قصة أقدم تقرير سري عن الجيش المغربي
صدر سنة 1909 ووُزع سرا على ملك ومسؤولي بريطانيا
يبدأ الكُتيب بفقرة إنجليزية باللون الأحمر، نُترجمها كالآتي: «المعلومات المطروحة في هذا الكُتيب ليس مسموحا التواصل بشأنها، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، مع الصحافة أو أي شخص آخر غير المُعينين في مناصب رسمية في خدمة صاحب الجلالة».
هذا الكتيب الذي كان بحجم راحة اليد، ويشبه جواز السفر التقليدي، صدر بعد عودة وفد دبلوماسي بريطاني من فاس إلى لندن، وهو بمثابة تقرير عن حالة الجيش المغربي والأوضاع الأمنية في المغرب. المثير أن السرية التي أحاطت بالتقرير بعد طباعته ووضعه بين يدي الملك إدوارد السابع، وبعده كبار مسؤولي الدولة، كلها عوامل تجعل الغرض من جمع معطياته غير بريئة. يكفي أن نستحضر أحداث سنتي 1908 و1909، لكي نفهم أن المغرب وقتها كان فوق صفيح ساخن. واهتمام بريطاني من هذا النوع، ببنية الجيش المغربي وتقسيماته وطريقة اشتغاله، كان وراءه فعلا ما وراءه.
يونس جنوحي
عندما «مسح» وفد رسمي بريطاني بنية جيش السلطان
في ربيع سنة 1909، جاء وفد رسمي من بريطانيا إلى المغرب، في عهد المولى عبد الحفيظ. هذا الوفد عاين الأوضاع في مدينة فاس، وتعرف عن قرب على وزراء دولة المولى عبد الحفيظ، وكتاب الدواوين وكبار المسؤولين، خصوصا في الشق العسكري.
أغلب هؤلاء المسؤولين كانوا في خدمة المخزن منذ عهد المولى الحسن الأول، لكن الإنجليز كانوا يحتاجون إلى معرفة تفاصيل أكثر عن طريقة قيادة المولى عبد الحفيظ للبلاد، سيما وأن بعض حالات التمرد المتفرقة سجلت في مناطق كثيرة من المغرب، وتم احتواؤها من طرف القوات التابعة للسلطان والقبائل التي أعلنت دعمها له.
هذا الوفد أعد الكتيب السري الذي وزع على كبار مسؤولي الحكومة البريطانية ممن اختارهم وقتها الملك إدوارد السابع. وجاء في الصفحة الأولى التي تناول فيها التقرير «ملاحظات عامة حول الجيش» – ويقصد الجيش المغربي بطبيعة الحال- ما يلي:
«إن أول ما يجب تسجيله بخصوص الجيش المغربي، أنه لا يمكن مقارنته بطريقة حضارية مع أي جيش أوروبي، ولا مع أي جيش آخر. من غير المفيد محاولة تصنيفه، أو تقسيمه».
كانت هذه أول الإرشادات التي أدلها بها الوفد الرسمي الذي زار مدينة فاس في زيارة رسمية للمولى عبد الحفيظ، في الكتيب السري. كان يُعد كبار المسؤولين العسكريين والمدنيين في لندن لكي يفهموا جيدا طريقة عمل الجيش المغربي، خصوصا وأن الإنجليز كانوا مهتمين جدا بمعرفة سر نجاح المولى عبد الحفيظ في إخماد حملات التمرد ضد المخزن، والتي توقعوا أن تُسقط حكمه، وهو ما لم يقع بطبيعة الحال.
أرجع التقرير قوة الجيش المغربي إلى كون المغاربة يعتبرون أن إمساك السيف وقيادة الجيش تمثل جزءا لا يتجزأ من مهام السلطان.
كما لفتوا انتباه المسؤولين في بريطانيا إلى أن الجيش المغربي ليس لديه أي نوع من أنواع التواصل الداخلي كما يقع في جل جيوش أوروبا. لم يكن المقصود بالتواصل هنا تبادل الرسائل، لأن الكتيب يشرح هذه النقطة بالقول إن المغرب لا يتوفر نهائيا، سنة 1909، على أي نوع من أنواع الطرق البرية العصرية، ولا قنوات لربط المدن ولا خطوط تلغراف ولا سكك حديدية.
هذه الجزئية سوف تخيف جيش بريطانيا أو أي جيش أوروبي آخر، لأن كبار الجنرالات لم يكونوا يتصورون أبدا تنفيذ عملية عسكرية بدون استعمال الهواتف وخطوط التلغراف، لبعث البرقيات العاجلة والتواصل بين الفرق عبر أمواج الراديو. وهو ما لم يكن وقتها متوفرا نهائيا في المغرب.
التقرير لفت إلى مسألة مهمة، وهي أن الجيش المغربي كانت له وقتها طريقته الفريدة في التواصل، عن طريق المبعوثين بين القبائل، والذين كانوا يعملون في خدمة السلطان أو كبار القواد المسؤولين عن ضبط الأمن في المناطق التي يشرفون عليها، وغالبا ما تكون لديهم جيوشهم الخاصة.
من المهم معرفة طريقة اشتغال الجيش المغربي، إذ نجد أن النقاط التي أشار إليها البحث على مدى أربع صفحات كاملة، من الحجم الصغير، تطابق ما جاء به المؤرخون المغاربة، الذين تناولوا بالدراسة تاريخ الجيش المغربي وتقسيمه الإداري.
الجيش المغربي الفعلي لم يتأسس إلا في سنة 1844، وجاء على أنقاض جيوش تاريخية «أسطورية» مثل جيش عبيد البخاري الذي أرعب دول أوروبا، عندما وصلت أخبار انتصارات المولى إسماعيل في إفريقيا إلى مسامع الحكام. الجيوش المغربية قبل هذا التاريخ كانت تؤسس من القبائل المعروفة بقوة رجالها وصلابتهم وقدراتهم على القتال، وبعد ذلك التاريخ، أي خلال القرن 19، عرف المغرب أول جيش نظامي بالتقسيم العصري لوحدات الجيش وإشراف وزير خاص عليه. وتزامن هذا التحديث مع واقعة معركة إيسلي، حيث ارتأى مستشارو السلطان ومقربوه أن يتم تحديث الجيش المغربي.
الكتيب السري البريطاني تحدث عن الألقاب العسكرية التي تُمنح لكبار المسؤولين مثل:
– قايد الرحى الذي يكون على رأس 1000 جندي، وهو تقريبا بمثابة كولونيل في الجيوش الأوروبية.
– الخليفة، وهو يعادل «الكومندار» في الجيوش الأخرى.
– قايد المية، وهو – كما يدل اسمه- مسؤول عسكري عن مائة جندي، وتوازي رتبته «كابيتان» في الجيوش الأخرى.
– الملازم، ويليه المقدم ثم المعاون.
التقرير السري نبه إلى أنه من المستحيل إقامة مقارنة بين هذه المناصب المغربية ونظيرتها في الجيوش الغربية، والسبب أن المهام لا تتشابه، بحكم أن أفراد ومسؤولي الجيش المغربي كانوا يتمتعون بامتيازات إضافية أو العكس، بحسب المناطق التي ينتمون إليها. إذ إن بعض مسؤولي الجيش المغربي كانوا يتحكمون في جيوش قرى بأكملها، لكن رتبتهم تبقى أدنى من رتبة عسكري في فاس، ليست لديه أي سلطة تقريبا على تلك الفرق.
التقرير السري نبه إلى الطموح المغربي في إصلاح الجيش، ونبه إلى أن المغاربة أبرموا اتفاقا مع الجيش الألماني، حيث سبق لمسؤولين ألمانيين اثنين أن جاءا إلى فاس ما بين سنتي 1907 و1908، وعرضا على السلطان خدمات، أهمها إعادة هيكلة الجيش المغربي، لكنهما لم يبقيا في المغرب سوى أسابيع قليلة، اضطرا بعدها إلى مغادرة البلاد.
هناك أيضا إشارة إلى التقنيين الإيطاليين الذين حلوا في المغرب في عهد المولى الحسن الأول، أي قبل 1894، لكن هؤلاء، بحسب التقرير دائما، عُهد إليهم بمهام تقنية ولم تكن لهم علاقة بوحدات الجيش أو مسؤوليه، وإنما تمثلت مهامهم في الإشراف الإداري على صناعة البنادق في مصنع السلاح الموجود وقتها في مدينة فاس.
هل تجسست لندن على الجيش المغربي؟
الواضح من صفحات هذا التقرير السري الذي لم يتجاوز عدد صفحاته 36 صفحة فقط، أن الغرض منه كان تقديم صورة واضحة عن الجيش المغربي في مرحلة حرجة جدا، سيما وأن فرنسا كانت وقتها قد بدأت أولى عملياتها العسكرية في المغرب وبدأت تنزل في السواحل، خصوصا الدار البيضاء.
وفي الوقت الذي كان الفرنسيون يواجهون هجومات من القبائل المحلية، اتجه البريطانيون نحو تكوين صورة واضحة جدا عن قدرات الجيش المغربي، وكأنهم بهذا التقرير يحاولون فهم ما ينتظر الجيوش الأوروبية، في حال ما أن اشتد التنافس بين القوى الأوروبية حول المغرب.
ورغم الصداقة المتينة التي كانت تجمع بين لندن وفاس، إلا أن السياق الدولي وقتها كان يتحكم في الخطوات المستقبلية، خصوصا وأن العالم كان يتجه وقتها نحو الحرب العالمية، كما أن التنافس بين فرنسا وبريطانيا وألمانيا على شمال إفريقيا كان على أشده.
بالعودة إلى التقرير، نجد أنه أفرد حيزا مهما لتوزيع الشرطة المغربية، بالصورة المتعارف عليها في المغرب وقتها، وربطها برجال القبائل الذين يتولون مهمة مراقبة الطرق، وبالتابعين للقواد والباشوات الذين يسهرون على حفظ الأمن في أحياء فاس، وغيرها من المدن المغربية الكبرى.
هذه النقطة بالتحديد، أثارت اهتمام الوفد الرسمي البريطاني الذي زار فاس. إذ إن أعضاء الوفد توصلوا بشكايات من مواطنين إنجليز كانوا يعيشون في طنجة، وأسروا لهم أن مواطنين من بلادهم تعرضوا لمضايقات أو اعتداء في بعض الأحيان على يد متمردين مغاربة. ورغم أن المخزن المغربي كان حازما مع مثل هذه الحوادث رافضا لها، إلا أنها تسببت في حالات جفاء دبلوماسية بين المغرب ودول أوروبية، سيما فرنسا.
إذ إن واقعة اغتيال طبيب في فاس، وحوادث الاعتداء على إسبان وفرنسيين في الدار البيضاء، تسببت في تطورات دبلوماسية، استغلتها فرنسا لكي تتدخل عسكريا.
ورغم أن مواطنين إنجليز تعرضوا لبعض المضايقات، إلا أن المفوضية البريطانية في طنجة اعتبرت تلك الحوادث «عرضية» ونصحت مواطنيها بعدم التوغل في المغرب، والاستعانة بمرشدين موثوقين لدى المفوضية لاصطحابهم أثناء رحلاتهم من طنجة إلى فاس.
هذا التقرير تحدث أيضا عن الدور الذي لعبه الباشوات والقواد، واعتبر ضمنيا أنهم جنود المغرب الحقيقيون والمشرفون على الشرطة في المناطق الحضرية.
أما في ما يخص الجيش، فقد تطرق التقرير إلى ما يعرف في المغرب بـ«المْحْلة». وحاول تقريب الإنجليز من الصورة لمعرفة ما يقع خلال هذا الحدث المخزني الكبير، حيث تخرج جيوش السلطان وحلفاؤها في القبائل، لتأديب القبائل الأخرى المتمردة أو للإحاطة بحالة انفلات أمني في الأقاليم. المحلات السلطانية كانت أيضا تقام عند سفر السلطان لتأمين تنقلاته، خصوصا في المناطق التي كان يعتبرها المخزن نقاطا وجب احتواؤها أمنيا.
البريطانيون اهتموا كثيرا بهذه التفصيلة بالذات، لأنها كانت حاسمة في التقرير في مستقبل العلاقات المغربية البريطانية على عهد الملك إدوارد السابع. السرية التي أحاطت بإصدار هذا الكتيب ونطاق تداوله بين المسؤولين البريطانيين، يؤكدان بما لا يدع مجالا للشك، أن المهمة الدبلوماسية في فاس كان يُنظر إليها على أنها مهمة سرية، الغرض منها جمع معلومات أمنية حساسة عن «عدو» مفترض.
كشف التاريخ لاحقا أن البريطانيين أصبحوا خارج المنافسة على المغرب، واقتصروا في حضورهم على الوجود دبلوماسيا على الأقل في طنجة الدولية، وتركوا لفرنسا وإسبانيا مسألة التخطيط الاستعماري للهيمنة على البلاد.
++++++++++++++++++++++++++++
قصة كُتيب الجيب الذي طوى أسرار الجيش المغربي
لم يفت البريطانيين أن يسجلوا بدقة ملاحظاتهم عن الجيش المغربي، لكي تصدر في كتاب سري بحجم جواز السفر.
لكن ما سبب هذا الاهتمام سنة 1909؟ ما الذي كان يتوفر عليه الجيش المغربي وقتها، لكي يصبح موضوع اهتمام استخباراتي بريطاني؟
في ذلك الوقت كانت كل من بريطانيا وفرنسا تتسابقان على احتلال المغرب، لكن البريطانيين بحكم إقامتهم الطويلة جدا في مدينة طنجة الدولية، كانوا يُدركون أن الجيش المغربي كان ينبعث وينظم صفوفه في محطات تاريخية كثيرة.
التخوف من ثورة مضادة ضد البريطانيين، كان هو السبب الرئيسي في صدور هذا «الدليل» السري عن قوة الجيش المغربي وإمكانياته ووحداته.
إذ إن السنة التي سبقت تأليف الكتيب السري، تزامنت مع الحرب الكبيرة التي أعلنها المغاربة ضد الفرنسيين، والتي انتهت بمأساة 1907 في الدار البيضاء.
كان البريطانيون، كما هو واضح من هذا الدليل، يُدركون أن الجيش المغربي يُجند رجال القرى وقبائل كاملة، ولم يكن لدى المغاربة أي مشكل في حشد القوات في فترة زمنية قصيرة. فكل القبائل تقريبا كانت مستعدة للانضمام إلى الجيش السلطاني.
وحتى القبائل التي كانت في خلاف مع السلطة في فاس، كانت سرعان ما تدافع عن السلطان عند أول تدخل أجنبي، أو انتشار لقوات أجنبية قربها.
وهو ما يكشفه تخصيص الكتاب لفقرة كاملة عنونها «الأمة المسلحة»، في إشارة إلى تسليح القبائل لخوض الحروب.
وهذه القاعدة تختلف تماما عن طريقة عمل الجيوش الأجنبية. الدليل يكشف أيضا وجود نزعة قبلية في تكوين الجيوش المغربية على مر التاريخ وليس في فترة صدور الكتاب فقط. إذ إن أغلب قبائل المغرب كانت مسلحة ذاتيا ويمتلك سكانها الخيول والبنادق، وهو ما اختبرته فرنسا بعد 1912 أثناء معارك إخضاع المغرب، حتى أنها واجهت ثورات كبيرة في الأطلس ولم تفلح في تفكيك الجيوش القبائلية إلا سنة 1933.
البريطانيون، من خلال هذا الدليل، كانوا واعين بكل هذه التفاصيل. لكن وعيهم بها، لم يكن إلا تراكم سنوات طويلة من التعامل مع المغرب. ولفهم هذه العلاقة التاريخية المتشعبة، يجب دائما العودة سنوات إلى الوراء، خصوصا وأن إصدار هذا الدليل السري، بحجم راحة اليد، كان قراءة في دروس تاريخية عاشها البريطانيون مع المغاربة.
الجيش أنقذ فاس من مذابح وتسبب في أخرى..
في سنة 1909، لم يكن الجيش المغربي في أفضل حالاته، لكنه استعاد عافيته على الأقل بشكل كبير، سيما بعد اجتياز المغرب مرحلة عدم الاستقرار السياسي أثناء انتقال السلطة بين أبناء المولى الحسن الأول، الذي توفي سنة 1894.
مدينة فاس في ذلك الوقت لم تكن مجرد عاصمة سياسية للبلاد، بل كانت القلب النابض للمغرب.
حجت إليها في تلك الفترة عشرات الشخصيات السياسية من كافة جهات المغرب، خصوصا من مراكش وعبدة، هربا من الانتقام السياسي ورغبة في تعزيز حضورها في دواليب الدولة.
عندما جاء المدني الكلاوي من مراكش رفقة جيشه الخاص، ومعه المولى عبد الحفيظ الذي كان خليفة سلطانيا لوالده المولى الحسن الأول على مراكش، كان الهدف من تلك الرحلة مساعدة المولى عبد الحفيظ على خلافة والده، بناء على اتفاق مع علماء القرويين لتنحية المولى عبد العزيز.
إذ إن علاقة المولى عبد العزيز بـ«النصارى» ومواقفه السياسية التقدمية وقتها، كلها أثارت غضب علماء القرويين، قبل أن يُدركوا متأخرين أنهم كانوا على خطأ ويُظهروا بعض المرونة والمراجعات بشأن استعمال الاختراعات الفرنسية في الحياة اليومية، خصوصا استعمال الهاتف والبريد والصحف والسيارات.
لكن أهم نقطة خلافية أججت العلماء ضد المولى عبد العزيز، كانت اتفاقيات تدريب الجيش المغربي على يد وفود أجنبية، سيما من بريطانيا.
ورغم أن تاريخ المغرب حافل باتفاقيات من هذا النوع، إلا أن السياق التاريخي لفترة 1894 وصولا إلى 1912، والرفض الكبير للوجود الأوروبي في البلاد، ساعدا على رفض وجود مشرفين أجانب على الجيش المغربي، في بلد كان لا يزال وقتها أغلب قادته يؤمنون بالجهاد.
عندما جاءت قوات المدني الكلاوي من مراكش إلى فاس، وقعت مواجهات حامية بين أنصار المولى عبد العزيز، الذي أراد العلماء إزاحته عن العرش، وبين أنصار المولى عبد الحفيظ الذين تقووا بجيش المدني الكلاوي.
وهكذا، وقعت معارك طاحنة خلال سنة 1908 بين أنصار ابني الحسن الأول. المدافعون عن شرعية المولى عبد العزيز كانوا من أفراد قوات الجيش المغربي النظامي، رغم أن أغلبهم انشق، حسب روايات تاريخية، بسبب عدم توصلهم بأجورهم بانتظام، لكن البقية قاتلوا إلى آخر يوم، قبل أن يتم فرض النظام على يد أنصار المولى عبد الحفيظ واعتقال كافة المتنطعين. وما زاد من تغليب كفة المولى عبد الحفيظ، خُطب صلاة الجمعة التي أبان فيها الفقهاء والعلماء عن دعمهم المطلق للسلطان الجديد.
لكن قبل ذلك، وقعت مواجهات دامية، رغم أن المولى عبد العزيز أبان عن موقف راق، أثنى عليه بعض علماء القرويين لاحقا، وأعلن تنازله عن الحكم وغادر فاس. لكن المستفيدين من مناصب الجيش، رفضوا الاستسلام بسهولة لجيش المدني الكلاوي، ووقعت بين الفريقين مواجهات دموية مات فيها الآلاف.
وقتها، كانت بريطانيا تتوفر على صورة واضحة عن الجيش المغربي، والسبب أن موظفين بريطانيين كانوا على علاقة مباشرة بوزير الحرب المغربي في عهد المولى عبد العزيز، وهو الوزير المهدي المنبهي. ومن جهة أخرى، كانت هناك اتفاقيات بين المغرب وبريطانيا، تمكن البريطانيون بفضلها من جمع معلومات كثيرة عن الجيش السلطاني في مراحل تاريخية ساخنة.
الأوروبيون خافوا من «المفاجآت» العسكرية المغربية
اهتمام الأجانب بالجيش المغربي وعتاده وتاريخه ومكوناته، جعل مؤرخين مغاربة يهتمون بالتوثيق لتاريخه. وأشهر من وثق لتاريخ الجيش المغربي، المؤرخ عبد الرحمن بن زيدان الذي كان يحظى برعاية خاصة من الملك الراحل محمد الخامس.
وبما أن بن زيدان فتح عينيه في مكناس، فقد عاين آثار جيش السلطان المولى إسماعيل الذي أسس واحدا من أشهر الجيوش المغربية وأقواها على مر التاريخ، وهو الجيش البخاري. واطلع هذا المؤرخ على وثائق ومراسلات من أرشيف القصر الملكي كلها تؤكد كيف أن الأجانب، وليس البريطانيين وحدهم، كانوا يتخفون من قوة الجيش المغربي أو انبعاثه من جديد في فترات ضعف الدولة، وهو ما يفسر رغبة دول مثل بريطانيا وفرنسا، في عز قوتهما العسكرية، إبرام اتفاقيات مع المغرب.
يقول بن زيدان في مرجعه الذي فصل فيه الحياة العسكرية وعلاقتها بتاريخ البلاط الملكي، «العز والصولة»، ما يلي:
«كان من جملة ما توجهت اليه عناية ملوكنا العلويين إنشاء مصانع بمختلف الإيالة المغربية لإنتاج البارود لتموين الجيش، وإمداده بما يحتاج منه للدفاع عن البلاد وتوطيد الأمن بأطرافها، وقد كانت العناية بهذا الإنتاج بالغة إلى أقصى حدها، إلى درجة أن كل مدينة من المدن كانت تتوفر على معامل ومصانع تخرج مقادير كبيرة من البارود وما زالت أماكنها في هذه المدن قائمة تعرف بدار البارود، ففي فاس ومكناس والرباط وطنجة ورودانة وغيرها بنايات بقيت إلى الآن تحمل هذا الاسم وتذكر بعظمة منشئها الغطاريف. كما كان بمراكش الحمراء معمل هائل ما زالت أطلاله ماثلة للعيان بساحة اجدال، ويعتبر هذا المعمل من أشهر المعامل قدما وأكثرها إنتاجا وصنعا، ويبلغ الحاذقون بصنع هذه المادة اللازمة لكل أمة تريد الدفاع عن كيانها، أنهم كانوا يتقنون في درجات صنعه واستعماله .
ويظهر أن ملوكنا كانوا يقصدون بإنشاء هذه المصانع المختلفة جعل المملكة في صف الأمم المتحضرة التي يبدو مظهر رقيها من خلال وفرة مصانعها وعنوان تقدمها، باكتفائها عن سواها وبما تصنعه أيدي أبنائها …
ولا يعني هذا أن المغرب كان يصنع البارود وحده، ولكن كان إلى جانب دار البارود مصنع السلاح وكل الوثائق الموجودة، وحسب أطوار التاريخ المغربي فإننا نجد أن المغرب كان يستخدم :
– السيوف
– والحراب
– والبنادق
– والمسدسات
-والآلات المضادة للمدافع
– والألغام.
أما المدافع فقد عرفها المغرب لأول مرة على عهد المرينيين، وقد عرفنا آخر مدرسة للصناعات الحديثة الدقيقة أقيمت بالمغرب على أحدث طراز على عهد السلطان سيدي محمد ين عبد الله، الذي بعث بمعلمي القنابل إلى تطوان، فكان أحدهم يفرغ «البومبة» من قنطار. كما بعث معلم الرمي إلى رباط الفتح فكان يعلم بها الطبجية من أهل سلا والرباط، وتخرج على يديه نجباء، ومن ثم توارث أهل العدوتين هذه الصناعة مدة، ثم رد أصحاب المدافع إلى فاس فأقاموا بها إلى أن توفوا».
اهتمام الأجانب بكل هذه الحقائق التي وثق لها بن زيدان، بدا واضحا في آراء كُتاب ومؤرخين أجانب ومستشرقين، كلهم تحدثوا عن تنوع الجيش المغربي والأدوار التاريخية التي لعبها منذ قرون خلت، خصوصا وأن العثمانيين فشلوا خلال عهد السعديين في احتلال المغرب، عندما وسعوا الإمبراطورية العثمانية لتشمل جل الدول الإسلامية، وهو ما أكسب الجيش المغربي شهرة واسعة جدا.
القايد ماكلين والمهدي المنبهي.. كاتما أسرار جيش تفكك بطريقة مأساوية
عندما توفي السلطان المولى الحسن الأول سنة 1894 ترك جيشا مغربيا نظاميا، استفاد من تكوين على يد الإنجليز، وأسلحة وذخيرة تصنع في معمل مدينة فاس، الذي كان يشرف عليه إيطاليون وبعدهم مهندسون وتقنيون من جنسيات أخرى.
لكن ما وقع أن توالي سنوات الجفاف، والصعوبات الاقتصادية التي عاشها المغرب بعد سنة 1900، والعصيان الذي وقع في عدد من قبائل المغرب التي رفضت أداء الضرائب، كلها عوامل جعلت عملية صرف أجور الجيش صعبة للغاية. وهو ما جعل الجيش يتعرض لعمليات تفكك.
لكن أقوى ضربة تعرض لها جيش وزير الحرب المغربي المهدي المنبهي، انهزام بعض وحداته ضد قوات الثائر بوحمارة. وهو ما جعل الكثيرين يغادرون الجيش.
ورغم سطوة المهدي المنبهي الذي كان صديقا للسلطان المولى عبد العزيز، إلا أن فشله في إخماد ثورة بوحمارة، عجل برحيله عن الحياة السياسية ليصبح لاجئا في طنجة الدولية، ويترك القايد ماكلين، وهو أسكتلندي الجنسية، يمسك بزمام الأمور ويعيد هيكلة وحدات الجيش، والحرس الملكي على وجه الخصوص.
فمن يكون هذا الأسكتلندي الذي وثق فيه المغاربة، لكي يعيد هيكلة القوات العسكرية في فاس؟
يقول عنه الصحافي البريطاني لاورنس هاريس، والذي وثق لهذه الشخصية ودورها في الحياة العسكرية المغربية: «وظهر في خدمة السلطان رجل إنجليزي ينادونه «ماكلين». رجل شجاع جدا وعلمه قليل. كان صديقا لي، لأنه كان يحب المغاربة وكان يلبس اللباس المغربي.
عندما تعب المولى عبد العزيز من محاولات إلقاء القبض على رجل، والتي تشبه محاولة إمساك الظل في مواجهة الشمس، أمر «ماكلين»، الذي كان مدربا للجيش المخزني، أن يكتب إليّ ويعقد معي لقاء».
«السير ماكلين»، الذي يبدو أن الريسوني كان يعرف أمورا قليلة فقط عن حياته، كان وقتها أكثر شخصية جذابة في المغرب.
فهمتُ من أحد الذين اشتغلوا في المفوضية البريطانية في طنجة لسنوات، أن «السير ماكلين» بدأ حياته العسكرية عنصرا في فوج للمشاة في جبل طارق. ومع الأجرة القليلة التي كان يتقاضاها مقابل مهمة كانت مستحيلة، قدم استقالته وعبر إلى المغرب على أمل أن ينجح في بناء مسار مهني ناجح. ولأنه لم يجد ما يقوم به في المناطق المطلة على البحر، قرر الذهاب إلى فاس، وكانت وقتها مدينة غير معروفة تقريبا بالنسبة إلى الأوروبيين ولا تثير اهتمامهم. وبعد عراقيل كثيرة، نجح أخيرا في الفوز بموعد للمثول أمام السلطان، وعبر عن انتقادات لاذعة لوضعية الجيش المغربي وأكد للسلطان أنه يستطيع تحويله إلى قوة نموذجية وجيش منضبط، إن مُنح له منصب الإشراف على التكوين والتدريب. أعجب السلطان بالشاب الأسكتلندي ومنحه فرصة تنفيذ وعده».
وحسب الروايات التاريخية المتوفرة، فإن وزير الحرب المغربي الذي سبق فترة وجود ماكلين في المغرب، كان هو الوزير الگباص، وهو سليل أسرة مخزنية مغربية عريقة في خدمة المخزن. لكن الرصيد التاريخي لعائلته لم يفلح في جعله يبقى على رأس الجيش المغربي في فترة حرجة جدا ما بعد 1894. وهكذا عندما خلفه الوزير المهدي المنبهي على رأس الجيش المغربي، فإنه هو الآخر لم ينجح في الحفاظ على منصبه ليتنحى سريعا. أما القايد ماكلين فقد بقي في دواليب السلطة فترة أطول، والسبب أنه كان يخدم مصالح بريطانيا وليس مصالح المغرب. والدليل أنه استفاد من تقاعد مريح مباشرة بعد إعفائه على يد المولى عبد الحفيظ، وانتقل إلى طنجة، مبتعدا عن مشاكل السياسة بعد توقيع معاهدة الحماية سنة 1912، ليعيش فيها إلى أن مات، ودفن فيها أيضا، لتبقى سيرته أكبر دليل على أن البريطانيين كانوا مهتمين جدا بتفاصيل الحياة العسكرية المغربية وأسرارها.
اتهم ماكلين بالجاسوسية، لكن معطيات تاريخية في الأرشيف البريطاني تكشف أنه كان صديقا للمغرب، وتولى الترجمة لوفود مغربية في فترة حكم الملك البريطاني إدوارد السابع، لكنه كان في كل مرة يعود أدراجه إلى المغرب، ولو كان جاسوسا فعلا لعاد إلى بلاده بعد انتهاء مهمته المفترضة.