاها على طاولة خشبية، وشرعا في تقطيعها، إلا أنه استعصى عليهما الأمر. وخلال قيامهما بتلك العملية، استعملا الكأس النحاسية لملئها بالدم، ورسما نجمة خماسية رأسها في اتجاه القبلة، مكان وضع رأس الجثة، ثم وضعا كل شمعة فوق رؤوس النجمة الخماسية، بناء على ما ينص عليه الطقس الشيطاني، فشرعا في قراءة التعاويذ، وقرعا الجرس إعلانا بتخطيط الأماني وطلب تحقيقها، ثم قرعا الجرس للمرة التاسعة، وهي المدة التي انتهت فيها العملية، وبعد ذلك سكبا مادة «الدوليو» الحارقة، على الجثة وباقي أرجاء البيت، وحملا أغراضهما في حقيبة، وأشعلا النار وغادرا، بعدما تخلصا من الرأس في غابة مجاورة. وهي الإفادات التي مكنت من اعتقال شريك المتهم في الجريمة، والذي لم ينف هو الآخر الأفعال المنسوبة إليه، فاستمع إليه المحققون قبل إحالتهما على قاضي التحقيق، الذي سيحيلهما بدوره على العدالة من أجل محاكمتهما.