قصة أبو الهول والأهرامات
بقلم: خالص جلبي
منذ القديم ذهب (أبو الهول) مثلا في الصمت، فإذا ضرب المثل في الصمت قيل: كصمت أبي الهول (SPHINX)؛ ورأيته للمرة الأولى أثناء زيارتي إلى مصر عام 1980 م، وهو باسط ذراعيه بالوصيد، في جسد أسد ورأس إنسان. كان لا يكف عن التحديق في وجوه كل الناس، ولكنه لا ينطق بشيء، فهو يسخر من الزمن، فكل الناس تخاف من الزمن، أما أبو الهول والأهرامات الشامخة بأشد من الجبال الراسيات خلفه فهي تتحدى الزمن والتوقعات، إنها ستصمد إلى خمسة ملايين من السنين، فهي للخلود كما نرى!
وعندما وقفت أمام جبل الحجارة التي تزن سبعة ملايين طن، التي تشكل أهرام خوفو (CHEOPS) الذي يرتفع إلى علو ناطحة سحاب (146.6 مترا)، تذكرت قول نابليون بونابرت عندما دخل مصر عام 1798م: «أيها الجنود إن أربعين قرنا من الزمن تطل عليكم».
حين رأيته تدفقت لدي مجموعة من الأحاسيس الغامضة، التي تنتاب كل متأمل لهذا «النصب الرهيب» من الحجارة التي عجز الناس عن إزالتها، فضلا عن بنائها، على ما ذكره العلامة ابن خلدون في مقدمته. وهي تؤرخ لحضارة عظيمة في مطلع التاريخ، ولعلها الأطول فقد صمدت ثلاثة آلاف من السنين، أبدعت فبزغت شمسها وارتفعت، وكانت أمريكا العهد القديم، على ما ذكر المؤرخ الأمريكي (ويل ديورانت) في كتابه «قصة الحضارة». وفي النهاية دالت دولتها فشاخت، وإلى الأرض استسلمت، وأصابها القصور في الطاقة الإبداعية فانحطت، ثم أصابها المرض فتعفنت شجرتها، ثم استسلمت ليد الموت فطواها الزمن، ودرستها الأيام وأكلها البلى كما في تعبير الفيلسوف، أوسفالد شبنغلر.
والقرآن حينما يحدثنا عن موسى عليه السلام، فهو ينقلنا إلى منظر فريد، في مواجهة أعظم حضارة في ذلك الوقت. وعندما قابل موسى فرعون، لم يطلب سوى إطلاق بني إسرائيل من العبودية، بعد أن نفض يده من حضارة تودع الحياة، وتتخللها شيخوخة لا ترحم، ويتسرب إليها مرض الموت الذي لا يرد. وبنو إسرائيل الذين سيمضي بهم لن يكونوا أفضل حالا، فهو سيضطر إلى دفنهم في الصحراء، حتى ينقرض جيل العبودية، ويخرج جيل جديد في هواء منعش، لا يعرف إلا الشمس والحرية في فضاء الصحراء الشاسع. وهو مغزى التيه لمدة أربعين سنة، فهو الوقت الكافي لفناء جيل وخروج جيل جديد، وهو ما انتبه إليه ابن خلدون في مقدمته، حينما تحدث عن أعمار الدول وحددها في ثلاثة أجيال، بـ120 سنة بين الفتوة والنضج والترف.
كما أن الفترة التي عاشها يوسف عليه السلام يتكرر فيها لفظ الملك وليس لفظ (فرعون)، كما جاء في قصة المنام «وقال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف»، مما يوحي باحتمال معاصرته لفترة حكم (الهكسوس)، الغزاة الآسيويين الذين حكموا مصر في منتصف الألف الثانية قبل الميلاد. وهذا قد يدفع إلى الفهم أيضا خلفية العذاب الذي سلط على بني إسرائيل، حينما رأى فيهم الفراعنة بعد طردهم الهكسوس من مصر، الطابور الخامس الذين تحالفوا مع الأعداء الخارجيين، وتكاثروا في ظلهم.
ويمضي التاريخ فيُغيب الأمم، ويمسح الشعوب، ويزيل الدول، ويهدم الحضارات، ويفترس الإمبراطوريات العتيدة وكأنها لم تكن، ويطوي محاسن الوجوه التي تمضي إلى القبور ليأكلها التراب والدود! كما أنشد الشاعر أبو البقاء الرندي وهو يرثي زوال الحضارة الإسلامية في الأندلس:
هي الأمور كما شاهــــدتها دول من ســـــــره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحــــــــد ولا يدوم على حال لها شــــــان
أين الملوك ذوو التيجان من يمن وأين منهم أكاليل وتيــــــجان
وأين ما شاده شـــــــــداد في إرم وأين عاد وعدنان وقحطــــان
أتى على الكل أمر لا مـــــــرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا.
أسئلة محيرة حول الحضارة المصرية وبناء الأهرامات وسر التحنيط:
مع مواجهة الأهرام الشامخ تتفجر في العقل مجموعة من الأسئلة، عن هذا الصرح ما شأنه؟ لماذا بني؟ ومتى وفي أي عصر؟ وكيف بني؟ وما هي الوسائل التقنية التي استخدمت في رفع هذه الأطنان الثقيلة من الحجارة، التي تتراوح فيها الأوزان من الصغيرة ذات 2,5 طن، إلى الكبيرة ذات الأربعين طنا، التي أغلقت مدخل مقبرة فرعون؟ في ظل انعدام أدوات بكرات الرفع ومثاقب أو مطارق الحديد، أو علم المعادن، أو حتى موازين الماء والزئبق لتسوية السطوح، فكل العمل قريب العهد من العصر الحجري الحديث، يعتمد الخشب والحجر واليد والفكر.
ما هو السر الهندسي البديع خلف بناء محكم من هذا النوع، في ظل تدفق المعلومات الأركيولوجية الجديدة، عن استواء قاعدة الهرم بما لا يختلف عن خط الأفق بـ16 مليمترا (قرابة 1,5 سم؟)، وعن التقاء حواف الأضلاع في زاوية قائمة محكمة (90 درجة) لا ينحرف فيها الضلع في مسيره، أكثر من ثانيتين من الستين، من درجة واحدة من الدائرة ذات الـ360 درجة، والتي لا تنافسها في هذه الدقة من الاستقامة إلا أشعة الليزر.