يونس جنوحي
لا حاجة إلى مزيد من الشرح، إيمانويل ماكرون يحن جدا إلى أيام «المقيم العام» و«المفوض العسكري».
ما معنى أن يوجه رئيس فرنسا، من قصر الإليزيه، خطابا إلى المغاربة، كما لو أن البلاد مقاطعة تابعة لباريس؟ هذا يعني أن الرئيس الفرنسي يمارس نوعا من «التقية» السياسية. فهو يعلم، شأنه شأن مستشاريه، أن المنطقة المتأثرة بالزلزال تعرف فرنسا «الاستعمارية»، أكثر مما يعرفها الرئيس نفسه.
كل الفرنسيين الذين شاركوا سنة 1914 في نزول الجيش الفرنسي في منطقة الأطلس، الحوز وسوس، ماتوا، لكنهم تركوا وراءهم مئات المذكرات وآلاف الوثائق، التي سجلوا فيها يومياتهم. فرنسا اليوم تتوفر على أرشيف كامل لنزاعات أجداد قضوا في الزلزال المدمر، ويعرفون جيدا كيف يفكر سكان المناطق المنكوبة، الذين دافعوا عن أرض أجدادهم إلى آخر يوم من المواجهات مع الجيش الفرنسي. وحتى القبائل التي حاربت في صفوف الجيش الفرنسي، أثناء تحالفها الشهير مع المدني الگلاوي، كانت فقط تصفي حسابات قبلية واستغلت وجود فرنسا في المنطقة، ظنا منها أنها سوف توسع حدود تلك القبائل. وعندما اكتشف سكانها أنهم على خطأ، حملوا بدورهم السلاح في وجه الحاكم العسكري الفرنسي وجنرالاته، ولم تتوقف الحرب إلا في سنة 1933، بعد توقيع الهدنة مع عدد من القبائل.
فرنسا أنشأت المناجم في منطقة الأطلس، سواء في اتجاه مراكش، أو في اتجاه تارودانت. أغلب المناطق الجبلية هناك ما زالت تحتفظ بحفر، بقيت مثل «ندوب» على جبين الجبال، لتذكر الأجيال الجديدة بالماضي الاستعماري لفرنسا. أنشأت فرنسا مئات المناجم لاستخراج الذهب والفضة والمعادن، التي أنشأت بها معامل إنتاج الصلب والحديد، واعتمدت عليها لتوفير المواد الصناعية التي استغلتها في الحرب العالمية الثانية. ونقلت ما استخرجته من باطن الجبال مباشرة إلى ميناء أكادير، ومنه إلى مارسيليا الفرنسية. إذن ماذا ربح السكان المحليون في الجبال؟ الضباب.
العام الماضي نشرت صحيفة «لوموند» العريقة تحقيقا موسعا عن شخصية العسكري الفرنسي «فيليكس موغا»، الذي اشتهر في منطقة سوس بجولاته في الأسواق الأسبوعية عقب الحرب العالمية الثانية، وبعد استقلال المغرب، لكي يختار آلاف العمال المغاربة الأقوياء الذين بنوا فرنسا بعد الحرب. التحقيق ركز على الروايات التاريخية التي تقول إن عملية نقل العمال تمت في ظروف تشوبها بعض الخروقات. بعض هؤلاء العمال ماتوا في حوادث شغل في المناجم، وصرفت فرنسا فعلا لأهاليهم تعويضات، وآخرون استمروا في العمل إلى أن حصلوا على التقاعد، وشكّلوا الجيل الأول للعمال المغاربة في فرنسا الجديدة، وأحفادهم اليوم وصلوا إلى مناصب مهمة في أعلى الهرم الاجتماعي الفرنسي.
في منطقة سوس دائما، على طول إقليم تارودانت، أنشأت فرنسا الضيعات الفلاحية ووضعتها رهن إشارة المُعمرين الفرنسيين. أطنان من الفواكه والخضر وُجهت مباشرة من تلك الضيعات نحو السوق الفرنسية لسنوات متواصلة، في عملية نهب ممنهجة لم يصل منها إلى الأهالي، الذين عملوا مياومين في تلك الضيعات الفلاحية سوى الفُتات. وبعد استقلال المغرب، أعيد توزيع تلك الضيعات الشاسعة في إطار سياسة الأراضي المسترجعة.
ويأتي رئيس فرنسا اليوم لكي يُعلن لنا أن قلبه مع المغاربة، ولم تمض سوى أشهر قليلة فقط على رفضه الاعتذار للمغرب على كل جرائم فرنسا السابقة. تنطبق فعلا على «ماكرون» المقولة المغربية الشهيرة، التي تحكي كيف أن شابا سأل والده كيف يمكن أن تصبح عائلته من الشرفاء؟ فأجاب الأب بما معناه: «حتى يموت كل الذين يعرفوننا».
صحيح أن كل الذين عاشوا فظاعات فرنسا في سوس والأطلس، وأمزميز وأسني وصولا إلى مراكش، لم يبق منهم أحد. لكن لا يزال هناك ملايين الأحفاد الذين يحفظون ما لقنه إياهم أجدادهم، عن أيام الرصاص الفرنسي في الجبل.