شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

قصة آخر رمضان عاشه المغرب تحت الحماية

تخللته أحداث دامية ونُسيت أجواؤه الساخنة

في مساء 22 أبريل 1955، أعلن رسميا عن رؤية الهلال، وأن أول أيام رمضان سوف يكون يوم الثالث والعشرين من الشهر.

وما بين أبريل وماي، عاش المغرب على إيقاع أحداث صنعت «منعطفا» للأحداث اللاحقة التي عرفتها البلاد، والتي انتهت ببداية ترتيب انسحاب فرنسا تدريجيا من المغرب، وإقرار عودة الملك الراحل محمد الخامس إلى العرش.

سالت دماء كثيرة للوصول إلى هذه النتيجة، وعاش المغاربة على إيقاع رمضان استثنائي، استحق فعلا أن يدخل التاريخ، رغم أن تفاصيله نُسيت وتلاشت في وثائق الأرشيف.

يونس جنوحي:

 

الفرنسيون حاولوا تأطير المغاربة دينيا في رمضان

من بين الأمور المنسية التي لم تسلط عليها أضواء البحث والتوثيق، ما يتعلق بطريقة تعامل الإدارة الفرنسية مع المغاربة في رمضان.

فمنذ مجيء المقيم العام ليوطي بطريقة رسمية إلى المغرب ومزاولته لمهامه وصلاحياته الإدارية منذ 1912، وهو مسكون بفكرة هيكلة المغرب من جديد. ولم يكن إقرار قانون تنظيم علاقة المغاربة بالفرنسيين خلال شهر رمضان، والذي عُرف بـ«قانون الإفطار العلني»، سوى بداية لمحاولة فرنسا صناعة أجواء رمضانية على المقاس.

الفرنسيون كانوا هم المعنيين الأوائل، بدرجة أولى، بهذا القانون الذي ينظم تناول الطعام في الأماكن العامة خلال شهر رمضان، حرصا من الإدارة الفرنسية على سلامتهم الجسدية، وضمانا لئلا يطالهم أي اعتداء على يد المسلمين، في حال استفزاز مشاعرهم بتناول الطعام، أو شرب الماء، أو التدخين في الشارع العام في نهار رمضان.

ومع توالي السنوات، أصبحت الإدارة الفرنسية تفكر في إعادة تشكيل معالم الحياة العامة بالمغرب، ومنها توجيه العادات العامة في رمضان عند المغاربة.

وهذا ما جعل فرنسا، ممثلة في الإذاعة، تقرر بث برامج موجهة إلى المغاربة المسلمين في بداية خمسينيات القرن الماضي، لنشر خطاب التسامح الديني، ومناقشة ممارسات المسلمين خلال شهر الصيام، وضرورة تعايشهم مع وجود الفرنسيين بينهم.

لكن رمضان لسنة 1955، والذي انطلق يوم 23 أبريل، كان آخر رمضان يقضيه المغاربة تحت وصاية فرنسا. وظهر جليا أن مجهودات فرنسا كلها قد تبخرت، بحكم أن المغاربة لم يعيروا أي اهتمام للخطاب الرسمي الذي كان يبثه الراديو، وواصلوا تأييد العمليات الفدائية التي أودت بحياة مئات الفرنسيين، حتى أن رمضان في تلك السنة كان حافلا بأحداث، أهمها إحراق محلات المعمرين الفرنسيين، وإضرام النار في واجهاتها الزجاجية، وقطع أسلاك الهاتف على سكان الضيعات الفلاحية في نواحي الدار البيضاء، مراكش، فاس ومكناس، لفرض نوع من العزلة عليهم.

هذه العمليات جعلت آخر رمضان في عهد الحماية الفرنسية للمغرب يصبح تاريخيا، خصوصا وأن مباشرة بعد رمضان، وما إن ألقى شهر غشت بظلاله على المغرب، حتى أيقن الفرنسيون أنه لا بد من التفاوض مع المغرب لترتيب خطوات ومراحل رحيل فرنسا عن المملكة.

 

الأمريكيون أرادوا تصوير يوميات محمد الخامس خلال الصيام

لولا أن الصحافية الأمريكية التي عاشت في المغرب ما بين سنتي 1950 و1953، وعادت إليه سنة 1955 لتهنئ العائلة الملكية بالعودة من المنفى، لم تتحدث عن هذه القصة، لما عُرفت تفاصيلها نهائيا.

تعود تفاصيل الواقعة إلى آخر رمضان قضاه الملك الراحل محمد الخامس في المغرب، قبل نفيه في غشت 1953.

كانت هناك صحافية أمريكية تعمل في المغرب اسمها «إلينور كينيدي»، حيث تشرف على تنشيط برامج باللغة الإنجليزية في إذاعة «راديو ماروك» ومقرها في مدينة الرباط، والتابعة للإدارة الفرنسية.

جاء زوج هذه الصحافية إلى المغرب بنية تصوير شريط فيديو بالألوان للملك الراحل محمد الخامس، وهو يُحيي احتفالات رمضانية داخل القصر الملكي، وجلب معه كاميرا احترافية لهذه الغاية.

سبق للصحافية الأمريكية «مارفين هاو» أن خصت «الأخبار» بحوار مطول، تناولت فيه هذه الواقعة، وقالت فيه إن السيد كينيدي قد جاء إلى المغرب بناء على ما سمعه من حكايات زوجته عن احتفالات المغاربة بالمناسبات الدينية، وأراد تصوير أجواء ما كان يعرف وقتها بـ«الهدية»، التي كانت تقام لأربعة أيام متتالية احتفالا برمضان. وكان ذلك آخر رمضان قضاه الملك الراحل محمد الخامس مع أسرته في المغرب، قبل المنفى.

وبينما كان السيد كينيدي يستعد لدراسة مكان الاحتفال، وتحديد الأماكن التي سوف يقف بالكاميرا فيها لالتقاط مقاطع فيديو لطقوس «الهدية»، بالتنسيق مع موظفين في القصر الملكي، لكي يكون قريبا جدا من منصة الملك الراحل محمد الخامس، فإذا بـ«مارفين» تنقل له خبر اعتزام الصدر الأعظم تلاوة خطاب قصير، يخبر فيه المغاربة أن الملك الراحل لن يُحيي تلك الاحتفالات في الرباط، لأسباب صحية، وهكذا ألغي الاحتفال.

كان السيد كينيدي قد أُخْبِرَ من طرف الجميع بأنه يتعين عليه أن يكون صبورا، لأن احتفالات أخرى قادمة في الطريق، وأنه سوف يصور أجواء «الهدية» على الطقوس المخزنية في مناسبات أخرى بدون شك، سيما وأن إقامته في المغرب كانت مطولة، لأن زوجته كانت تعمل مع «مارفين» في «راديو ماروك».

لكن الخيبة التي أحس بها كانت كبيرة وهو يطالع خبر نفي الأسرة الملكية، لأنه أضاع فرصة تصوير تلك الطقوس الرمضانية، ولم يكن لديه استشراف مستقبلي عن المدة التي سوف تقضيها الأسرة الملكية في المنفى.

كان السيد كينيدي ينوي تصوير أفلام وثائقية بالألوان لعدد من الاحتفالات الدينية، لكن خيبته كانت كبيرة، بعد دخول المغرب في أجواء المنفى، لأن المغاربة كما هو معروف، امتنعوا عن ذبح الأضاحي بوجود بن عرفة في القصر الملكي، احتجاجا على نفي السلطان محمد بن يوسف. كما أن الوطنيين لعبوا دورا كبيرا في تجييش الناس للامتناع عن إحياء الاحتفالات.

إذا كان آخر رمضان للملك الراحل محمد الخامس قبل المنفى، قد كان فرصة نادرة، وضائعة أيضا، لتوثيق الاحتفالات الدينية التي حرص على إحيائها، فكيف إذن قضى المغاربة آخر رمضان على إيقاع الحماية ومشارف الاستقلال؟

 

+++++++++++++++++

 

آخر المحاكمات.. قضية سكة القطار بدأت قبل رمضان واستمرت لأشهر

في يوم 24 مارس 1954، الذي كان يصادف يوم الأربعاء، انطلقت جلسات المحاكمة التي عرفت وقتها بـ«محاكمة القنيطرة» مع تمام الساعة الثانية والنصف زوالا.

ورغم أن اسم المحاكمة ارتبط بالقنيطرة، إلا أن جلساتها في الحقيقة عُقدت في المحكمة العسكرية بالدار البيضاء.

مَثُلَ أمام المحكمة ثمانية متهمين مغاربة، والتهمة كانت تخريب وإتلاف سكة الحديد للقطار السريع الرابط بين المغرب والجزائر، حيث شهدت السكة قرب ميناء ليوطي – مدينة القنيطرة لاحقا- أطوار محاولة إتلاف السكة.

والحقيقة أنها لم تكن المرة الوحيدة التي خطط فيها المقاومون المغاربة للأمر، حيث سبق لخلية في الدار البيضاء أن حاولت وضع قنبلة في القطار نفسه، لكن الأمنيين الفرنسيين أجهضوا العملية قبل تنفيذها، وتتحدث مصادر من أسرة المقاومة عن عمليات أخرى من النوع ذاته، لكن لم يُكتب لها أن تُنفذ.

بالعودة إلى جلسات المحاكمة التي أشرف عليها عسكريون فرنسيون، بدءا من القاضي «كارديل» والنائب العام الذي كان اسمه «مورجون» وكان برتبة «كومندار»، بالإضافة إلى كومندار آخر تكلف بمهمة الترجمة عن المتهمين المغاربة الثمانية.

العملية التي توبع بسببها المتهمون تمت في شهر غشت من سنة 1953، وقُتل على إثرها مواطنان فرنسيان وأصيب عشرة جرحى، بينهم مغاربة، فُتح فيها تحقيق موسع أدان المتهمين منذ استنطاقهم عند الأمن الفرنسي، وهكذا فقد كانت الجلسات التي تابعها الرأي العام في المغرب صورية.

أحد المغاربة كان اسمه الحسين بن اليزيد، ولم يكن عمره وقتها يتجاوز 23 سنة فقط، واتهم بتقديم يد المساعدة للمنفذين، وذلك بتمكينهم من مفك للبراغي لإتلاف السكة، بالإضافة إلى شخص آخر اسمه المكي، كان موظفا في القسم الفني بالسكة الحديدية، وتوبع بتهمة مد المنفذين بمعلومات تقنية عن السكة الحديدية.

المثير في هذه المحاكمة أنها استدعت للشهادة أزيد من 37 شاهدا، لإغراق المتهمين الذين تضاربت أقوالهم بين محاضر الاستماع التفصيلي إليهم ومحاضر البوليس الفرنسي التي قالوا إنها انتزعت منهم تحت الإكراه واعترفوا فيها جملة وتفصيلا بكل ما نُسب إليهم بشأن الهجوم على السكة الحديدية، والسعي إلى إتلافها وإخراج القطار القادم من الدار البيضاء عن سكته.

ورغم أن بعض الشهود أكدوا أن موظف السكة المغربي كان برفقتهم ليلة تنفيذ العملية، إلا أن ذلك لم يشكل فرقا لدى النائب العام الذي سعى إلى إغراق كل المتهمين مهما كانت علاقتهم بالحادث.

استمرت الجلسات خلال شهر رمضان الذي تزامن سنة 1954 مع الأسبوع الأخير من شهر أبريل، وامتد إلى الأسبوع الأخير من شهر ماي.

وكان رمضان في تلك السنة آخر شهر صيام يشهد هذه التطورات، إذ إن شهر رمضان الذي تلاه في سنة 1955، عاش خلاله المغاربة على إيقاع عمليات المقاومة التي بلغت فعلا ذروتها، لكنه لم يشهد فصول محاكمات «تاريخية» مثل محاكمة 1954.

النائب العام رفض منح المتهمين المتابعة في حالة سراح، رغم حلول شهر رمضان، وعدم كفاية أدلة إدانة بعضهم، ولم تفلح مرافعات المحامين في هذا الموضوع في إقناعه.

ورغم أن الجلسات عُلقت وأجل الحكم إلى أجل غير مُسمى، مع بداية رمضان، إلا أن القاضي رفض منح السراح للمتهمين وبقوا رهن الاعتقال إلى حين استئناف الجلسات من جديد يوم الثلاثاء 7 يوليوز 1954، والتي أعلن فيها براءة جميع المتهمين، بشكل مفاجئ للجميع، رغم أن الجلسات الأولى التي طالت خلال شهر مارس خصوصا، تضمنت اعترافات في المحاضر وإفادات شهود وضعت رقاب المتهمين على المقصلة.

وهكذا كانت هذه المحاكمة واحدة من أغرب محطات تاريخ المقاومة المغربية، واختلط فيها السياسي بالعسكري. حتى أن جريدة «السعادة» التي نشرت تفاصيل الجلسات في أعدادها، لم يفتها أن تُهنئ المتهمين على براءتهم، والعدالة الفرنسية أيضا.

 

صيام على إيقاع تفجير الشاحنات والحافلات..

بناء على محاضر البوليس الفرنسي لشهري أبريل وماي 1955، وهي الفترة التي تزامنت مع شهر رمضان من تلك السنة، فإن سلسلة من العمليات التفجيرية المقلقة تناسلت في عدد من المدن المغربية.

هذه المحاضر من أرشيف البوليس الفرنسي، جاء فيها أن بعض الفدائيين استعملوا قنابل صغيرة جدا وبدائية، تسببت في إضرام النار أسفل شاحنات مملوكة لفرنسيين وتجار مغاربة اتهموا بصداقة الفرنسيين، وهو ما أدى إلى تفجير تلك الشاحنات والحافلات. وأغلب هذه العمليات تمت في الدار البيضاء.

كان الفدائيون، مع نهاية شهر مارس وبداية شهر أبريل، قد فطنوا إلى أن تفجير الحافلات أو الشاحنات يخلف أضرارا كبيرة. وعلى إثر تكاثر هذا النوع من العمليات في أكثر من مدينة، فإن رجال البوليس الفرنسي تلقوا تعليمات باعتقال كل المغاربة الذين كانوا يعملون في مجال تصليح الشاحنات، وهي المهنة التي تعلموها من ميكانيكيين فرنسيين كانوا يفتحون «كاراجات» في المغرب. بالإضافة إلى عائلات يهودية، سيما في مدينة آسفي، كانت تتوفر على أساطيل كاملة من الشاحنات، وكثيرا ما كان يستهدفها مقاومون ينتمون إلى تنظيمات سرية من مختلف المدن. حتى أن تاجرا يهوديا من أثرياء آسفي ترك كل شيء خلفه مع صيف سنة 1955، وهاجر رفقة أسرته إلى كندا، بعد أن أصبح عاجزا عن إصلاح حافلات في ملكيته، تعرضت لرشق كثيف بالحجارة في طريق مراكش، وفتحت الشرطة الفرنسية تحقيقا في الموضوع واعتقلت أبناء دوار بكامله، للوصول إلى منفذي الهجوم، ورغم أن التحقيقات استمرت لشهر كامل، إلا أن البوليس لم يتوصل لهوية المنفذين، ورغم التعذيب الذي تعرض له أبناء الدوار، إلا أن الأمنيين لم يحصلوا منهم على الأجوبة التي يريدونها. وفي الأخير اقتنع صاحب الشاحنات أن الفاعلين لا يمكن أن يكونوا من شبان الدوار، وتقدم بتنازل للبوليس الفرنسي، ليُطلق سراح الشبان في النهاية.

لقد كان الأمنيون يعرفون جيدا أن المتورطين في الهجوم لم يكونوا من أبناء الدواوير البسطاء، الذين كانوا يمارسون الرعي والأنشطة الفلاحية البسيطة. لأن الهجوم كان مدروسا، وتمت مهاجمة الشاحنة الأولى التي تتقدم الموكب، ثم الأخيرة، لمحاصرة الشاحنات الخمس التي تقع في الوسط، وهكذا فقط حوصرت جميعها في الطريق الجبلية، وفر السائقون تاركين خلفهم شاحنات محملة بالسلع، لم تتعرض لأي نهب، وإنما تم حرقها وإتلافها. وهو ما جعل الأمنيين يتأكدون مبكرا أن الهجوم لم يكن بدافع السرقة، وإنما لأسباب «سياسية» تتعلق بمواقف الوطنيين من بعض الأثرياء المغاربة.

كانت السجون تضيق بنزلائها كل يوم، على اعتبار أنها تستقبل يوميا أفواجا من المعتقلين على خلفية أعمال شغب وتخريب تتعرض لها منشآت الفرنسيين في المدن والقرى أيضا. وهي العمليات التي لم تخفت حدتها نهائيا، بل بالعكس، فقد ازدادت حدة الأحداث مع اقتراب الصيف.

في شهر أبريل، تمت تصفية عدد من الفرنسيين، والملاحظ في محاضر الشرطة لتلك الفترة أن حدة الانفجارات قد تراجعت بشكل كبير، مقارنة مع بداية السنة، السبب راجع إلى التضييق الذي تعرض له عدد من الوطنيين والفدائيين من أعضاء التنظيمات السرية، خصوصا منهم الذين يُتقنون صنع القنابل بطرق بدائية، ويكون مفعولها قويا.

 

 

مقتل الشرطي «جانو».. خبر جعل صباح الصائمين استثنائيا

حسب أرشيف الشرطة الفرنسية في الدار البيضاء، فإن خبر مقتل رجل الأمن «جانو»، كان صاعقة اهتزت لها أركان إدارة الأمن وكافة فروعها في المدن الكبرى للمغرب.

والسبب أن «جانو» كان يعمل في الإدارة المركزية على إطلاق تحقيقات في قضايا و«جرائم» مقتل الرعايا الفرنسيين في المغرب، ويتولى بنفسه التحقيق مع المشتبه في تورطهم في تلك الأحداث. وهو ما جعله محط اهتمام أعضاء الخلايا السرية للمقاومة، خصوصا وأنه حقق مع زملائهم، وحكى الناجون من جلسات الاستنطاق والتحقيق التي كان يقودها بنفسه في عدد من المدن، عن «وحشيته» واستعماله لكل الأساليب لانتزاع الاعترافات.

عملية مقتل الشرطي «جانوا» تزامنت مع آخر رمضان عاشه المغاربة تحت رحمة الحماية الفرنسية، لذلك بقيت قصته مخلدة في أذهان قدماء المقاومة لسنوات طويلة.

كانت آذان الجميع معلقة إلى أجهزة الراديو في صباح ذلك اليوم الكئيب من أيام أبريل سنة 1955، ماذا وقع إذن ذاك الصباح؟

استيقظ ضابط الشرطة الفرنسي، المدعو «جانو» من نومه مذعورا. كانت عقارب الساعة تشير إلى الثانية فجرا، كان صوت أقدام يسمع على السطح. طمأن زوجته التي تملكتها نوبة بكاء هستيري، وأخبرها أنه يتحسس سلاحه الوظيفي الذي يضعه دائما قرب رأسه، تحسبا للحالات الطارئة. كانت تحاول مغادرة غرفتها لتطمئن على رضيعتها في الغرفة المجاورة، لكن زوجها منعها، إيقانا منه أن أصوات المشي فوق السطح باتت تسمع بقوة داخل المنزل.

بطبيعة الحال فإن الأمر هنا لا يتعلق بلص يرغب في سرقة مقتنيات المنزل. وطبيعة عمل جانو تجعله يوميا أمام أعداد متزايدة من الأعداء، ليس في الدار البيضاء وحدها وإنما في المغرب ككل. لأنه كان مكلفا بقيادة عمليات التحقيق مع المعتقلين، الذين ضبطوا متلبسين بالقيام بأعمال تستهدف أمن الرعايا الفرنسيين في المغرب. وكانت صحيفة باريسية قد أعدت «بورتريها» عن إنجازاته الأمنية في المغرب منذ سنة 1953، وحاولت تسويقه كساهر على أمن المعمرين وقاهر الفدائيين.

أخرج جانو سلاحه، كما حكت زوجته في صباح ذلك اليوم، وفتح باب الغرفة ببطء، وأمسك يد شريكة حياته وقادها نحو غرفة الرضيعة ودفعها على عجل إلى الداخل وأغلق الباب خلفها بخفة، لكي يطمئن ألا يصيبها مكروه. واستمر وحيدا في الظلام الذي يقود نحو ممر لحديقة المنزل.

في الوقت الذي كان يهم فيه بفتح باب يقود إلى مساحة تتيح له التأكد من وجود زوار الليل داخل منزله، باغتته ضربة سمعت زوجته وقعها من الغرفة المغلقة، ثم تلاها صوت الرصاص. لم تستطع الصبر لتعرف مصير زوجها، فخرجت راكضة من الغرفة نحو مصدر الصوت، لتجد زوجها صريعا في دمائه.

تقرير الطبيب يقول إنه توفي نتيجة ضربة بآلة حادة في مؤخرة الرأس، أما الرصاصات الخمس التي أطلقت عليه فقد اخترقت جسده بعد ثوان على وفاته، مخلفة ثقوبا في منطقة أسفل البطن والذراعين.

كان يسبح في بركة من الدماء، بينما زوجته تستعطف الرجال الثلاثة الملثمين لكي لا يصيبوها بأذى. وقتها بدأت الصغيرة في الصراخ، فنظرت إليهم الأم باستعطاف، وكأنها تطلب منهم عدم إلحاق أي أذى بطفلتها.

أخبرها أحدهم بفرنسية ركيكة أن مهمتهم تقتصر على تصفية حساب قديم مع زوجها، وأنهم الآن متعادلون معه. انتهت هنا إفادة الزوجة.

ورغم أن مقتل الشرطي «جانو» تسبب في حالة استنفار أمنية كبرى، إلا أن العمليات الفرنسية استمرت، وازدادت حدتها. وحسب شهادات عدد من قدماء المقاومة والمسؤولين الفرنسيين السابقين في المغرب، فإن أحداث أكتوبر1955، والتي قُتل فيها فرنسيون كثر، هي التي جعلت فرنسا تقتنع بأن المواجهة مع المقاومة المغربية لن تؤتي أي ثمار، وهكذا جرى التمهيد للانسحاب التدريجي لفرنسا من المغرب، وبدأ ذلك بعودة الملك الراحل محمد الخامس من المنفى في نونبر من السنة ذاتها، ليتم توقيع وثيقة استقلال المغرب رسميا في مارس 1956، بعد أشهر من التصعيد الذي سقط فيه ضحايا بالجملة.

 

عندما نزل الفرنسيون في مظاهرات طالبوا فيها بتأمين حياتهم في المغرب!

منذ مقتل الشرطي «جانو»، وازدياد حالات الاعتداء على محلات الفرنسيين وإحراق واجهاتها، وإتلاف مخازن السلع بما في ذلك مخازن المواد الغذائية والخمور، أصبح هاجس الفرنسيين الأول في المدن الكبرى، سيما الدار البيضاء والرباط ومراكش، تأمين حياتهم الخاصة.

وحسب ما أشارت إليه بعض محاضر أرشيف البوليس الفرنسي، والمترجم إلى اللغة العربية برعاية من أرشيف مؤسسة المندوبية السامية للمقاومة خلال بداية ثمانينيات القرن الماضي، فإن عددا من المظاهرات قادها مواطنون فرنسيون في المغرب، رفعت شعارات أحرجت الإدارة الفرنسية وطالبت بتوفير الأمن لهم. وبينما كانت هذه المظاهرات تتكرر في شوارع المدن، كان فرنسيون آخرون لم يُؤمنوا بجدوى التظاهر، غادروا منازلهم ومحلاتهم وعادوا إلى فرنسا، قبل أن يتم اغتيالهم.

طيلة شهر ماي من سنة 1955، كان سكان منطقة «الكزا» بالرباط يلوكون حكاية المواطن الفرنسي «مارتن رودسي». كان يملك صيدلية في الحي، وكان أحد وجوه الحي المعروفة. تعرضت الصيدلية التي يملكها لحريق أتى على محتويات المخزن والمحل معا، وهو الحادث الذي كبد «مارتن» خسارة فادحة. كانت سيارات الشرطة السوداء لا تتحرك من أمام منزل المواطن الفرنسي، لتوفير الحماية له، والوصول إلى المتسببين في الحريق. لكن التحقيق الذي فُتح في الموضوع ظل بدون نتيجة، هذا على الأقل ما يقوله المحضر.

في الواقع، كان هذا الصيدلاني الفرنسي واحدا من كبار المدافعين عن السياسة الفرنسية في المغرب، أو هكذا اتهمه بعض أعضاء الخلايا السرية في الدار البيضاء. لقد تقاسم تنظيمان سريان «بطولة» الحريق الذي تسبب في إفلاس مارتن. واحتار المحققون الفرنسيون في الموضوع، لعدم وجود الأدلة. وكان مضحكا أن يكون المعتقلون الذين تم الاحتفاظ بهم لأسابيع على ذمة التحقيق في الموضوع، بعيدون تماما عن الواقعة. فأحد الذين تم عرضهم على مارتن، كان زبونا لديه، قصد صيدليته للحصول على مسكنات لزوجته التي كانت تعاني من آلام مبرحة في البطن، في الليلة نفسها التي وقع فيها الحريق. اشتبه رجال البوليس في كون الزبون المغربي قد جاء لجس نبض صاحب الصيدلية، قبل تنفيذ الهجوم. لكن التحريات التي أطلقها المخبرون السريون الذين يعملون لصالح البوليس الفرنسي، أفادت بأن الرجل ليست له أية صلات بالمقاومين، ولم يكن يعبر عن أي رأي مدافع عن الوطنيين ولا حتى موقف سياسي من قرار نفي الملك محمد الخامس خارج المغرب. كان رجلا رباطيا محافظا، وكان يعمل في بيع الزرابي إلى الأجانب. ولم يكن له أبناء ذكور يُشتبه في انتمائهم إلى الخلايا أو التنظيمات السرية التي تقود العمليات ضد الفرنسيين. كان أبا لثلاث بنات، عاد إليهن بعد ثلاثة أسابيع من التحقيق المضن، أخلي بعدها سبيله، دون أن ينجح الأمنيون في الوصول إلى الفاعلين.

ماذا كان مصير الصيدلي مارتن؟ لا أحد يعلم، فمهمات البوليس تتوقف عند «العجز» عن الوصول إلى الفاعلين. ويتحمل المواطنون الفرنسيون بعد ذلك، مسؤولية اتخاذ قرار بشأن حياتهم المستقبلية. إما أن يستمروا في العيش داخل مغرب تكون حياتهم داخله مهددة، أو يغادروا في اتجاه بلدهم الأم تاركين خلفهم كل شيء. بالنسبة إلى الصيدلاني مارتن، لم يكن قد ترك خلفه شيئا ذا قيمة بعد المغادرة.

في الشهر ذاته، أي في ماي، نزلت مقالات باللغة الفرنسية، تندد بموقف بعض العمال المغاربة في قطاع الأشغال العمومية بفرنسا، وتطالب بترحيلهم إلى المغرب، كرد على «العودة» التي أرغم فرنسيون عليها، بعد حوادث الاعتداء عليهم في المغرب. لقد كان الفرنسيون الذين غادروا المغرب تاركين خلفهم أموالهم وممتلكاتهم ومحلاتهم التجارية، في ارتفاع مع اقتراب سنة 1956 التي سيعلن فيها عن استقلال المغرب.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى