شوف تشوف

الرئيسيةشوف تشوف

قرن إفريقيا

عندما كتبت في 15 أبريل من سنة 2020 أن إفريقيا ستحكم العالم في أفق 2050 سخر البعض من هذا التوقع. إلى أن جاء أنطونيو غوتيريس إلى القمة 36 للاتحاد الإفريقي في أديس أبيبا يوم 18 فبراير الجاري وأعلن أن القرن الواحد والعشرين سيكون قرن إفريقيا.

والحال أنها ليست نبوءة بل حقيقة معززة بالأرقام، فدولة مثل نيجيريا ستصبح بعد 27 سنة ثالث دولة من حيث عدد السكان في العالم بعد الهند والصين متجاوزة الولايات المتحدة الأمريكية.

ومن لم يفهم أن الصراع الحقيقي بين الغرب الأمريكي والنمور الآسيوية ودول أوروبا ذات الماضي الإمبريالي هو صراع حول من سيستولي على القارة الإفريقية فإنه لم يفهم شيئاً بعد.

وكما كانت إفريقيا هي مهد البشرية فإن مستقبل العالم والبشرية يوجد اليوم في إفريقيا، ومن أجل السطو على خيراتها فإن القوى العالمية مستعدة لفعل أي شيء.

لقد كان الملك دائما مؤمنا بأن الأفارقة يجب أن يمسكوا بزمام مصيرهم بأنفسهم وأن يؤسسوا مشروعهم المشترك بدون انتظار تعليمات أو أوامر أو مقترحات الدول الإمبريالية التي تسببت في تفقيرهم وتهجير شعوبهم.

وبما أن فرنسا تعتبر المغرب منافساً شرسا في إفريقيا فهي تحرك كل عتادها الدبلوماسي والإعلامي لكي تعرقل كل مبادرة يقودها المغرب داخل إفريقيا.

وطبعا لدى فرنسا القدرة على تحريك دواليب الآلة الدعائية لبعض خصوم المغرب، خاصة الجزائر، الذين لديهم حسابات وعقد نفسية مع المغرب والذين يحرسون مصالح قوى عالمية في إفريقيا ويشترون الولاءات نيابة عنهم، لكي يقوموا بالحرب الإعلامية ضد المغرب بالوكالة عبر ذبابهم الإلكتروني الذي لم يعد يخفى مصدر طنينه على أحد.

وبالإضافة لعرقلة جهود المغرب داخل القارة يخوض ماكرون حربا أخرى ضد الصين التي عرفت كيف تعزز تواجدها داخل القارة خلال هذه الأزمة بنهجها سياسة “الدبلوماسية الصحية”، وذلك بإرسال الطائرات المحملة بالإعانات الطبية للدول الإفريقية.

ولذلك فعندما يطالب ماكرون بإلغاء قروض الدول الإفريقية فهو يستهدف الصين لكون هذه الأخيرة هي أكبر دائن لإفريقيا، بحيث إن 20 % من إجمالي الديون الخارجية للحكومات الإفريقية مصدرها الصين، أي أكثر من نصف إجمالي الديون السيادية الإفريقية المستحقة للحكومات الأجنبية.

وهكذا إذا تم تمرير قرار إلغاء ديون الدول الإفريقية فإن ذلك سيعتبر ضربة موجعة للصين على مستويين، أولاً على المستوى المالي بحيث ستفقد الصين عائدات مالية مهمة نظير استثمارها في الديون، ثانياً ستفقد أداة ضغط على الدول الإفريقية بعدما سيتم تحريرها من قيود والتزامات القروض، وستظهر أوروبا، وعلى رأسها فرنسا، بمثابة محررين عوض كونهم إمبرياليين مقنعين.

علينا أن نعرف أن الصين ليست مؤسسة خيرية، ولذلك فعندما تقدم المال فبالتأكيد لأنها تنتظر عائدات، فعن كل القروض التي تمنحها للدول الإفريقية تحقق أرباحا من خلال الفوائد.

وبالنسبة للصين، تعد إفريقيا مجالا خصبا لقدرات التمويل الهائلة التي تمتلكها، وبالنسبة للدول الإفريقية يعد المال فرصة نادرة لتلبية احتياجاتها في البنى التحتية الضخمة، وبالتالي تحفيز وخلق النمو والتنمية.

والواقع أن هناك سببين أساسيين وراء أهمية القروض الصينية لإفريقيا، الأول هو أنها تتكيف بشكل خاص مع احتياجات بعض البلدان الإفريقية، على عكس البنك الدولي، وعلى سبيل المثال فإن الصين لا تهتم بالأوضاع السياسية للدول التي تقرضها، فأن يكون النظام نظاماً عسكريا أو دكتاتوريا أو رجعيا فهذا آخر ما يشغل بال بكين.

والأهم في القروض الصينية هو أنها عبارة عن عروض بنكية في عرض واحد، بمعنى عندما تقوم الصين بالإقراض، فإنها لا تقدم المال وحده، ولكنها تأتي أيضا بشركات البناء الخاصة بها، وتأتي بخبرتها الفنية، وفي بعض الحالات، باليد العاملة كذلك والتي تكون في الغالب من المساجين الذين تعرض عليهم الحكومة الصينية قضاء فترة اعتقالهم في العمل بالدول الإفريقية مقابل رواتب مع تقليص مدة محكوميتهم.

والسبب الثاني هو أنه عند استبدال الصين بمُقرض آخر، فإن الأموال المعروضة تكون أقل بكثير، فالجهات المانحة الأخرى ببساطة لا تملك القدرة على الإقراض مثلما تفعل الصين، وبالتالي ترفض خوفا من عدم وفاء مدينيها بتسديد ديونهم.

لكن لماذا ترغب الصين في تحمل هذا الخطر في وقت ترفض فيه دول أخرى ذلك؟

الجواب لديه شق اقتصادي وآخر سياسي.

‪اقتصاديا، ولحماية استثماراتها المالية، فإن الصين تقوم بإجبار المدينين على توقيع ما يسمى بنود الأمان، وهي بوليصة تأمين تنص على أنه في حالة عدم سداد القرض يحدث نوع من المقايضة بدل ذلك، مع إمكانية الاستفادة من البنى التحتية لهذه البلدان المدينة للصين.

أي أنه بدلا من سداد الأموال يكون على المدين الدفع عن طريق المواد الخام التي تتوفر عليها بلاده، وهنا مربط الفرس، فالصين لا حاجة لها باسترداد فوائد قروضها بقدر ما هي مهتمة بالحصول مقابل ديونها على المواد الخام التي تزخر بها بلدان إفريقيا.

ولذلك فخطة الصين هي إغراق الدول الإفريقية بالقروض إلى الحد الذي لا تصبح معه قادرة على الدفع، وبالتالي يتم تفعيل “بند الأمان”، ويتم الدفع بالمواد الخام.

لكن القروض الصينية في إفريقيا يمكن أن يكون لها هدف سياسي آخر أكثر خطورة، فمنذ وصول شي جيمبينغ للسلطة في عام 2012 بدأ عصر الطموحات الصينية الكبرى. إذ إن الهدف من الآن فصاعدا هو إنشاء نظام عالمي جديد تكون فيه الصين القوة الاقتصادية المهيمنة الجديدة. وبكين تعرف أن هذا الطموح لا يمكن تحقيقه بدون وجود إفريقيا إلى جانبها، أو في جيبها على الأرجح.

ولتحقيق هذا الهدف تخرج بكين ورقة الجوكر التي تعرف استعمالها جيدا وهي ورقة “القوة الناعمة”، أو ما يسمى ‪soft power، أي خوض معركة كسب قلوب الأفارقة، وتغيير نظرتهم السلبية للصينيين، وعوض رؤيتهم كغزاة يأتون على الأخضر واليابس سينظرون إليهم كمنقذين وكأشخاص وديعين لا يريدون للأفارقة سوى الخير والنماء، أي ببساطة شديدة إخفاء قبضتها الفولاذية داخل قفاز من حرير.

‪وكما نرى فقد استغلت بكين جائحة كورونا لكي تلمع صورتها جيدا وتعطي عن نفسها صورة البلد الذي يمد يده لإنقاذ الآخرين، رغم أن الفيروس القاتل خرج من عندها.

وخلافا للدول الغربية فالصين ليس لها ماض استعماري في إفريقيا، ولم يسبق لها أن استعمرت أي بلد في العالم، ولذلك فهي تتصرف متحررة من عقدة المستعمر السابق ولا تتردد في استخدام هذه النقطة لحسابها من أجل تطبيق أجندتها السياسية.

‪وها نحن نرى كيف ربحت الصين الحرب العالمية الثالثة ضد أمريكا دون أن تطلق رصاصة واحدة.

لكن الأمور بدأت تتغير، ففي سنة 2017 أنشأت الصين أول قاعدة عسكرية في الخارج في جيبوتي، رغم أن بكين أقسمت في ما مضى أنها لن تتبنى سلوك الأمريكيين في بناء القواعد العسكرية.

لكن في جيبوتي بدأت القواعد العسكرية تخرج من الأرض مثل الفطر، فهناك القاعدة الأمريكية، والقاعدة الفرنسية والقاعدة الإيطالية والقاعدة اليابانية، والقاعدة الهندية قادمة في الطريق.

هكذا نرى كيف تبدأ الأمور في الأول بالقوة الناعمة وبالقروض المالية التي ما تلبث أن تتحول إلى مقايضة بالمواد الأولية، ثم تنتهي القضية بالقواعد العسكرية.

وهذا طبيعي جدا، فمستقبل العالم يتحدد في إفريقيا، ومن لم يفهم هذه الخلاصة فإنه يعيش خارج التاريخ.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى