شوف تشوف

الرئيسية

قرار التوقف عن الدراسة

بالرغم من أن العيش لا يطاق داخل منزل «عمي براهيم»، فإني كنت أصبر على شجارهم وصراخهم ومشاداتهم التي لا تنتهي وسعال أبيهم ورائحة «الشيرا» الخبيثة… كل ذلك يهون في سبيل مشاهدة التلفاز.. إنه بالفعل «صندوق العجب».. أدمنت في مرحلة لاحقة على مشاهدة الأفلام الهندية، لقد فعلت فعلها في عقلي كما كان يخدر الحشيش عقل «الزلطة»..
وفَّرت «حليمة» تقاعدا مريحا لأبيها، فيقضي نهاره في لعب الورق، وليله بجانب زوجته.. لم يعد يتدخل في أي شيء.. يدخن سجائر رديئة جدا قضت بصفة نهائية على جهازه التنفسي وغيرت كثيرا من حباله الصوتية.. زوجته لا همَّ لها إلا شراء الملابس والذهاب عند الخياط و«الفقيه».. نعم.. للكاريان أيضا فقيه مثل «سي بوشتى».. امرأة يغلب عليها القصر.. وجهها حسن.. تغلب عليها البدانة.. تكثر من الضحك وتحب المزاح.. تبدو من خلال مشيتها وملبسها أنها امرأة ثرية..
تتحكم في بناتها وأولادها بشكل غير مفهوم.. لها سلطة غريبة على الجميع.. الكلام كلامها والرأي رأيها.. هي التي يرجع إليها الأمر والنهي في كل شيء.. في بداية استقرارنا في الكاريان، كانت تستقبلني في دارها وتفتح لي جهاز التلفاز.. أما بعد ذلك، فعلاقتي مع هذه الجارة لم تكن على ما يرام..
استمرت هذه المعاملة لبضع سنوات فقط.. تغير حالها معي عندما علمت بأني أصبحت «إخوانيا» كما كانت تقول.. بدأت تهابني لأني اطلعت على أسرارها إلى درجة أنها أصبحت تتفادى الحديث معي.. بقينا على هذا الحال، هي تداهنني وأنا أتجنب بلطف الاقتراب منها..
لقد تعلمت الشيء الكثير من خلال هؤلاء جميعا..
ندمت في ما بعد أني قمت باستغلال هذه الأسرة أبشع استغلال وتصيدت بعض أفرادها ورميت بهم دون رحمة في شباك «الإسلاميين».. وأصبح المساكين أبواقا مأجورة للدعاية السياسية باسم الدين..

تابع أخي «محمد» دراساته القرآنية داخل معهد للتعليم الأصيل بالمدينة.. وذلك كله بفضل حفظه للقرآن الكريم.. امتحنته إدارة المعهد، فوجدته بارعا في استظهار الكتاب.. اختار أن يسكن في مأوى تابع للمعهد، فحفظته رعاية الله من أن يسقط في مستنقع الكاريان الآسن.. قلت له دائما إن الله قطع وعدا على نفسه بحفظ «الذكر» من التبديل والتحريف، وإنه تبعا لذلك «يحفظ» كل من «حفظ» ذلك «الذكر» ولازمه وحاول فهمه.. فحِفْظُ هذا من حِفْظِ ذاك.. استفاد «محمد» من انتقاداتي الحادة له بأنه مجرد آلة للحفظ.. لذلك ركب التحدي هو أيضا والتحق بالتعليم الأصيل لتدارك ما فاته من فهم القرآن والتحصيل العلمي.. لكنه سقط في النهاية في ما هو أسوأ.. وهو أنه تحول إلى آلة رهيبة لحفظ «المتون» و«الحديث النبوي» وأقوال العلماء والفقهاء.. انتقل من «حفظ» إلى «حفظ».. لم يشغِّل عقله قط إلا في الاستظهار والاستدلال بالآيات والحديث والقول المنظوم..
كانت لي معه جولات في عالم الفكر والتفكر في الدين.. اختلفنا تقريبا في كل شيء في ما يتعلق بالتدين.. انتمى إلى المدرسة التقليدية في الفكر الإسلامي.. أما أنا، فكنت أجادل في كل أمر ولا شيء يمكن تقديسه عندي.. يزورنا «محمد» في الكاريان كل ليلة السبت.. ويرجع إلى المعهد في الصباح الباكر من كل يوم اثنين.. بقي على هذا الحال إلى أن أتم دراساته في النحو والبلاغة والمتون وبعض الفقه… لم ينفعه ذلك كله غير أنه ضمن لنفسه معاشا محترما.. استفاد ماديا من القرآن والحديث وحفظ جزءا من التراث المكتوب..
أما والدي، فمرت عليه شهور قاسية لم يجد فيها عملا.. فكيف للفلاح أن يعمل في المدينة، أو بالأخص في الكاريان؟؟ لم تنفعه درايته بأعمال الفلاحة في أن يجد شغلا يناسب مهاراته في زراعة الحبوب وغرس الطماطم وجني التين.. ضاقت الدنيا به وفكر أكثر من مرة في العودة إلى القبيلة.. كانت فكرته أقرب إلى الجنون.. لقد فرط في أرض أجداده، فكان قدره أن يتيه في المدينة سنوات عديدة قبل أن ينتقل إلى جوار ربه.. سمعته أكثر من مرة يدعو على من أوحى إليه في السجن بفكرة الهجرة من البادية.. من حسن حظه أن والدتي احتفظت ببعض النقود من بيع الأرض، فدبَّرت أمورنا عاما بكامله.. لم نحتج فيها إلى شيء.. كانت والدتي امرأة عظيمة، استطاعت أن تتأقلم مع الحياة الجديدة بسرعة فائقة.. كانت عظيمة في البادية.. وأعظم من ذلك في المدينة.. عكس أبي الذي بقي يعيش على إيقاع حياة البدو حتى أخذته المنية.. إن الفلاح لا يستطيع أن يتكيف بسرعة مع حياة التمدن..
يخرج في الصباح ينتظر صلاة الظهر.. وفي المساء ينتظر صلاة العشاء.. ربما الحسنة الوحيدة التي كسبها من حياة التحضر هي مواظبته على الصلوات في المسجد.. فلا صلاة في البادية إلا في البيت.. وهي آخر ما يفكر فيه المرء بعد قضاء يوم متعب في الحقول.. هرم الوالد قبل الأوان.. اهتدى بعد جهد جهيد إلى امتهان بيع الخضر بالكاريان.. كانت فكرة ناجحة.. فهي على الأقل كفتنا هم الرزق في فترة حرجة من حياتنا.. تحسنت أوضاعنا أكثر حينما توسط جارنا «حسن» في تشغيل أختي «زينب» بمعمل للنسيج بفضل علاقاته الواسعة كموظف في البلدية.. استفدنا من هذا «الأخ» كثيرا.. كانت له رغبة قوية في الزواج بأختي، إلا أنه لم يستطع أن يتخلص من أخطبوط «خليلته».. أفسدت كل تقارب بينه وبين «زينب».. هذه الأخيرة تعلقت به ولم تجد حيلة في الظفر به..
في بداية الأمر لم أستطع أن أتكيف مع الجو الجديد للدراسة.. كانت السنة أولى إعدادي جحيما لا يطاق.. كل شيء فيها جديد بالنسبة إلي وعصي على فهمي.. لم أقو على مسايرة هذا المستوى الدراسي، فكان مصيري هو الفشل.. قضيت العام الأول كله في استكشاف العالم الجديد.. فبعدما لم أجد في الكاريان ما يشفي فضولي، بدأت أتسكع في أزقة وشوارع المدينة ومقاهيها وحدائقها.. لم أدع مكانا لم أذهب إليه.. أضف إلى ذلك تعرفي لأول مرة على جهاز التلفاز، وإدماني على متابعة كل شيء يبثه.. أما «عمي براهيم» و«لالة خديجة» ومغامراتهما التي لا تنتهي في الليل، فلم تترك لي فرصة للنوم والإحساس بالراحة والاطمئنان.. تأذيت بشكل كبير من ممارساتهما.. فكانت النتيجة أن رسبت في عامي الأول في الإعدادية..
تلقيت تعنيفا قاسيا من والدتي.. كانت أتعس أيامي.. ووجد الوالد فرصة للنيل مني والتنقيص من مؤهلاتي بعدما أفرطت في البادية في الاعتزاز بنفسي.. خصوصا بعدما حصلت على نقطة جيدة في الشهادة الابتدائية وكنت الأول ونلت جائزة هامة على إثر ذلك.. أثرت حياة الكاريان في نفسيتي.. اتخذت القرار الأصعب في عمري آنذاك، وهو التوقف عن الدراسة لمدة عام بأكمله.. حزنت الوالدة حزنا شديدا حتى اعتقدتُ أنها ستموت كمدا وغيظا.. استعملت معي كل حيل الترغيب والترهيب لأتابع دراستي، فلم تستطع أن تثنيني عن قراري الطائش..
قالت لوالدي يوما بعدما أعياها التوسل:
ـ سأذهب إلى «الفقيه الفلاني» لـ«يكتب» لولدي، فقد مسَّه سحر جارتنا «خديجة»، أو أصابه أحد بالعين..
قاطعها الوالد مستهزئا:
ـ هذا الولد لم تنفع معه «كتابات الفقيه بوشتى»، فكيف يستفيد من فقيهك هذا؟؟.. إنه صعب المراس.. ولن يعود إلى المدرسة إلا برغبة منه.. وقد لا يعود إليها أبدا..
لبست أمي الجلابية والبلغة وتهيَّأت للخروج، ثم التفتت إلى زوجها وقد علت وجهها كل هموم الدنيا:
ـ كتابات «الفقيه» هي مجرد أسباب.. ربي يقول «سبَّبْ أَعبدي وأنا أعاونك».. هذه عين أصابتنا!!
استدار الوالد إلى جهتي وكنت مستلقيا على ظهري:
ـ «بْرِيدَكْ على راسك».. سيأتي يوم تندم فيه على تفريطك في الدراسة.. سينجح كل أصدقائك وستبقى عالة على الناس تائها في دروب الكاريان.. ولن تجد غير جارنا «عبد الرزاق» تبيع معه الحشيش…
لم أعر أي اهتمام لكلامهما.. وقلت في نفسي:
ـ لا بد أن أتوقف عن الدراسة هذا العام لأستريح من تعب الحياة.. بالفعل أتعبني الكاريان، ولم أستطع أن أتعايش مع الحياة المتسارعة والمخيفة فيه.. إني أحتاج إلى فترة نقاهة لمتابعة دراستي على نحو أفضل وأفيد.. كانت هذه هي حيثياتي التافهة لاتخاذ قرار خطير…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى