التعبير عن الحكمة على لسان الحيوان والطير تقليد قديم، عرفه الهنود والفرس واليونان والرومان والعرب، وعرفته أوروبا في عصر الأنوار، وروسيا في فترة الحكم الشيوعي.
فكان أول الكتب في تقديم الحكمة السياسية على لسان الحيوان والطير كتاب «كليلة ودمنة» الذي ترجمه من الفارسية عبد الله بن المقفع المتوفى سنة 762م، وهو في الأصل كتاب هندي على لسان «بيدَبا»، الفيلسوف، تمت ترجمته إلى الفارسية منذ زمن بعيد.
وبعده ظهر كتاب «الأسد والغواص» لمؤلف مجهول في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي.. ثم كتاب «سلوان المطاع في عدوان الطباع»، لابن ظفر الصقلي المتوفى 1173م.
كذلك هناك كتاب «فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء»، لابن عرب شاه المتوفى عام 1450م.
وجميع هذه الكتب تتناول الحكمة السياسية على لسان الحيوان والطير، وتتعرض لمختلف الموضوعات والمجالات التي تدخل في إطار الحكم والسياسة وتدبير الشؤون العامة للمجتمع من خلال قصص وحكايات طريفة ممتعة ظريفة، يبتهج لها العوام، ويغوص في أغوار معانيها الدفينة أهل الاختصاص والنظر العميق.
وقد تمت ترجمة كتاب «كليلة ودمنة» منذ ما بعد الحروب الصليبية إلى اللغة اللاتينية، ومنها إلى اللغات الأوروبية الأخرى، وفي القرن السابع عشر كتب الكاتب الفرنسي لافونتين، المتوفى عام 1621م، أشعارا على لسان الحيوان والطير تتناول أيضا الحكمة السياسية، وبه تأثر أمير الشعراء أحمد شوقي، المتوفى عام 1932، فقد ذكر شوقي أنه أراد السير على نهج لافونتين في أشعاره الطريفة الأسلوب، العميقة المعنى، وسوف نعرض واحدة من قصائد شوقي في هذا المقال.
الجدير بالذكر أن الكاتب البريطاني الشهير جورج أورويل، المتوفى سنة 1950م، كتب كتابا على النهج نفسه عنوانه «مزرعة الحيوان» عام 1945، وهذا الكتاب اعتبرته دائرة المعارف البريطانية من الكتب العظيمة المؤسسة للحضارة الغربية.
ومن أهم القصائد التي كتبها أحمد شوقي في هذا المسار «قصة الثعلب والديك»، ويقول فيها:
بـَرَزَ الثعـــْـــلَبُ يومـا.. في شـِعـــار الواعـِظيـنا
فـَمـَشى في الأرضِ يَهْـدي.. ويـَســُـبُّ المـاكرينا
ويقـول: الحـــَــــمـْد للـه.. إلـــَـــه العـالــــَــميـنـا
يا عِـــــباد اللـه تـوبوا.. فـَهـو كـَهـْفُ التــائـبيـنـا
وازهَدوا في الطـيْر إنَّ.. العـَيْش عـيْشُ الزاهدينا
واطـْلـُبوا الديـــك يؤذن.. لصـَـلاة الصـُـبـْح فينـا
فأتَى الديكَ رَســــُــولٌ.. مِـن إمــام الناســــكيـنـا
عـَرَضَ الأمرَ عـَلـَيـْـهِ.. وهو يـَرجـــو أن يـَلينـا
فأجـــــاب الديـكُ عـُذْراً.. يا أضَـــلَّ المُهـْتـَديـنا
بـَلـِّـغ الثـَعـْلـَبَ عـَنـي.. عـَنْ جـُدودي الصالحـــينا
عن ذَوي التـِيجان مـِمـَّن.. دَخــَــلَ البـَطـْنَ اللعينا
إنهـم قـــالـوا وخـَيْــرُ.. القـَوْلِ قـَــوْلُ العـــارفيـنـا
مـُخـْطـِئٌ مَــنْ ظَــنَّ يَـومــا.. أنَّ لِلثـَعْــلَـبِ ديـــنـا.
والثعلب والديك في رمزية أحمد شوقي قد يكون كل منهما إنسانا عاديا، وقد يكون الواحد منهما مؤسسة أو شركة أو دولة من الدول، فالدلالة الرمزية تتعلق بكل من يوظف الدين والأخلاق والقيم لاصطياد الضحية وتخديرها من أجل التهامها، ولكن اليقظ والعاقل من لا تكون لديه القابلية للتخدير أو الاصطياد أو «القابلية للاستحمار»، على حد تعابير مالك بن نبي وعلي شريعتي، رحمهما الله.. وإذا نظرنا حولنا سنجد الثعالب كثيرة، وقليلة هي الديوك.
نصر محمد عارف