بقلم: الدكتور خالص جلبي
هل يمكن أن نتصور إنسانا يخسر نعمة السمع والبصر والنطق، ويبقى مع ذلك على صلة بالعالم، فينطق ويكتب وهو أعمى أصم؟ هذا بالضبط ما فعلته «هيلين كيلر»، فاستعاضت عن السمع والبصر والنطق باليد، فتحولت اليد إلى معجزة تنطق وتسمع وتقول وتكتب. هذا ما دفع الفيلسوف «إيمانويل كانط KANT Emmanuel» إلى أن يعتبر اليد بمثابة الدماغ الخارجي للإنسان. وعندما درس ابن خلدون ظاهرة الحضارة، وجد أن قفزتها تحققت بأداتين (الفكر) و(اليد)، فالفكر هو الحقل النظري، واليد هي أداة بناء الحضارة، فاليد هي التي جعلت الإنسان إنسانا بحق.
وقصة «هيلين كيلر» تعطي فكرة عن معنى تحول اليد إلى دماغ خارجي؛ فبعد أن فقدت «هيلين كيلر» وهي في السنة الثانية من عمرها السمع والبصر والنطق، فأصبحت من عالم (الصم البكم العمي)، تحولت باليد والقلب، فدخلت عالم الشهادة والحياة مرة أخرى؛ فأصبحت اليد لها بمثابة السمع والبصر؛ فنطقت بدون أن تسمع الكلمات، وكتبت وهي التي لم تعرف الحرف من قبل.. شاهدا على عظمة خلق الله فينا…
ولكن ما هي اليد فعلا؟ تعالوا لنتأملها.
اليد تستطيع أن تمسك وترفع وتومئ، تتحدث وتحس، تبارك وتلعن، ترمز وتشفي، تنجز الأعمال الفنية وتدمر، تعزف الأنغام الرائعة، وتنتج الرسوم البديعة، وتقرأ بدل العينين. إنها ناعمة لأقصى الحدود، وفي غاية الوحشية، تضغط يد الحبيبة وزناد المسدس على طرفي نقيض. إنها حنونة تواسي، وهي مدمرة مؤذية، تنجز أعظم الاختراعات وأدق الأعمال وأحقر التصرفات، ومنذ أن استخدم الإنسان يده بحرية ومشى منتصبا، تحول إلى كائن مبدع، وباليد الجديدة المبدعة بنى الحضارة، واخترع الكتابة، وطور الآلة، واكتشف المجرات، وهبط إلى قاع العالم السفلي، فاقتحم سكون الكائنات المسبحة لخالقها، ليحدق بنهم في وجه العضويات المجهرية، المندهشة من ضجيج كائن علوي مشاغب، لا حدود لفضوله وشغفه بالمعرفة، يعكر عليها هدوءها وتسبيحها الخفي.
إنها (الحاسة) الإضافية، ومنذ أن قطعت اليد العجلة الأولى الدائرية من الخشب، دفعت العالم كله إلى الدوران ولم يزل بدون توقف، واكتشفت من خلالها دورات الوجود، بدءا من دورة المجرات، وانتهاء بدورة الإلكترون. ومنذ أن أنتجت النار باحتكاك الخشب الجاف، تغيرت طبيعة الحياة البشرية، وتحولت الأرض إلى كتلة مضاءة بالنور ونيران المدافع معا.
والضارب البارع على الكمبيوتر، يضرب إبهامه في المتوسط ما لا يقل عن عشرة آلاف ضربة في اليوم الواحد، وهذا يعني بكلمة ثانية، إذا نقلناها إلى حركة الساقين، مسيرة أربعين كيلومترا في ست ساعات.
إن هذه الأداة المذهلة (اليد) تتضافر لإنجاز العمل فيها مجموعة من العظام والأوتار والعضلات والأعصاب والشرايين والأوردة والعروق اللمفاوية، في سيمفونية تعزف أعذب الألحان وأرقاها، في حركة غلق وفتح لا تتوقف، بمعدل 25 مليون مرة، في متوسط سنوات الحياة، يحركها 27 عظما، ترقص وتهتز وتتوتر على حواف 28 مفصلا، تمطها وترخيها، تبسطها وتوترها 33 عضلة، وفي رسغ اليد، تجلس سبعة عظام صغيرة الحجم، عظيمة الأهمية تأخذ أسماء شاعرية وهندسية؛ مثل الزورق والقمر وشبه المنحرف والمربع وحبة البازلاء.
وبين الأوتار والعظام تمر شبكة سقي دموية، من أبدع ما خلق الله، من نهرين في حافتي الرسغ، في شلالين متعانقين متضافرين، تنظم موسيقاها شبكة عصبية محكمة، من ثلاثة كابلات عصبية (المتوسط والزندي والكعبري) تستقبل الحس، وتنظم الحركة، مربوطة بقوسين من التوترات العصبية، إرادي قادم من القيادة العليا، ولا مركزي، يتصرف بما يناسب، كما في لمس اليد قطعة ساخنة، يعمل كأحسن دولة في العالم بين النظام المركزي واللامركزي.
أما نهايات الأصابع فقد زودت بجسيمات حسية مختلفة، منها المختص مع تغيرات درجات الحرارة (جسيمات روفيني وتومسا)، وأخرى تعرف الاهتزازات (جسيمات باسيني)، وثالثة للألم (جسيمات لانغرهانس)، ورابعة لمعرفة الحس العميق (جسيمات واغنر)، أو حس المفاصل والأوتار(جسيمات غولجي مازوني).
إن الحس العميق هام في رشاقة الحركات وتوازنها، ولا يعرف نعمة التوازن إلا من ذاق مرارة الدوران في يوم ما.
وتبقى معجزة اليد المحيرة في قصة (هيلين كيلر) عن كيفية نطقها وهي المصابة بالخرس والعمى والصمم، فعندما يُطوَّق الإنسان بظلمات العمى، يبقى المنفذ في اليد التي بها يقرأ، ومنها تنبجس أفكاره للكتابة، بطريقة النقش البارز.
وفي الحين الذي ينقطع عن العالم الخارجي، عالم الكلمة والصوت والنغم المنعش للروح، تبقى اليد والأطراف هي المنفذ، فتدخل الأصوات والكلمات والتصفيق عن طريق حس الاهتزازات، التي تحمل اليدين من جسيماتها العدد الوفير.
و«هيلين كيلر» عندما صفق لها الجمهور في الشرق الأوسط، أثناء زيارتها إليه، شعرت بموجة التصفيق تخترق جسمها، من أسفل قدميها بالاهتزاز.
بقي أن نعرف أن «كيلر» تعلمت النطق بواسطة سيدة صبورة، رافقتها لمدة خمسين عاما، كانت فيها كيلر تضع أصابعها على حنجرة «أنا سوليفان» وفمها وشفتيها ولسانها عندما تنطق، فتقلدها، وبذا نطقت كيلر وبزت الفصحاء الناطقين، وترقت في مدارج المعرفة، وعاشت حياة طويلة حافلة بالإنتاج استمرت ثمان وثمانين سنة، تكتب العديد من الكتب حتى آخر حياتها، وتلقي المحاضرات في معظم أرجاء المعمورة، تتحدى البلغاء.
كانت وصيتها دوما: «ليكن عندنا ثقة وإيمان»، وأجمل ما نقل عنها عبارتها التالية: «إن لكل شيء في الوجود مباهجه، حتى الظلام وحتى السكون؛ فقد تعلمت أن أقتنع بأي ظروف أوجد فيها، ولا أنكر أنه كثيرا ما يتملكني إحساس رهيب بالوحدة، كما يغشى الضباب الكون، كلما أتصور أني جالسة أنتظر على باب الحياة، والباب مقفل أمامي، ودونه الضوء والموسيقى والصحبة الحلوة، فالدخول محظور علي، وقد سد القدر الرهيب طريقي إليه! كثيرا ما أتساءل عن حكمة هذا القدر، لأن قلبي يثور أحيانا ويحار…. ولكن لساني لا ينطق بالشكوى، التي تصعد إلى الشفاه، ثم لا يلبث الأمل أن يقترب مني باسما هامسا..
هنالك سعادتان كبيرتان في إنكار الذات ومقاومة الصعاب..
فلهذا أراني أحاول أن أجعل شمسي الداخلية، ضوءا في عيون الآخرين، وسعادتي النفسية بسمات على شفاههم». طوبى للحزانى، لأنهم يتعزون، وكان يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله.
نافذة:
بعد أن فقدت «هيلين كيلر» وهي في السنة الثانية من عمرها السمع والبصر والنطق فأصبحت من عالم الصم البكم العمي تحولت باليد والقلب فدخلت عالم الشهادة والحياة مرة أخرى