بقلم: خالص جلبي
قرأت أن الذكاء الصناعي سوف يمكن من الاتصال بالأموات، وهو ما يذكرني بالساحر هوديني، فقد لمع في مطلع القرن العشرين نجم ساحر في أمريكا اسمه «هوديني»، كان يسلسل في الأصفاد بقفل ثقيل، ثم يحشر في صندوق خشبي عاري البدن إلا من سترة سباحة، ثم يحكم إغلاق الصندوق بالمسامير على أعين الناس، ثم يطوق الصندوق بدوره بحزام جديد من السلاسل، محكمة الرتاج بأكثر من قفل، ثم يلقى في الماء أمام ذهول الناس الذين يحبسون أنفاسهم، ويطول الأمر أحيانا إلى فترة أربع دقائق؛ وإذا بهوديني يخرج من الماء يحمل السلاسل المحررة بيديه، فيلقيها أمام جمهور يصفق ولا تصدق عيناه. وبدأ الناس يتناقلون إشاعة مفادها أن الرجل يخرج من الصندوق من خلال تحويل جسده إلى روح شفافة، تتسلل من المحبس، وتتحرر من كل السلاسل والأقفال والمسامير. وقالت طائفة منهم إن هذا هو السحر بعينه؛ وإلا فماذا يعني السحر إن لم يكن هذا؟ وقال العقلاء من القوم إن هذا الشيطان يتملص بطرق عادية مجهولة الكيفية، تدرب عليها طويلا، ولا نعرف ماذا يفعل الخبيث على وجه الدقة، حتى يتحرر من كل هذه الأصفاد. في النهاية مات الرجل وعمره 52 سنة بالتهاب زائدة دودية حاد، فلم يغن عنه سحره وما كسب.
وفي ثلاثينيات القرن العشرين انتشرت حمى جادة من السحر أشرف عليها رهط من المشعوذين، يدعون أنهم يستحضرون الأرواح، ويستنطقونها، ويسألونها عن عالم الغيب ومجريات العالم الأخروي ومصير البشرية. كانت تلك الأرواح تنطق بلسان إنجليزي مبين، وتحكي قصصا مسلية من عالم الأموات. كل ذلك كان يتم في غرف مظلمة عابقة بالبخور، بين يدي رجال ونساء، أشكالهم عجيبة، وملابسهم مزركشة، وشعورهم منفوشة، وأعينهم جاحظة، يمدون أيديهم إلى آخر دولار من جيوب العملاء، ومما روي عن زوجة «هوديني»، الساحر الأمريكي المشهور، أنها بقيت تنتظر عودته، قبل أن تصل إلى القناعة أن روح زوجها لن تعود، وأن الأموات غير أحياء، وما يشعرون أيان يبعثون.
وفي الهند هناك مدينة عجيبة تضم جموعا من السحرة، يمكنهم أن يجعلوا الحبل يقف منتصبا، بعد نفخة مزمار؛ فيتسلقه طفل، ولكن كل سحرهم لم يحررهم من فقر مزري، وفي منطقة عسير اجتمعت بشيخ يدعي وصلا بعالم الجن، قد حمل ذراعه في جبيرة جبسية، قال لي: لقد كنا في الجهاد عندما حمي الوطيس مع نفر من الجن، وكان سبب الكسر رفسة ممتازة من مريض نفسي، ثم بدأ يتحدث عن (عيادته) التي يتقاطر عليها المئات من كل الشرائح الاجتماعية ومن الجنسين، ومن أساتذة الجامعة، وعدد من الأشخاص المهمين في حركات إسلامية.
الرجل كان قد أسس فعلا شركة محدودة المسؤولية للتعامل مع الجن بالاتجاهين إدخالا وإخراجا على مدار أربع وعشرين ساعة، وطفق الناس في المنطقة يفزعون من دورات المياه والظلمات؛ فقد تكاثر الجن فجأة، واحتدمت أصواتهم، وحمي جدلهم، وارتفعت طبقة موسيقاهم وطربهم و(دبكهم).
كان الدجال يمر عادة وسط كوكبة من (المهسترين) فيصيح أحدهم؛ فلا تلبث أن تنشب حفلة المصارعة لإخراج الجني، ولا تكلف سوى بصقة من فم الشيخ يتفلها في وجه المصاب، ثم يبدأ العراك، فيبطح الرجل أرضا على يد أعوان غلاظ شداد لا يعصون الشيخ ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
يبرك الشيخ على صدر المختنق، ثم يزيده خنقا بضغط عنقه؛ فيستغيث المسكين وما من مغيث؟ وتخرج الكلمات من فم الضحية أقرب إلى الحشرجة؟ فيصيح الشيخ لقد نطق (الجني)، ثم يردف: أخرج أيها الجني المارق، أنا آمرك أن تخرج من رأس إبهام قدمه اليمنى، وبالطبع ليس أمام الجني إلا أن يخرج من حيث أمر.
قال الدجال في شريط استمعت إليه إنه استطاع أن يخرج جنيا من بطن صبي ابتلع حبة بندورة (طماطم)، ولم يسم الله. راجت إشاعات قوية عن شيخ يهرب منه الجان وأنه يطفئ نيرانا لا تنطفئ. وكل من كان يناقش في دعواه يزندق أنه ينكر حقيقة الجن، وبالطبع كنت أنا من صنف المغضوب عليهم. ولم يكن النقاش يدور عن الجن، بل وجودهم في بطن الصبي المسكين. كان الشيخ يشرح نظريته للمرتابين: إن عملي يقوم على ثلاث:
ـ أنا أعالج أمراض (دخول الجن)، وأما الأمراض البسيطة في البدن فأتركها للأطباء والمشافي.
ـ وثانيا أنا أداوي بالقرآن الكريم، وبالطبع لم يكن ليداوي بـ«الكتاب الأحمر» لماو تسي تونغ، ولا «الكتاب الأخضر» للقذافي المقذوف، ولا «كفاحي» لهتلر، ولا «رأس المال» لكارل ماركس.
ـ وثالثا أنا أقدر على جن السهول (المؤمنين كذا) وليس لي طاقة بجن الجبال المارقين.
ـ ويبقى (رابعا) وهو لا يصرح بها؛ أنه لا يمتنع عن قبول الهدايا التي سينفقها في سبيل الله، أو على المجاهدين وكانت معجزاتهم في تلك الأيام ناشطة، (حاليا أصبحت تهمة خطيرة)، وكان يومها جهاد الأفغان، ونزول الملائكة شائعا، حتى هربت من جبال هندوكوش مع طائرات «ب- 52»، فوق تورا بورا. كان الدجال يضرب ضربته، ويحزم صرر المال، ويبني قصره بهدوء، وينظم أوقات عيادته التي غصت بالزوار والمراجعين، في تربة عقلية تم اغتيالها منذ أيام الحجاج، ويستمر في العلاج، وسحب المال مدرارا؛ فإذا وصل المريض إلى النهاية بدون شفاء، وهو الذي يحدث، كان سببه أحد أمرين: فإما كانت جن الجبال المستعصين المارقين، أو أنها الأمراض العضوية التي لا سبيل له عليها.
إن الاغتيال المنظم للعقل لا نهاية له، واليوم عرف العلم طرفا من أسرار «هوديني»، الساحر الأمريكي الغطاس، فتّاح القفول والأبواب؛ فهو تدرب لسنوات على الغطس في الماء المثلج، وحبس أنفاسه الدقائق الطويلة، حتى نزلت عنده منزل العادة. وعرف أن معصميه تكيفتا بالتدريب الطويل على التملص من الأقفال. وعرف أنه كان يستخدم أصابع قدميه ببراعة أنامل يديه، وأنه بمسمار صغير كان يفتح أعتى الأقفال. كل ذلك بطول تدريب وبراعة أتقنها وعشق لا يضاهى للمال والشهرة. حتى قضى نحبه وهو صغير السن بالتهاب بسيط في أمعائه، ولم ينفعه سحره وما نفث.
نافذة:
الاغتيال المنظم للعقل لا نهاية له واليوم عرف العلم طرفا من أسرار «هوديني» الساحر الأمريكي الغطاس فتّاح القفول والأبواب